في كل يوم يتنفس صباحه تستوقفني أسئلة عريضة لا أجد لها جوابا من قبيل هل فعلا نحن كأمة لازلنا نملك آليات التمكين الحضاري الذي تحدث عنه القرآن الكريم وهل لا زلنا نمتلك صفة الخيرية تحقيقا لقوله تعالى { كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وقوله { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } وإذا كانت الخيرية تتحقق عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ذلك لن يحدث دون تمكين أي بتعبير علم السياسة امتلاك سلطة القوة غير أن القرآن يتحدث عن التمكين ألقيمي والأخلاقي الذي يحرر الإنسان وليس عن التمكين بامتلاك الرقاب فهذا لن يكون تمكينا ولن يتحقق معه أي إخراج لأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.و لما طرحت سؤال هل لا زلنا نملك مقومات التمكين الحضاري لم يأت عبثا في ظل الانحطاط والتفسخ والانحلال الأخلاقي الذي يزداد جيلا بعد جيل وأصبحنا نتعايش معه بكل جرأة ونقبله بيننا دون تنكر والكيس بيننا يصرخ هنا وهناك يتذمر في المقهى في البيت في الشارع... لكن عاجز عن تقديم الأفضل إذ نعتقد أن التغيير لن تأتي به إلا قوة خارقة لا نعلم مصدرها وهذا الاعتقاد سببه المرض الذي ينخر جسد الذات المسلمة والذي أتلف بوصلتها فلا نحن نملك سلطة المادة وقوة الإبداع الدنيوي الذي ابهرنا به الغرب ولا نحن ممن يملك منهج الإصلاح والتغيير بما ينطبق ومبادئنا وقيمنا الإسلامية وحالنا هذا مناقض تماما لقوله تعالى{كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فهل انطبقت الآية الكريمة على سلفنا دونهم أم أن الخيرية مستمرة إلى غاية تحقيق التمكين ؟. يخبرنا القرآن الكريم دائما بحتمية القضاء والقدر وأن مساحة حرية الإنسان واختياراته خاصة في مسالة العقيدة محدودة جدا في المقابل منح الله تعالى الإنسان كل الإرادة والعزيمة لامتلاك سنن تغيير ما بنفسه بدليل قوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} وبالتالي تظل صفة خيرية الأمة قائمة ومستمرة ما لم تستسلم لعوامل المرض والوهن وواقعنا ألقيمي والأخلاقي يدب فيه المرض ويسري فيه مسرى الدم في شرايين الجسد وحتى نعود لمقام الخيرية الذي تحدث عنه القرآن الكريم علينا تطهير هذا الجسد وتجديد دورته الدموية بإيداعه في مختبر التحليل القرآني الذي هو أعلم بأسباب سقوط ونهوض هذا الجسد.ووصفة القرآن الكريم تقول بضرورة تغيير ما بالنفس.ولكن كما طرح المفكر والأستاذ جودت سعيد سؤال كيف نغير؟ نطرحه أيضا كيف يمكننا تغيير ما بأنفسنا حتى نؤثر في واقعنا ونغيره؟ إن أعظم وأثقل ما عن النفس تغيير نمطها المعتاد فهي تنزع دائما إلى الارتكاس وتجابه كل جديد يضرب مسلماتها بل إن صراع الرسل مع أقوامهم كان سببه ما حملته الأديان من جديد عقدي وهذا الصراع هو أكثر الصراعات دموية في تاريخ البشرية فقد نسفت من اجله أقوام وأبيدت حضارات{ ومِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} ، ليعاد بناء البشرية من جديد من خلال تقويم الذات وترسيخ القيم والمبادئ الجديدة. وحال الأمة اليوم يشبه بدايات التغيير الحضاري الذي عرفته البنية البشرية ،فالقيم والأخلاق والمبادئ التي حملها الرسل بدأت تتباعد فصل بعد فصل حتى أصبح الأصل استثناء والدين شيء جديد وغريب بل أصبح المسلم نفسه يرى في الدين مجرد أغلال تقيد دنيته وهذا كان نتيجة استغلال سيء للدين بوعي أو بدون وعي ونتيجة خطاب متطرف غير مستوعب لمقصد الدين الذي جاء لسعادة البشرية وليس لتعاستها. ولنغير علينا كذات مسلمة أن نعيد انبعاث قيمنا وأخلاقنا وأن نثمتلها في أنفسنا بكل حرية ورغبة وفي انسجام مع حياتنا الدنيوية كل حسب موقعه في المجتمع من الفلاح إلى الوزير حتى يتحقق المفعول الاجتماعي للآية الكريمة {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} وهكذا تدور حياة الأمة بين تغيير ما بالأنفس مرورا بالتمكين وانتهاء بتحقيق الإخراج الحضاري للأمة الخيرية تحقيقا لقوله تعالى {كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.