غيب الموت – يوم الاثنين الثالث من مايو عام 2010م – المفكر العملاق محمد عابد الجابري (1935 -2010) بشكل مفاجئ ، عن عمر يناهز ال 75 عاما ، نتيجة أزمة قلبية ، في مقر إقامته بالدار البيضاء بالمغرب ، وتم تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير بعد ظهر يوم الثلاثاء – الرابع من مايو 2010م – بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء . وفي الليلة الأخيرة قبل وفاته ، كان الجابري يجلس إلى عشاء عائلي محاط بزوجته وولديه وبنتيه وأحفاده ، الذين يأتون لزيارته مع نهاية كل أسبوع – وكأن القدر يرتب لهذه الزيارة ليلقي عابد الجابري نظرة الوداع الأخير على أفراد أسرته ويلقون هم بدورهم نظرتهم الأخيرة إليه – كانت الأمور عادية جدا خلال تلك الأمسية ، ولم يكن يخطر ببال أي واحدٍ من أفراد الأسرة المجتمعين حوله أن تلك الجلسة ستكون آخر جلسة مع والدهم محمد عابد الجابري ، يقول ابنه عصام الجابري :- سهرنا حتى ما بعد التاسعة ليلا ، كان سعيدا بشوشا كعادته ، ولم يكن يبدو عليه أي شئ غير عادي . من كان يدري أن تلك الأمسية كانت الأخيرة . من كان يعلم أنها ستكون أمسية الوداع الأخير ؟ " . لقد اهتزت أسلاك البرق وهي تعلن وفاة رائد العقلانية والإستنارة المعاصر عابد الجابري ، ولا شك أنه برحيله سيترك فراغا كبيرا في ساحة الفكر الحر ، وخاصة بعد انتشار جيوش التقليد والظلام ، فقد كان الجابري يمثل طاقة جبارة في مجال الدفاع عن كل ما هو علمي ، وعن كل ما يتصف بالعقلانية ، ولا شك أن واجبنا هو الاستفادة من دروسه وما أعظمها ، ومن أفكاره ، والتي تعد غاية في العمق ، فالمفكر الراحل يحتل في تاريخ فكرنا الفلسفي المعاصر مكانة كبرى ، إنه يمثل علامة مضيئة في تاريخ هذا الفكر ، يمثل دورا خلاقا مبدعا في حركة التنوير العقلي في عالمنا العربي كله من مشرقه إلى مغربه ، من محيطه إلى خليجه ، يمثل إشعاعا ثقافيا فكريا في أرجاء عالمنا . فإذا تحدثنا عن تاريخ الفكر العقلي والنقدي ، فإننا لا يمكن أن نغفل أو نتغافل عن الدور الرائد / الإيجابي الذي أداه مفكرنا الجابري ، فأفكار الجابري تعد غاية في العمق والنضج ، فهي ثمرة طويلة لتأمل طويل وقراءة مستمرة على مدى عقود وعقود ، وهي أيضا ثمرة لموهبة نقدية قل أن تجد لها نظيرًا ، وثمرة لما كان يتمتع به من ذكاء حاد ، وثمره لشجاعة نادرة ورغبة في خوض المعارك الفكرية دفاعا عن الحق ، دفاعا عن الحرية ، دفاعا عن حق العقل في ممارسة دوره ، لأن العقل أاشرف ما في الإنسان ، فإذا قمنا بالابتعاد عن العقل وارتضينا لأنفسنا طريق اللامعقول فمعنى هذا أننا قد ارتضينا لأنفسنا طريق الهوان ، طريق التخبط والضياع . ومن الصعب أن أشير إلى إلى كل أبعاد حياة مفكرنا الراحل في هذا المقال ، ولابد من الحديث عن بعض تلك الأبعاد والجوانب ، إذ أننا أمام مفكر من طراز ممتاز فريد ، مفكر بلغ فكره مبلغا كبيرا من التنوع والثراء ، مفكر لم يرتضِ لنفسه أن يكون الفكر محصورا في النطاق الأكاديمي فقط ، بل أنه يتعدى هذا النطاق بحيث يضيف أبعاداً تتدخل في صميم الإصلاح الإجتماعي والسياسي . ولد محمد عابد الجابري غرة شوال 1254ه / 27 ديسمبر 1935م بمدينة فجيج / فكيك الواقعة في شرق المغرب على خط الحدود الذي أقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر ، وتتألف فحيح من سبعة قصور – أي تجمعات سكنية – من بينها قلعة زناكة التي ولد فيها الجابري بعد أن انفصلت والدته عن والده ، فنشأ نشأته الأولى عند أخواله وكان يلقي عناية فائقة من أهله سواء من جهة أبيه أو أمه . وكان جده لأمه يحرص على تلقينه بعض السور القصيرة من القرآن الكريم وبعض الأدعية . ومالبث أن ألحقه بالكتاب فتعلم القراءة والكتابة وحفظ ما يقرب من ثلث القرآن الكريم ، وما إن أتم السابعة حتى انتقل لكتاب آخر ، وتزوجت أمه من شيخ الكتاب فتلقى الجابري تعليمه على يد زوج والدته لفترة قصيرة ، ثم ألحقه عمه بالمدرسة الفرنسية فقضى عامين بالمستوى الأول يدرس الفرنسية ، وارتقى في مسالك التعليم في بلده ، حيث قضى فيه 45 عام مدرسا ثم ناظر لثانوية ثم مراقب وموجها تربويا لأستاذة الفلسفة في التعليم الثانوي ، وحصل عام 1967م على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة ، ثم دكتوراة الدولة في الفلسفة عام 1970م من كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط ، وعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي والإسلامي بالكلية نفسها . وانخرط الجابري في خلايا المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب بداية الخمسينات من القرن الماضي ، وبعد استقلال البلاد اعتقل عام 1963م ، مع عدد من قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، كما اعتقل مرة ثانية عام 1965م مع مجموعة من رجال التعليم إثر اضطرابات عرفها المغرب في تلك السنة ، كما كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فترة طويلة ، قبل أن يقدم استقالته من المسؤوليات الحزبية في أبريل 1981م ، ويعتزل العمل السياسي ليتفرغ للإنتاج الفكري . أثرى الجابري الساحة الفكرية بالعديد من الدراسات والمؤلفات والتي تجاوزت الثلاثين مؤلفا في الفلسفة والفكر السياسي والدراسات التراثية ، أخضع الجابري بنية العقل العربي لمشرط النقد ، وعلى مدى ربع قرن ، عمل على تفكيك تركيبه هذا العقل ومساءلة مرجعياته ، وخلخه يقينياته ومسلماته الدينية والفكرية والأخلاقية ، وأن العقل العربي بحاجة إلى الابتكار ، ويأتي على رأس مؤلفاته كتابه "في نقد العقل العربي" ، الذي صدر في أربعة أجزاء هي تكوين العقل العربي 1984م ، وبنية العقل العربي 1986م ، والعقل السياسي العربي 1990م ، والعقل الأخلاقي العربي 2001م ، ونذكر من أعماله الأخرى " نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي " 1980م ، والعصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي 1971م ، ومدخل إلى فلسفة العلوم : العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي 1982م ، و " إشكاليات الفكر العربي " ، و المثقفون في الحضارة العربية : محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد " ، ويأتي السبب وراء تقديمه لهذا الكتاب هو استشعار أزمة الثقافة العربية ، فالمثقفون في الحضارة العربية سواء سابقا أو حاليا يظهرون وكأنهم لا يرتبطون بمرجعية ، ولا يستندون على أصل . وكأنهم محلقين في الهواء . يوجد غياب حاد للمرجعيات وتهميش للوجود الثقافي . كما قدم " حوار المغرب والمشرق : حوار مع د.حسن حنفي " ، والدين و الدولة وتطبيق الشريعة ، وفي نقد الحاجة إلى الاصلاح ، ومعرفة القرآن الكريم أو التفسير الواضح حسب أسباب النزول " في ثلاثة أجزاء ، ومدخل إلى القرآن . كانت آخر مشروعاته التي عمل على انجازها حول فهم وتفسير القرآن الكريم ، والذي قال عنه الجابري : " أنه مشروع العمر بالنسبة له ، وهدف من خلال أجزائه إلى التعريف بالقرآن الكريم تعريفا ينأى به عن التوظيف الايدلوجي والاستغلال الدعوي الطرفي من جهة ، ويفتح أعين الكثيرين على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع . بالإضافات إلى المقالات العديدة التي أثرى بها الفكر العربي ، فكان للراحل أيضا نشاطا في المجال الإعلامي ، حيث اشتغل في جريدة " العلم " ثم جريدة " المحرر " وساهم في إصدار مجلة "أقلام " ، وكذا أسبوعية " فلسطين " التي صدرت عام 1968م ومجلة شهرية بعنوان " نقد وفكر " هذا إلى جانب عدد كبير من المقالات التي قدمها الجابري ، وهذا افضى إلى حصول الجابري خلال حياته على العديد من الجوائز والتكريمات منها ، جائزة بغداد للثقافة العربية اليونسكو يونيو 1988م ، والجائزة المغاربية للثقافة تونس مايو 1999م ، وجائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي مؤسسة MBI تحت رعاية اليونسكو نوفمبر 2005م ، وجائزة الرواد . مؤسسة الفكر العربي . بيروت ديسمبر 2005م ، وميدالية ابن سينا في حفل تكريم شاركت فيه الحكومة المغربية بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة نوفمبر 2006م ، وجائزة ابن رشد للفكر الحر ، أكتوبر 2008م . وقد تعرض الجابري للنقد والهجوم العنيف ،وصدرت ضده فتاوي وكتابات كثيرة ، تشكك في شخصه وفي دينه ، بسبب مقاله الذي نشر في صحيفة " الاتحاد " الإماراتية تحت عنوان " ما قبل رفع أو سقط من القرآن " وعرض فيها لآراء بعض العلماء قديما والذين قالوا بأن بعض الآيات القرآنية قد تكون سقطت ولم تدرج بنص المصحف الذين بين أيدينا ، وقد جاءت هذه المقالة ضمن كتاب الجابري المعروف " في التعريف بالقرآن " وهو الجزء الأول من مشروعه " مدخل إلى القرآن الكريم " وقوبل بنقد لاذع . وقد رثى العديد من المفكرين العرب الراحل فاعتبر المفكر السوري صادق جلال العظم في حواره مع الإذاعة الألمانية أن أهم انجازات الجابري أنه " أوجد توازنا مع الفكر العربي بين المشرق والمغرب ، بعد أن ظل المغرب يعتمد فترة طويلة على المشرق العربي ، وخاصة على مصر " ، كما أن الجابري أحدث حراكا كبيرا في الفكر العربي ، وذكر العظم المساجلات الحيوية التي دارت بين الجابري وجورج طرابيش الذي ذكرته بالمناظرة التاريخية التي جرت بين الغزالي في المشرق ،وابن رشد في المغرب " . ويرى العظم أن مايقال عن أنه تهجم على الإسلام فهذا كلام فيه كثير من التعنت والافتراء . وأكد الشاعر المغربي حسن نجمي أن أغلب الذين هاجموه – الجابري – لم يقرأوه كما ينبغي ، بل اجتزأوا ما قاله ثم هاجموه . ويضيف نجمي أن الجابري : " لم يكن منشغلا بالبعد اللاهوت في الإسلام ، بل كان ينطلق من المسلمات والبديهيات التي تشكل أساس العقيدة الإسلامية ليتأمل في أشكال التفكير حول الإسلام . رحل الجابري وهو أحد رواد الفكر العربي المعاصرين الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والدراسات التي تهدف إلى إعادة إحياء قراءة التراث العربي كخطوة ضرورية للمضي قدما في المشروع النهضوي الذي عالجه الجابري على مدى نصف قرن من الزمان . ***************************