في الأسبوع الأخير من شهر يوليوز الماضي، شرعت مجموعة من المؤسسات المصرفية التشاركية بالمغرب في فتح أبوابها للجمهور، رغم محدودية الصيغ التمويلية المتاحة وعدم اكتمال المنظومة المالية التشاركية بشكل عام (غياب التأمين التكافلي والسوق البيبنكي التشاركي وكذا السوق المالي الإسلامي وأدواته من صكوك ومؤشرات مالية ومحافظ استثمارية …(لازالت شكوك لدى البعض في وجود فروق جوهرية في معاملات المؤسسات المالية الإسلامية ونظيرتها التقليدية، وأنها مجرد وسيلة تحايل وإيهام ذات طابع إسلامي. هذا الشك والانطباع صادر عن فهم قاصر وجهل للمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه المصرفية الإسلامية ونظيرتها التقليدية، ما يزيد من ضبابية الصورة بشأن هذه الصناعة الناشئة. إن نشاط البنوك الكلاسيكية ينحصر في الإقراض والاقتراض بفائدة، هذه العملية جعلت من النقود سلعة تباع بمقابل مادي مشروط وزائد من الجنس نفسه، أي تبادل نقد بنقد أكثر منه، وهو الربا المحرم شرعا؛ فالنقود عقيمة لأنها خلقت في الأساس للتبادل لا للتكاثر. وقد نبه فقهاء الإسلام إلى خطورة اتخاذ النقود سلعة تباع وتشترى، فقال الشاطبي وغيره رحمة الله عليهم: ʺالنقود خلقت أثمانا وقيما للسلع، ومتى استعملت سلعة دخل على الناس الفسادʺ. أما البنوك الإسلامية فيقوم نشاطها على المضاربات والمشاركات وبيوع السلع والخدمات. وأحل الله الأرباح الناتجة عن هذه العقود وأجاز التربح منها ما لم تخالف قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها. وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسات المالية الإسلامية هي مؤسسات ربحية تسعى إلى تعظيم منافعها وتحقيق أرباح لتغطية مصاريفها ومكافأة المساهمين على استثمار أموالهم وتحفيز المودعين على زيادة مدخراتهم. فالمعاملات المالية الإسلامية ونظيرتها التقليدية القائمة على الاقتراض الربوي شبيهة بشخص له ابنتان، واحدة تزوجت بشكل شرعي وأنجبت أطفالا، والثانية هربت مع عشيقها وعاشت معه وأنجبت أطفالا. بالنسبة للأب النتيجة واحدة، وهي أن كلا من ابنتيه تعيش مع رجل آخر، وأنه أصبح جدا، ولكن الطريقة مختلفة تماما، واحدة بالحلال والأخرى بالحرام!. لقد شغلت مسألة التسعير بال الكثير من الباحثين في المالية والاقتصاد الإسلامي منذ قرون مضت عبر محاولاتهم إيجاد حد شرعي للأرباح التجارية وتحديدها في الثلث أو الخمس أو غيرها، لكن هناك إجماعا للعلماء بعدم وجود حد معين للربح في الشريعة، فقد يكون مبلغا معينا، أو نسبة معلومة من البضاعة كالثلث أو الربع، وقد تباع بأقل أو أكثر من ثمن الشراء ما دام المشتري يعرف قيمة السلعة في السوق، مع الحرص على الرفق والإحسان وعدم التغرير واستغلال حاجة الناس، واستدلوا بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ". وأما التسعير؛ فمنه ما هو محرم ومنه ما هو عدل جائز كما قال ابن القيم رحمه الله، فإذا تضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب. فالتسعير ليس قاعدة عامة في المعاملات المالية، فلا يلجأ إليه ولي الأمر إلا إذا دعت الحاجة. وقد ذكر بعض الباحثين أربع حالات تتدخل فيها الدولة بتسعير السلع، بل بإجبار أصحابها على بيعها، وهي نموذج لحالات أخرى تتحقق المصلحة فيها بالتسعير: حاجة الناس إلى السلعة. الاحتكار. حالة الحصر (حصر البيع بأناس مخصوصين). حالة تواطؤ البائعين. وتتجلى شكوك بعض الناس في طريقة تحديد نسب أرباح المعاملات المالية الإسلامية من مرابحة أو إجارة أو سلم أو استصناع، أو أي صيغة تمويلية شرعية أخرى، والمقارنة بينها وبين نسبة الفائدة في البنوك التقليدية. وقد يبدو الأمر صحيحا من الناحية الحسابية، أي في تكلفة التمويل الإجمالية، لكن معلومية وثبات المبلغ الذي سيدفع في التمويل الإسلامي، وعدم جواز المقارنة بين الحلال والحرام، لهو الفيصل في تحديد الفرق بين عمليتي التمويل والإقراض بفائدة؛ فالتشابه في الصورة لا يلغي أبدا الاختلاف في الجوهر، فشبهة عدم الفرق بين الربا والبيع الآجل شبهة خالدة سجلها القرآن في قوله تعالى: "وقالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا"، ورد عليها بألا تشابه بين أمر حلال وأمر حرام حتى لو كانا متشابهين في الصورة، لأنهما مختلفين في الحقيقة والجوهر، لهذا اختلفا في الحكم الشرعي. إن عمل المؤسسات المالية الإسلامية في ظل اقتصاد تقليدي ذي أدوات تسعير ربوية، وذي سياسة نقدية متحكمة في العرض والطلب على النقود في السوق، وكذا التسعير المسبق لنسب التمويل من طرف البنك المركزي، إذ ليس بمقدور أطراف اللعبة تجاوزه أو تمويل العملاء بأقل منه؛ ناهيك عن استثمار المصارف الإسلامية في أدوات الدين بدلاً من المشاركة لانخفاض درجة مخاطرها، أدى إلى تشابه هيكل العائد والمخاطرة للأدوات المطبقة في المصارف الإسلامية مع نظيرتها التقليدية، ما يؤثر بشكل سلبي على الصورة الذهنية للمصرفية الإسلامية، ويوحي بعجز الاقتصاد الإسلامي عن إيجاد مؤشر بديل يتفق مع صيغ الاستثمار والتمويل الإسلامية. إن اعتماد المؤسسات المالية الإسلامية على سعر الفائدة والاسترشاد به كأساس لتقدير الأرباح في التمويلات الآجلة، سواء أكان المؤشر محليا كسعر الاقتراض من البنك المركزي، أو دوليا كمؤشر ʺالليبورʺ مضافا إليه 1% أو 2%، يعكس الجهل بما ينبغي أن تقوم به المصارف الإسلامية من دور حيوي في توزيع الموارد المتاحة بين الاستخدامات المختلفة، وفقا لمعدلات الربحية المتوقعة، و"تبعا للاحتياجات الإنتاجية الاجتماعية الرشيدة، وليس تبعا لسعر فائدة أصم"، كما قال أحد فقهاء المعاملات المالية. ورغم أن سعر الفائدة المحلي أو الدولي مجرد نسبة مئوية صماء، فهو الرمز الأساسي للنظام الربوي، فكيف يسترشد به في النشاط المصرفي الإسلامي؟ يضيف أحدهم. إن المؤسسات المالية الإسلامية، وكذا السلطات النقدية بمختلف دول العالم، مطالبة بتغيير مقاييس تسعير المنتجات المالية التشاركية لما يطولها من شبهات، واستبدالها بمؤشرات مرجعية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، تعكس متوسط الربحية المتوقعة لمختلف القطاعات الاقتصادية (صناعة، تجارة، زراعة، عقار...)، وتجمع بين الثبات والمرونة والقابلية للتطبيق، وإعدادها بشكل دوري حسب كل بلد، ثم تكليف هيئات دولية تحمل هم الصناعة المالية الإسلامية (الأيوفي، البنك الإسلامي للتنمية، مجلس الخدمات المالية الإسلامية...) للإشراف والرقابة الشرعية عليهم، على غرار جمعية المصرفيين البريطانية (BBA)، الجهة التنظيمية لإدارة وتحديد سعر الليبور، من أجل حوكمة رشيدة وفعالة. إن حمل لواء المالية الإسلامية من طرف فاعلي القطاع يستوجب الالتزام بمتطلبات شرعية وقانونية واجتماعية كبيرة، وهذا لن يتأتى إلا من خلال انتهاج سياسة تواصلية فعالة تجاه الرأي العام بمختلف وسائل التواصل والإعلام، ثم العمل وفق أحدث المعايير الشرعية والمحاسبية والحوكمة المعتمدة دوليا، مع استقطاب الكوادر التي تحمل هم المالية الإسلامية وتأهيلهم معرفيا بالصيرفة الإسلامية من خلال التكوين الجيد والمستمر، بغية تقديم خدمات متميزة ومبتكرة للتمويل والاستثمار، ذات قيمة حقيقية ومضافة، وبميزة تنافسية أكبر. *عضو جمعية الباحثين في المالية الإسلامية