إن الانسان مد خلقه الله عز وجل فُطر فِطرة سليمة على تعرف العمل الطيب ، حتى من دون حاجة إلى تعليم فسماه الله معروفا . كما أن النفس البشرية بفطرتها تَمقتُ العمل الذي يتنافى مع فطرتها دون الحاجة إلى تعلم كذلك فتنكره تلقائيا ، ولذلك سماه الله عز وجل منكرا . لكن الانسان يمكن أن تجتاحه خلال مراحل نموه و تحت ظروف معينة في تنشئته ، مجموعة من القيم الشاذة عن هذه الفطرة الأولى ، فتطفوا في بعض الأحيان صفات مخالفة للسمة الاصيلة في أعماقه ، ويمكن أن تنتقل من حالات فردية لتنتشر وتحتل مساحات أكبر في المجتمع في غياب ممانعة جماعية لإعادة الأمور إلى نصابها . ولذلك فكل فرد يحس في ذاته بهذا الجنوح عن الفطرة ، مدعوٌ حينها إلى ضبط حساباته وإعادة تصرفاته إلى ميزان الحق والفطرة الاولى ، كما تكون الأمة بأجمعها ملزَمة بالإسهام في هذه العودة أفرادا و مؤسسات . وهنا تتجلى أهمية المجاهدة و المحاسبة على مستوى الفرد ، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على مستوى المجتمع. قال الله تعالى في سورة آل عمران : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تومنون بالله ) الآية 110 إن هذه الآية الكريمة تختزل علة الخيرية للامة الاسلامية في كونها تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تؤمن بالله ، وحيثما دارت هذه العلة وجودا أو اختفاء دارت الخيرية . إن ما يهمني هنا في هذا المقال ، هو علاقتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعنا و بالخصوص هذه الايام الرمضانية . لابد لي في البداية أن اثير انتباه القارئ الكريم إلى أمر مهم في هذه الآية الكريمة ، وهو أن الله سبحانه وتعالى قدم فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قضية الايمان ، والدرس المستخلص منه هو أن الايمان لا يستقيم ولا يَثبُت إن لم تأمر الامة بالمعروف وتنهى عن المنكر . كما أن هذا الواجب المجتمعي ، يشكل ربع النجاة انطلاقا من قوله تعالى ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )" سورة العصر" ، فبه نحافظ على وجودنا و تماسك مجتمعنا ، بانتشار النصح والجهر بالحق بيننا وبذلك تتسع رقعة العدل و الانصاف واداء الحقوق و الواجبات . إنه الأصل و نقطة الارتكاز في ديمومة صلاحنا وإصلاحنا ، والثغر الذي يمكن أن تؤتى منه الأمة إن أهمل أو أقصي من اهتماماتها ومميزات خيريتها.
ونحن في رمضان ، لا يخفى على أي ملاحظ أن حدة المنكرات تقل مند اللحظة التي هل فيها علينا هذا الشهر المبارك ، فتتراجع وثيرة المعاصي وتتقدم الطاعات ، وتعود الأنفس إلى بارئها نادمة عازمة على السير في درب الفطرة و الهدى ، فتراجع ما بينها وبين خالقها ، وما بينها وبين باقي الخلق وهذه ميزة هذا الشهر الكريم . إلا أننا لا زلنا نرى تناقضا صارخا في سلوكاتنا بين الجانب الفردي الموجه للذات ، والآخر الموجه للغير والمجتمع . إذ من السهولة بمكان رصد حالات عديدة من هذه السلوكات الفردية والجماعية التي تنخر جسد أمتنا ولا يمكن إلا أن نسميها منكرا ، و هي أكثر ضررا على الأفراد والمجتمع وأجلب لغضب الله ، كحوادث الإنقلاب المتكررة لشاحنات نقل العمال والعاملات الفلاحيين على الطرق ، حتى ألِفْنا سَماعها دون أن تُحرك فينا حِسًّا ولا همساً ، وآخرُها انقلاب سيارة من نوع "بيكوب" يوم الاثنين 13 يونيو 2016 بتارودانت جماعة شرع العين ، التي أصيب فيها ازيد من سبع عشرة عاملة فلاحية ، وما تكشفه هذه الحوادث من استهانة بسلامة المواطنين ومخاطرة بأرواحهم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لَزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم سُفك بغير حق ) رواه البيهقي .
أليس هذا العبث بسلامة المواطنين وأرواحهم من المنكر الذي وجب النهي عنه ؟
إنه قطار الكوارث البشرية ، الذي أبى مرة أخرى إلا أن يطل علينا من جديد ليُفجعنا في بَناتنا في أعظم شهر ، فيَقطع عنهن صيامهن وقيامهن ، ويحرم أسرهن المتواضعة من فرحة عيد عَمِلن بعرق جبينهن لتوفير بعض الدريهمات اللازمة له ، أُسر اختزلتْ حُلمَهن في السعادة في استقرارٍ بسيط تحت كَنَف القناعة وتاج العفة. كل هذه الاحلام تنتهي فجأة بحادثة مروعة ، لتغرس في ظهورنا ونحن نصلي في خشوع خنجر الخيانة ، بفجورٍ سلوكيٍّ لبعض اصحاب الضمائر الميتة ، التي لا ترقب في مواطن إلاًّ ولا دِمة ، فتُلقي بنساءٍ و فتيات على قارعة الطريق مصابات إصابات خطيرة ، ولولا أن الله سلم لأصبحن جثتا هامدة في رمشة عين . فمتى نستفيق بإيماننا و وطنيَّتنا فننكر ما تنكره الأنفس بالفطرة ؟ ونأمر بالمعروف و ننهى عن المنكر و نقطع مع كل أساليبه دون انتقاء ، فيعلُو بِنا شأنُنا ، ونُحِس أن نساء وطنِنا هُن بناتُنا و أخواتُنا وأمهاتٌ لأبناءٍ هم أبناؤُنا ؟! لا أحد يحمي هذه الفئة المستضعفة في ظل ظروف عمل يسود فيها قانون الغاب ، وكأن قطاع العمل في الضيعات الفلاحية خارج عن أية رقابة ، ولا يعترف بأي قانون للشغل ، و مُتحرر من كل الضوابط والقيم والأخلاقيات ، ولا يرى للإنسان كرامة ولا يراعي له ظروفا للعمل و التنقل و العيش الكريم . أليست هناك شروطا دنيا محددة يمكن فرضها على " باطرونا الضيعات و"الشركات" الفلاحية" تضبط ظروف تنقل هذه الفئة من العاملات من وإلى الضيعات ، و تحترم شروط السلامة والكرامة في تنقلها؟! ألا يمكن إحداث ترويض إنساني وأخلاقي وقانوني في اتجاه الاندماج المجتمعي واحترام قيمه العليا وتماسكه ، لهذه الفئة المستحوذة على خيرات البلاد والعباد ؟ ثروات طبيعية أرضاً وماء . وثروات بشرية طريةً طيِّعة مُسالمة فتياتٌ و نساء . و ثروات أخرى "مفبركة" من طرف أخطبوطات التحَكُّم و لا يتم الحديث عنها . إنها " ثروات لقِيطة " تشكلت نِتاج التملُّص من كل الواجبات ، من ضرائب والتزامات واحترام شروط وساعات العمل والتغطية الاجتماعية والصحية . كل ذلك تحت حماية لوبي ينتعش في هذا الفضاء الدامس و محيطه النتن ، حيث تحمي أركُن الفساد فيه بعضُها بعضاً ، في بِنْية معقدة متشابكة ومتحكِّمة و فوق القانون أو على حافته . مفارقات عجيبة في واقعنا .. رجل يقود سيارته يحمل أسرته ، يوقفه الدركي ليتأكد من وضع حزام السلامة ، و تسجل ضده مخالفة لأن هناك أحدا لم يضع الحزام " لكون عدد افراد أسرته الستة يفوق عدد الأحزمة الخمسة للسيارة . وبعده مباشرة تمر شاحنة تحمل عشرات الفتيات والنساء القادمات من ضيعة فلاحية دون أن يستوقفها أحد ، وكأن المسألة سليمة بمنتهى البديهية ! وعندما تحدث الكارثة نكتفي بقراءة الفاتحة على أرواح الضحايا لتَستأنف الكارثةُ تَلاطُمَها في حصد الارواح . فمن سيغير هذا المنكر على طرقاتنا ؟
أكيد اننا كلنا معنيون جميعا بالمساهمة في تغيير هذه الحالة في إطار التواصي بالحق ، وإصلاح الأحوال ، مع احترام ضوابط هذا الأمر والنهي من رفق وحكمة وحسن تقدير للمصلحة والمفسدة ، كل ذلك في إطار احترام المسؤوليات و الاختصاصات . فليسأل كل واحد منا نفسه . ماذا فعل لمنع حدوث هذه الحوادث ؟ خاصة أنها تتكرر كل أسبوع حتى أصبحت مناظرُها من الطقوس المألوفة على طرقنا و صفحات إعلامنا . لأنه سيسأل حتما حسب موقعه و قدرته على تغيير المنكر إن بالفعل أو بالقول . وهذا رمضان .. رمضان التصالح مع الذات والمجاهدة والإخلاص .. ومن لم يهتم بأمر أمته فليس منها . ابتداءً ، إن المسؤولية الأولى عن تغيير هذا المنكر هي لأصحاب الضيعات أنفسهم ، الذين يمتصون دماء المستضعفين ويتملصون عن أداء حقوقهم في الأمن والسلامة والكرامة والأجر والتغطية الصحية والاجتماعية و ساعات العمل إلى غير ذلك . وذلك بأن يراجعوا أنفسهم ويعودوا بها الى فطرتها الأولى ، تزكية لها في هذا الشهر المبارك و غيره ، وارتقاء بها في سلم مراتب الإيمان الرقي الانساني و الحضاري ، فيقيموا اللعدل في أنفسهم و يعيدوا الحقوق الى أصحابها ، ومنها ضروف تنقل أمن تتوفر فيه شروط السلامة والكرامة ، وبذلك ستنتفي أو تقل هذه الآفة تلقائيا من واقعنا . ثانياً ، فالجهة الثانية المسؤولة عن تغيير هذا المنكر هي فئة المسؤولين على القطاع ، على اختلاف مستويات ومجالات تدخلاتهم وسلطاتكم ، سواء على المستوى المجالي أو الاداري ، أو على مستوى تشريع القوانين العادلة ، أو على مستوى السهر على تنفيذها و زجر كل مخالف لها من أعلى منصب الى أدناه ، اعلاء لمصلحة الوطن و الأفراد وحفاظا على الأرواح والأبدان والأسر . وتعتبر هذه المحطة حماية لمجال الصلاح أكثر مما هي تأسيسا له . وأخيرا ، يبقى ثقل المسؤولية في هذا التغيير على المواطنين في المجتمع العميق ، مجتمع الممانعة والمواطنة ومركز التغيير ، كل حسب عِلمه وكفايته وقدرته و موقع تأثيره ، سواء بالكلمة أو بالسلوك ، لأن هذا المستوى هو الذي يؤسس للصلاح والعدل في المجتمع ، ويحافظ عليه ويرعاه وينميه والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . فأنت أحيانا بكلام أو بملاحظة قد تحيي معروفا ، وقد تنكر منكرا ، وأحياناً كلمة أو سلوك منك ينقذ أسرة . لذلك لا بد أن نعيد بيننا هذه الصفة التي جعلها الله من صفات المؤمنين إذ قال : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر) سورة التوبة الآية 71 مساهمة في الاصلاح الشامل واقامة لمجتمع العدالة والكرامة والرقي ، وذلك بدعم كل أوجه المعروف والخير أينما كان مصدرها ، والتنديد بكل أشكال المنكر و الفساد كيفما كان مصدرها ، والمطالبة بمحاسبة المفسدين ومقاطعة كل أنشطتهم .
بهذا تكون الأمة كلها قد ساهمت في مباشرة فعل التغيير و الانخراط الفردي و الجماعي في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فيحصل لها ما بدأنا به مقالنا وهو استكمال أحد مقومات وشروط البقاء والاستمرار و الرقي الاجتماعي الاستقرار . و الساكت عن الحق شيطان أخرص ، ولا يعدر أحد بضعف يده أو قلة حيلته في عصر تعددت فيه الوسائل وتنوعت فيه طرق التبليغ والتواصل وفرص التأثير و الاصلاح . قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) سورة الرعد الآية 11 والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .