شهدت الساحة الإعلامية حراكا غير مسبوق، حاولت فيه العديد من القنوات العالمية مجاراة الحراك الاجتماعي الذي تعرفه كثير من البلدان العربية وحتى الغربية، لكن قوة التنافسية والسعي لتحقيق السبق الصحافي، إضافة إلى السياسات التحريرية المتباينة، أشعلت لهيب التدافع الإعلامي، ورسخت مبدأ الطفرة الإعلامية من مجرد آلة ناقلة للخبر إلى أداة لتوظيف الأحداث وخدمة أجندة سياسية وإيديولوجية معينة. أما في هذه البلاد، فقد كان على المغاربة انتظار قيادة "العدالة والتنمية" للمشهد السياسي حتى تتحقق شيء من الطفرة الإيجابية، ولو بنكهة سلبية بالنظر للخلفيات التي تحكمت (وما تزال تتحكم) في المعالجة الإعلامية للكثير من الملفات والقضايا التي تعرض على الرأي العام. لقد تحتم علينا -كمتتبعين- انتظار انقضاء مائة يوم لتقييم الأداء الإعلامي المغربي في تعاطيه مع النتائج الانتخابية وما لحقها من أحداث سياسية، لاسيما عبر القنوات الرئيسية الثلاث (الأولى والثانية و"ميدي1 تيفي") التي بدأ الإقبال يتزايد عليها قصد متابعة التطورات اليومية التي عرفتها الساحة السياسية منذ انتخابات 25 نونبر 2011. في تغطية جمعة "العدالة والتنمية": أولى مؤشرات الارتباك الإعلامي المغربي ظهرت جليا عبر القناة الثانية (2M) مع تيقن اكتساح "العدالة والتنمية" لسبورة النتائج التشريعية؛ حيث قطعت القناة "سهرتها" الخاصة بمتابعة وتحليل نتائج الانتخابات التي طبلت لتغطيتها طيلة أسبوع، ويبدو أن السهرة لم تأت على مقاس المتحكمين في سياسة القناة التحريرية فتحولت إلى مأتم مفاجئ، تطلب تنويم الرأي العام في ساعات متأخرة من الليل بأفلام مغربية ومكسيكية، ولم يبق لمسؤولي البث حينها إلا عرض الرسوم المتحركة لتمضية الوقت في انتظار كوابيس الصباح البازغ !! لكن سرعانما استفاقت القناة على حقيقة الأمر الواقع وحاولت الترقيع بالسماح لمراسلات محجبات بالظهور بعد تهميش في الكواليس دام لسنوات، في انتظار انعقاد اجتماعات على أعلى مستوى لتقرير طريقة التعامل مع الفوز الساحق للعدالة والتنمية ! خطوة تحديد السياسة التحريرية لما بعد الانتخابات، باشرتها باقي القنوات المغربية، لكن من دون أن يرشح عنها شيء، باستثناء إقالة مسؤول إعلامي فرنسي بقناة "ميدي1 تيفي"، لتشبيهه فوز الحزب الإسلامي بصعود اليمين المتطرف في أوروبا؛ لكن سيتضح فيما بعد أن ما راج في قناة طنجة، كان لقناة البيضاء شيء منه، ولقناء الرباط شيء آخر غير الأول والثاني! لكن مع غير قليل من توزيع الأدوار استنادا إلى نفس الأرضية التي تحكمت في إعداد الخطة التحريرية للقناتين. وقبل الخوض في القراءة الإيجابية للتحولات الإعلامية بمعطياتها السلبية، لابد من الوقوف -قليلا- عند الصحافة المكتوبة، خاصة تلك التي تكنّ لحزب المصباح شيئا من العناد (حتى نتجنب مصطلح العداوة)، فإحدى هذه الصحف علقت على فوز "العدالة والتنمية" بعنوان أحمر عريض: "الزلزال!" وكأن الكارثة حلت بالأمة، وتناست أن الزلزال الحقيقي لم يصل المغرب وإنما بلغتنا هزاته الارتدادية فقط؛ وحتى وإن أصابت جزئيا في تشخصيها، فقد أخفت الحقيقة العلمية التي تجعل من الزلزال ظاهرة "طبيعية" (وطبيعية جدا) أسبابها معروفة لكل من يدعي النهج العلمي، خاصة إذا كانوا من الصحفيين!! ذات الجريدة عادت لتقول -بعد 24 ساعة- أن "الأحزاب الحداثية دفعت ثمن ابتعادها عن الشعب". وهو اعتراف تاريخي يحمل الكثير من الدلالات الإيجابية، فهو لا يصرح فقط بكون "العدالة والتنمية" هو الحزب الأقرب إلى الشعب، وإنما يجعل الحداثة كلها في ميزان النقد على اعتبار أن "الحداثة الحافية" غير كافية لإرضاء الناخبين، ولا تؤهل بعض "حداثييها" -حيثما تموقعوا- لتبني هموم المواطنين، ولا ترقى كنظرية إلى مستوى التطلعات الواقعية للشعوب! الحكومة.. استضافة التشكيل والتنصيب: اجتياز صدمة النتائج لم يكن إلا الدرج الأول في درك النزول السلبي للعديد من وسائل الإعلام المغربية (خاصة المكتوبة منها والمرئية)، فتغطية تطورات التدبير الحزبي لمشاورات تشكيل الحكومة تم التعامل معه بكثير من بالونات الاختبار في شكل إشاعات قد تكون هي الأقوى والأكثف منذ عرف المغرب مصطلح "ساس" في قالبه الحديث. ولما اجتيزت مرحلة المشاورات بسلام وتشكلت الحكومة أخيرا، لم تجد بعض القنوات بدا من تغييب مشهد تنصيبها عن الرأي العام إلى حين توضيب أوراقها، فكان نصيبنا على القناة الثانية مسلسل ميكسيكي دارج، أعقبه -بعد أزيد من ساعة- نشرة خاصة لم تجد لها القناة من المحللين والمعلقين إلا صحفيَيها لتروج بضاعة مجزاة، أحدهما يطرح الإشكال الجاهز، والآخر يتلو الجواب الجاهز أيضا !! وهي عادة دأبت عليها القناة في التعامل مع "العدالة والتنمية"، خاصة في التقارير التي كانت تنجز تحت الطلب ! وهي تجربة استحقت أن تنقل على قناة "فرانس24" حين استضافت مراسلتها بالمغرب وأعطتها صفة "محللة"، لكنها لم تحلل شيئا غير قضية "المرأة الواحدة" وأضافت شيئا من الكلام لجعجعة "المناصفة" ! نفس التغييب سجل على قناة "ميدي1 تيفي" لكن في عدة مناسبات كسابقتها، فجاءت الأولى مع حدث التنصيب، إذ استمرت حينها القناة في بث برنامج رياضي، والثانية مع أول مجلس حكومي، لينال من حصة الأخبار سطرين متبوعين بعبارة "سنعود للخبر بعد توصلنا بالصور من العاصمة.."، وكأنها تغطية لحدث في "هايتي" او "مقديشو" ! وفي الثالثة عوّض برنامج مسابقات أسرية حدث تقديم البرنامج الحكومي الذي لقي متابعة واسعة على القناة الأولى، إلى درجة أن بعض المقاهي سجلت اكتظاظا يضاهي ما تعرفه متابعة مباراة في الكلاسيكو الإسباني بين "الريال" و"البارصا"، بل وصل أحيانا حد تقاسم التصفيق مع النواب البرلمانيين. وليست هذه هي المرة الأولى التي تخلف فيها بعض القنوات الرسمية المغربية موعدها مع الأحداث المفصلية في سيرورة التغيير المغربي، فقد تعددت المرات التي كانت فيها هذه القنوات -التي تمول من دافعي الضرائب- خارج التغطية، اللهم إلا عندما توظف للدعاية بشكل مبتذل ومفضوح! وهي ذات الدعاية التي استمرت في تسويقها هذه القنوات قبل التنصيب البرلماني للحكومة، لكن بشيء من التحايل الحذر وبأسلوب يستعمل مبدأ "قلم الرصاص والممحاة"، فلجأت –حينها- بعض "العلامات الإعلامية" إلى اعتماد تصريحات طفيفة لوزراء من "العدالة والتنمية" (على فترات متباعدة) وإتباعه بممحاة في شكل تصريحات مطولة ومتنوعة لأمناء أحزاب المعارضة أو رؤساء فرقها، وأحيانا أصبح مجرد "التصريح" -في ذاته- بمدة "تقرير إخباري" يتجاوز الدقيقتين! والنموذج البارز تكرر على قناتين في نفس اليوم ومن نفس الشخص! وتكلم المتحدث حينها عن موضوع "الخطورة" في كلام ابن كيران ! لكن تناسى أن "الأخطر" يكمن في الإساءة إلى يافطة "الوطنية" و"الحرية" التي يحملها حزبه، والتي يتقاسمها الإعلام معه ولو من حيث المبدأ !! بداية الحكومة.. جاهزية القصف الإعلامي! وما إن استكملت الحكومة تنصيبها البرلماني حتى بدأ الاشتغال الفعلي، لكن بدأ معه اشتغال من نوع آخر على المستوى الإعلامي، وهو ما كان متوقعا بالنظر لمجموعة من المؤشرات[1]، وباعتبار التراكم السلبي المسجل على جبين "الإعلام العمومي" في التعاطي مع العديد من الملفات والقضايا الداخلية، خاصة إذا حضر فيها "الإسلاميون". فقد شكل الإعلام طيلة عقود بوقا شديد الفاعلية في نفخ وتضخيم روتوشات التدبير الحكومي، لدرجة فقد معها عذريته كما مصداقيته! لكنه انقلب في وهلة، وفي ما يشبه إعلان حرب تعجيزية، إلى واجهة لتوظيف مآسي المعوزين والمحرومين، وليتحول الإعلام -بقدرة قادر- إلى وسيلة منحازة لهموم الشعب بضعفائه وأقويائه، وهكذا فجأة! أصبحنا نرى –مثلا- على مختلف القنوات مشكل حطب التدفئة في جبال الأطلس، بعدما حصد البرد عشرات الأرواح دون أن يكون في ذكرها أحد من الشاهدين طيلة سنين، كما وجدت مجاري الصرف الصحي طريقها إلى الشاشة بعدما ظلت لسنوات مطمورة في سراديب النسيان رغم طفحها بما جادت به قريحتها من روائح وأوبئة في كثير من الأحيان، وعادت المناطق النائية من غياهب النفي الإعلامي القسري إلى حضيرة المُشاهد، لتسجل ثقل التهميش الإعلامي قبل السياسي.. وهكذا تعددت المواضيع والأخبار دون أن تنسى أحدا هذه المرة، وحتى أخبار الاحتجاجات الاجتماعية لم تعد نحسا إعلاميا بعد أن قاد حزب "المصباح" الحكومة، بل أصبح كثير من المعطلين في شوارع الرباط يطردون صحفيي بعض القنوات والجرائد لكثرة ترددهم ومكوثهم في تغطية الاحتجاجات! وإذا كانت بعض تنسيقيات المعطلين قد نأت بنفسها عن التوظيف الذي يمارسه الإعلام، فإن هذا الأخير لم ينأَ بنفسه عن التوظيف الذاتي -من حيث يدري أو لا يدري- في شغل وظيفة من يضع العصى في عجلة التدبير الحكومي بشكلها الجديد، خاصة إذا كانت هذه الوظيفة الإعلامية المستجدة تقدم للمتبعين تقارير ركيكة، ويغلب عليها الطابع الانتقائي، سواء من جهة البرامج أو المواضيع المطروحة أو التغطيات والتقارير الإخبارية وحتى الأشخاص الذين تتم استضافتهم أو استقاء التصريحات منهم؛ فأحد البرامج –مثلا- أنتج سنة 2010 لكن لم يجد طريقه للعرض إلا مؤخرا، فقط لأنه يقدم الواقع المعيشي للمواطن دون تجميل؛ أما إحدى القنوات، فأصبحت متخصصة في عرض "انتظارات المواطنين" على عموم المواطنين كل حين، لكن لا خلفية في الصورة غير "بنك المغرب" و"بريد المغرب"، وكأن المواطنة أصبحت رهينة بشارع البرلمان!! فأين باقي المواطنين في الشمال والشرق والجنوب وأين انتظاراتهم؟! إلى ذلك، مازالت إحدى القنوات المعلومة تنفث سمومها القديمة بعطر جديد، فلم يعد يكفها تنويم الشعب بالمسلسلات المدبلجة من شتى بقاع المعمور، لتضيف إلى تاريخها الإعلامي مهمة جديدة وخاصة، تتمثل في تحجيم الاهتمام الشعبي بالسياسة ومتابعة الشأن العام، وكأن قدر الشعب مع هذه القناة هو أن تكرس التخلف الذهني والإعاقة الحضارية لدى مختلف الأجيال وفئات المجتمع ! إيجابية السلبية.. عود على بدء: إن ما حملته وسائل الإعلام (خصوصا المرئية منها) من بصمات سلبية في التعاطي مع الشأن العام في ارتباطه بالتدابير السياسية الراهنة، يكفي لأن نجزم بأن الخط التحريري الجديد للإعلام العمومي يحمل صبغة ظرفية ومؤقتة فيما يطرحه من مواضيع رغم الإيجابيات العديدة التي يقدمها بالنظر للمحصلة. وما هو مطلوب اليوم، هو أن يتحول هذا التعاطي الظرفي المؤقت مع مختلف الأحداث إلى خط مبدئي مستدام وفق استراتيجية إعلامية تضع الصالح العام في قلب اهتماماتها، فنكون حينها أمام "إعلام مواطن" يتمتع بالحرية المسؤولة والمهنية العالية، ويتحلى بالمبدئية والنزاهة والحياد في معالجة المعلومة وتصريفها، ويحظى بالمصداقية التي تؤهله لتبوؤ مكانة "السلطة الرابعة" في مغرب ما بعد 25 نونبر (2011). إن المرحلة الانتقالية التي يعيشها المجتمع في هذه الظرفية، تفرض توجيه الاهتمام لوسائل الإعلام باعتبارها جزءا مهما في صناعة الوعي الجماعي وتوجيه الرأي العام وترسيخ قيم المواطنة والمساواة والكرامة والعدالة...، وهو ما يحتم محاربة "الريع الإعلامي" على قدم المساواة مع مختلف أنواع "الريع" الأخرى، بل وأن يحظى ملف الإعلام بالأولية لما له من تأثير بالغ على باقي العلاقات المجتمعية والقطاعية؛ إذ لم يعد مقبولا في هذا الأوان أن تتنادى الأصوات -عبر مختلف الوسائل الإعلامية- بتنزيل مقتضيات الدستور، في وقت تخرق فيه كثير من هذه الوسائل المبادئ الكبرى للإنسانية قبل أن تخرق أسمى وثيقة قانونية للدولة ! --------------- [1] راجع مقالة: "بعد فوز العدالة والتنمية.. انتظارات وتربصات"، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس": 01/12/2011.