يعتبر المشروع الفكري للراحل محمد أركون من بين الأعمال التأسيسية الجريئة في مقاربة التراث الإسلامي مقاربة نقدية اقتحمت منطقة "اللامفكر فيه"، وقراءته بالتالي قراءة تاريخية وعلمية لأجل تحريره من مختلف التمثلاث والتصورات "المؤسطرة" والمحنطة له، ليصبح عامل نهضة وتقدم وتحديث، لا عامل جمود ونكوص وانغلاق على منجزات الحضارة الإنسانية. لم تكن "إستراتيجية "المشروع الأركوني في دراسة التراث الإسلامي هي استبدال "سياج دوغمائي" بآخر "حداثي وعلماني"!! كما يزعم اليوم بعض "النقاد" بسطحية وسوء قراءة لمكونات مشروع أركون الذي لم يزعم يوما أن مشروعه قد اكتمل وأغلق "على خلاصات نهائية ستشحذ لها مريدين"! كما يزعم هؤلاء. لقد ظل محمد أركون يعتبر مشروع الدراسة التاريخية النقدية والعلمية للتراث الإسلامي بأفق إرساء أسس "عقل إسلامي" حديث، منفتح ومستلهم لمعطيات العصر في مختلف المجالات، مهمة لن تكتمل إلا بمراكمة البحث وتطوير مناهجه، ما يتطلب "جيشا من الباحثين" من مختلف الأجيال، وكما كتب: "نحن لا نزال في مرحلة البداية بالنسبة للمشروع التالي: الدراسة العلمية للتراث الإسلامي" (كتاب نزعة الأنسنة في الفكر العربي ص 246)، وكما أكد آملا: "أحلم بمن ينهض بتأليف كتاب كبير يسترجع على ضوء التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي تلك الصرخة التي أطلقها أبو حيان التوحيدي قائلا "إن الإنسان أشكل على الإنسان"..." (الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد ص 266). ولأن المجال هنا ليس لعرض كل مكونات المشروع الفكري الأركوني بما يستحقه من تفصيل معرفي ودقة منهجية، فإنه من باب الاعتراف بما خلفه للفكر العربي والإسلامي المعاصر من مكتسبات معرفية ومنهجية، أساسية في تأطير عملية الاستمرار في استكمال وتطوير ما بدأه، الإشارة إلى ثلاثة مكونات جوهرية ومؤسسة لهذا المشروع الفكري النقدي للتراث الإسلامي ولأفقه التحديثي التنويري المطلوب: 1_ النقد القوي والنوعي معرفيا ومنهجيا للاستشراق، إذ تصدى الراحل بالدراسة النقدية لمسلماته وتصوراته الإيديولوجية اللاتاريخية عن الإسلام والحضارة الإسلامية التي تندرج ضمن "النزعة المركزية الأوروبية والغربية". 2_ نقده الصارم لتحول العلمانية إلى "عقيدة وفلسفة وإيديولوجيا"؛ فهو إذ يعتبر العلمنة أفقا للنهضة والتحديث فإنه يؤكد دائما أنه "لا ينبغي لها هي الأخرى أن تصبح عقيدة..تحدد لنا ما ينبغي التفكير فيه وما لا ينبغي التفكير فيه كما فعلت سلطة الفقهاء"(تاريخية الفكر الإسلامي ص 293 و294). 3_ توسيعه لمفهوم الحداثة بتحريره من تصورات "النزعة المركزية الأوروبية" ليشمل مختلف الحضارات: فالإسلام كما يؤكد أركون في أكثر من مؤلف لا يتعارض مع الحداثة. ومن هنا على المسلمين أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم وينفتحوا على ما يوجد خارج ما سماه "السياج الدوغمائي المغلق"؛ وهو السياج الذي أنتج ومازال مختلف أشكال "الجهل المقدس" وتنظيماته وتياراته الرافضة للحداثة باسم الإسلام، والتي أسندت لنفسها حراسته في وجه أي تقدم نحو التحديث والعلمنة والدمقرطة. ليست الحداثة عند أركون استنساخا للحداثة الغربية ولا تماهيا معها، فقد أكد في أكثر من دراسة ومؤلف أنها "ليست حكرا على الغرب أو الشرق"، فموقف الحداثة قد يوجد في أي عصر ولدى كل الشعوب...إنها ليست حكرا على أوروبا والغرب كما حاول أن يوهمنا الاستشراق. ومن هذا المنطلق درس الراحل موقف الحداثة عند المسلمين في القرون الأربعة الهجرية الأولى، مستخلصا أن "الحداثة لها جذور تراثية"، وأنها لا تستقيم بدون "تثوير الأصالة" وكسر ذلك "السياج الدوغمائي".. وفي الذكرى السابعة لرحيله، كم يبدو ملحا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في ظل فتنة ودمار مرحلة "ما بعد الربيع العربي" التي لم يعشها، التفكير في أدوات وآليات عمل تيسر نشر وتدريس فكره النقدي التنويري، واستلهام روح مشروعه في إنجاز مهمة التحديث الفكري باعتباره شرطا لا غنى عنه لأي نهضة...