يظهر أن أقرب من يقدم، إلينا، صورة مركزة حول مشروع «نقد العقل العربي»، لصاحبه محمد عابد الجابري (1936-2010)، هو المفكر الجزائري المعروف، والراحل بدوره مؤخرا، محمد أركون (1928-2010). فالتوقف عند أهم مرتكزات قراءة هذا الأخير للتراث كفيل بإضاءة مشروع مفكرنا. فهما يشتركان معا في استراتيجية «النقد» بمعناه الفلسفي الاصطلاحي المعاصر، مثلما يشتركان في دراسة مستويات العقل الخطابية؟ هل من المصادفة أن يظهر كتاب كل واحد منهما، وحول «نقد العقل العربي»، خلال العام ذاته (1984).. الأول تحت عنوان «تكوين العقل العربي»، والثاني تحت عنوان «نحو نقد للعقل الإسلامي» الذي سينقله، بعد عامين، إلى العربية مترجمُ أركون لكن تحت عنوان مغاير هو «تاريخية الفكر العربي الإسلامي»؟ في البداية، أغرى الإصداران البعض بالجمع بينهما، مع أن الفرق بينهما لا تخطئه «القراءة الأولى». أجل إنهما يشتركان في الفضاء المغاربي الذي لا يخلو من خصائص تميز كل مشروع على حدة داخل الفضاء العربي ككل. وبما أتاحه الفضاء ذاته، وسواء لهما أو لسواهما، من أبناء جيلهما، من «انفتاح» على الثقافة الأوربية، وضمنها الفرنسية بصفة خاصة. ويتقاطع محمد أركون مع محمد عابد الجابري من ناحية التأكيد، المبدئي، على ضرورة «الموقف الفلسفي» في نقد التراث، إلا أنه لا يخفي صعوبة إدخال هذا الموقف على الساحة الثقافية العربية («الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، ص33). ومن ثم اختار أركون أن يفيد من مناهج عديدة، في حين اختار صاحب «نحن والتراث» أن يكتفي ب«التحليل الإبستيمولوجي» مع توظيف بعض المفاهيم التي لا تخل بالإطار العام لهذا التحليل. وإذا كان الجابري يدعو إلى «تدشين عصر تدوين جديد»، فإن محمد أركون يؤكد ضرورة «التحرر الفكري» من أجل التخلص مما يسميه «إيديولوجيا الكفاح» (Idiologie de Combat) التي هيمنت داخل الفكر العربي في أثناء مناقشة القضايا المصيرية مثل «النهضة» و«الثورة» و«الديمقراطية»... إلخ، فهو يتصور أن ما ينقصنا هو هذا التحرير. ويضيف أنه إذا ما لم يحصل هذا التحرير استطاعت الأصولية أن تنتصر شعبويا وأن تحل محل الإيديولوجيا القومية والتحديثية التي فقدت مصداقيتها. فنحن، كما يضيف أركون في كتابه «قضايا في نقد العقل الديني» بلغة مترجمه هاشم صالح، لسنا مهيئين حتى للانخراط في المهمة الكبرى أو في التحرير الأكبر المتمثل في قراءة نقدية تاريخية مسؤولة للتراث العربي الإسلامي (ص223). وفي مقابل ذلك، يرى أنه بدلا من تحرير التراث، أو زيادة الوعي التاريخي به، يزداد العمى ويعم الاستلاب (ص226). وكما يتصور أركون أن التلاعب بالنصوص والآيات والأحاديث يعني السقوط في مغالطة تاريخية ضخمة مثلما يعني تأجيل نقد التراث الإسلامي من الداخل إلى ما لا نهاية (ص250). فالتراث، كما يقول جازما، في حاجة إلى «تهوية»، ولا بد من أن نطرح السؤال حول مرتكزات هذه التهوية؟ من هنا كان «التحرير الفكري» كتمهيد لكي تتحقق التهوية في السياق الثقافي العربي المعاكس. وأول ما يفرض ذاته على طريق هذه التهوية هو مسألة الموقف من «الغرب». وعلى الرغم من إقراره ب«التواصل المستحيل»، بسبب من الإطار الواحد للتصور والإدراك في الغرب تجاه ما يتعلق بالإسلام، فإنه يدافع عما يسميه ب«الفضاء الإغريقي السامي» (ص268)، فهو لا يرفض الغرب ودفعة واحدة كما يفعل الأصوليون. وليس غريبا أن يدعو إلى «عدم تجريم الغرب والسقوط في أحضان الخطاب الضد كولونيالي وإعفاء أنفسنا من المسؤولية» (ص266). وليس غريبا أيضا أن ينتمي الإسلام، في نظره، إلى الغرب لا الشرق... وعلى عكس ما يتصوره كثيرون (ص269). ف«الشرق الحقيقي هو الشرق الأقصى المتمثل في الصين واليابان والهند، هناك توجد مرجعيات ثقافية مختلفة عن المرجعية الغربية، أي عن الفكر الإغريقي والديانات التوحيدية» (ص202). ومن البيّن، إذن، أن تزعج محمد أركون «الصورة» التي يرسمها الغرب عن الإسلام من خلال الكتابات الصحافية السريعة التي تركز على العنف السياسي والأصولية القاتلة... وغير ذلك من «التنميطات» أو «الكليشيهات» التي تدخل في نطاق «الإسلاموفوبيا» أو «الخوف المرضي من الإسلام» Islamophobie. وربما في هذا السياق، أمكننا فهم ما ذهب إليه أركون من أن الإسلام يسمح بالعلمنة والحرية وبالتمييز بين الدين والسياسة (ص210). لقد تعلمنا، فيما سبق، التركيز على كتاب أركون «قضايا في نقد العقل الديني» (1998)، لأنه يتمحور حول سؤال: «كيف نفهم الإسلام اليوم؟»، ولأنه يكشف من خلال محاولة الإجابة عن السؤال ذاته، ومن حيث هو «سؤال عريض» أن المخاطب هو الغرب الذي يدير ظهره للإسلام. غير أن ما سبق لا يعني الإعجاب المطلق بالغرب. فأركون جابه الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية (المسيَّسة) المتواصلة حتى الآن، وكان يؤاخذها على عدم إفادتها من المنهجية الغربية الحديثة في أثناء دراسة الذات الإسلامية، خصوصا وأن هذه المنهجية أثمرت كثيرا في دراسة قضايا الغرب وضمنها «نقد العقل» حتى لا نتصور أن هذا النقد حبيس الفضاء الفكري العربي. وفي هذا النطاق، لا ينبغي أن نتغافل أيضا عن إعجاب هذا المفكر بالمؤرخ والفيلسوف مسكويه (القرن الرابع الهجري/ القرن العاشر الميلادي)، الذي كرّس له كتابه الأكاديمي، الأول، «الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري» (بالفرنسية، 1970)، جنبا إلى جنب مع إعجابه بشخصيات أخرى تراثية كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي... إلخ. والحق أنه لا يخفي إعجابه بالتراث العربي الإسلامي، ويتصور أنه تراث ثقافي وعقلي غني جدا وأننا نجهل هذا التراث («الفكر الإسلامي»، ص238). وفي ضوء هذه الاستراتيجية، يقطع على نفسه معانقة «قارة التراث». وضمن الاستراتيجية نفسها، يتأكد ما يسميه «الفكر النقدي» الذي يدافع عنه في كتاباته وحواراته. والنقد لا يرتبط بالنقض، ولا بالتدمير. «ونقد العقل لا يعني التخلي عن العقل»، كما قال أركون أثناء الحديث عن «عقل التنوير» في الغرب («قضايا في نقد العقل الديني» ص321). ويوضِّح أركون معنى الدراسة النقدية، في «الفكر الإسلامي»، قائلا: «فالدراسة النقدية والعلمية للتراث هي وحدها القادرة على كشف جوانبه الإيجابية وتبيان قيمته الحقيقية، وفتح الطريق لتجاوز سلبياته التي لا تزال تعيق نهضة العرب والمسلمين عموما» (ص18). ثم إن سؤال «القراءة» يقع في قلب «المشروع الأركوني النقدي»، وكما أن سؤال «كيف نقرأ التراث؟» وQكيف نعيد قراءته؟» «كفيل (في نظره) بأن يعفينا من الاكتفاء بجرد التراث ولو جردا شاملا أو الوقوف منذهلين أمام غناه» («تاريخانية الفكر العربي الإسلامي» ص59). وفي ما يتعلق بالقراءة فإنه لا يتقوقع في دائرة المعالجة الإبستيمولوجية كما يفعل الجابري، فمنهجيته متعددة. وفي هذا الصدد، يمكن التأكيد على إفادته من اللسانيات على نحو ما اتضح منذ بدايات مشروعه وعلى نحو ما نجد في كتيبه الصغير، واللاحق على الدكتوراه، «الفكر العربي» (بالفرنسية، 1975) الذي يعرض فيه لتاريخ هذا الفكر منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث. وفي هذا الكتيب، يؤكد أهمية اللسانيات التي تفتح آفاقا رحبة مخالفة لإمكانات الدراسات الفيلولوجية الكلاسيكية التي لا ترى في النص إلا معنى واحدا. ويشير إلى أن القرآن اعتمد «الوعي اللساني» من أجل تدشين وعي ديني جديد. وكما يشير إلى أن القرآن كان كلاما قبل أن يستوي في نص مكتوب، وأن الفكر العربي وجد نفسه منغلقا أكثر فأكثر في مسلمة الحقيقة الخالدة في القرآن (la pensée Arabe, P7, 10, 57). وفي هذا السياق، أمكننا فهم التمييز الذي يقيمه هاشم صالح، في هامش توضيحي ضمن «قضايا في نقد العقل الديني»، بين «الظاهرة القرآنية» وQالظاهرة الإسلامية». «فالثانية ليست إلا تجسيدا تاريخيا محسوسا للأولى. لقد حوّلها من الحالة الرمزية المنفتحة إلى قوالب قسرية وقوانين تشريعية محددة لتلبية حاجات المجتمع في القرون الهجرية الأولى، وهكذا تحولت لغة القرآن الانبجاسية الرمزية إلى لغة نثرية أحادية المعنى بعد أن احتك الوحي بالتاريخ أو تجسد تاريخيا وولد الظاهرة الإسلامية» (ص29). يتبع...