منذ بدأت الثورة الشعبية في سوريا ضد النظام السوري الطائفي المدثر برداء البعثية والقومية، دخلت على الخط قوى دولية وإقليمية عديدة ذات مصالح متناقضة. وبهذا التدخل الخارجي تطورت الأحداث في سوريا من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة إلى حرب أهلية إلى تدخل عسكري خارجي، إلى حروب بالوكالة في إطار صراع إقليمي، إلى صراع دولي. ففي خضم هذه التغيرات المتسارعة تحول السوريون، وهم الذين أشعلوا ثورة الغضب بحثا عن الانعتاق، إما إلى قتلى أو مطرودين داخل بلادهم أو مهجرين إلى الخارج، وأصبحت بلادهم منطقة رخوة، وملعبا تعيث فيه جيوش ومخابرات البلدان الأجنبية. فانقلب المجال السوري من بؤرة توتر محدودة لشعب ثائر في سبيل الحرية إلى منطقة صراع دولي حول المصالح فيما يشبه تقاتل الوحوش الضارية على فرائسها. السطو على الثورة السورية واندلاع الصراع القذر راهن النظام السوري، منذ البداية، على إيران حليفه المذهبي وعلى روسيا حليفه العسكري. وفي مقابل ذلك، كانت الثورة الوليدة ثورة عفوية تفتقد منذ البداية للقيادة الموحدة والأفق السياسي الواضح. فلم تكن في سوريا/ البعث قوة سياسية أو مدنية متجذرة قادرة على قيادة طموحات السوريين كنتيجة لسنوات هيمنة الحزب الواحد في البلاد. ونتيجة لهذا الفراغ ظهر، منذ انطلاق الأحداث، بعبع الإسلام السياسي لينقض على الثورة الناشئة، وهو أمر أسهم في تمزيق الجبهة الداخلية السورية، وجعل كل ركن من سوريا يتحول إلى إمارات إسلامية متقاتلة. وفي الوقت الذي حاولت فيه بعض الأطراف الإقليمية تقديم عون عسكري للسوريين، ولو من وراء حجاب، فإن المعونات المقدمة قد وقعت في نهاية المطاف، بسبب عدم وجود قوى مدنية حقيقية على الأرض السورية، بين أيدي المتطرفين؛ وهو ما سمح بظهور داعش وأخواتها من القوى الدينية المتطرفة. هذا التحول الميداني سوف يسفر عن كارثة حقيقية على الثورة السورية التي كانت تطلب العون والمدد الخارجي. فسرعان ما انفرط عقد ما سمي بأصدقاء سوريا، وتخلت الدول الغربية والعربية على حد سواء عن دعم ثورة غامضة يقودها الإسلاميون المتطرفون، مكتفية بإدارة الأزمة، ومناوشة روسيا باعتبارها القوة الأكثر تأثيرا وحضورا في الميدان. وبينما غض الغربيون الطرف عن التدخل الإيراني السافر في سوريا، مارسوا ضغوط قوية على باقي الأطراف الإقليمية لإجبارها على وقف دعم الثوار، لا سيما بعد هيمنة المتشددين على المعارضة العسكرية في سوريا، وفشل محاولة إنشاء جيش سوري منشق ذي عقيدة وطنية، بحيث سرعان ما تبخر ما سمي ب''الجيش السوري الحر'' أمام سطوة الإسلاميين المتشددين. كان خلو الساحة للجماعات الدينية المتطرفة في مصلحة النظام الذي كان يدفع بذريعة محاربة الإرهاب، وهو ما أصبح يلقى ترحيبا دوليا مضطردا. لقد أدى هذا المنعطف إلى تحول الثورة السورية إلى صراع إقليمي ودولي قذر. فقد عمل النظام على الاستنجاد بالجيش الروسي والقوات العسكرية الإيرانية، فضلا عن مليشيات شيعية إيرانية وعراقية وأفغانية وباكستانية ولبنانية. دخول إحدى أعتى القوات العسكرية العالمية، وهي روسيا، إلى المعترك السوري لدعم النظام تحت سمع ونظر الجميع وبمباركة الجميع، لم يكن تحولا بسيطا، فهو الذي حوّل سوريا من بلد يعرف ثورة داخلية إلى ساحة حرب مفتوحة تم فيها تجريب ترسانة روسيا من الأسلحة الجديدة. الأمر نفسه ينطبق على المليشيات الشيعية العقدية التي لم تترك ركنا من الجغرافيا السورية إلا وانتشرت به، وهي تقاتل في إطار معركة مقدسة تدفعها إلى ذلك عوامل تاريخية تكمن في السعي إلى تحقيق الثأر التاريخي، والانتقام من أحفاد الأمويين وبلاد الشام. تغير موازين القوى وبروز ملامح فشل الثورة السورية وأمام كل ذلك، أخذت موازين الحرب تتغير شيئا فشيئا لمصلحة النظام والجيوش والمليشيات الأجنبية المساندة له، فاختفى الجيش السوري الحر، وتم دحر الجماعات المسلحة الاسلامية المتطرفة التي أصبحت تفتقد، بمرور الوقت وانقطاع الدعم الخارجي، للتسليح. هذا فضلا عن ضربها بقوى محلية منافسة مثل الأكراد. وفي الأثناء، جرى تقزيم دور الأممالمتحدة التي أضحت تقدم حلولا حسب موازين القوة التي كانت تميل بمرور الوقت وصمت المجتمع الدولي لصالح النظام وأعوانه الخارجيين. اليوم، يبدو أن المشهد السوري قد ارتسم، ويكاد يتجلى في صورته الأخيرة، أي انتصار النظام وإعادة سيطرة العلويين عبر حزب البعث على مقاليد الحكم، وبالتالي إرغام السوريين على العودة صاغرين للخضوع لأسرة الأسد، طالبين للصفح أو معرضين للانتقام وكأن شيئا لم يقع. هذا مع استمرار وجود قوات روسية وإيرانية مستعدة للتدخل لصالح النظام في أي وقت. ولا شك في أن النظام السوري، وبالرغم من انتصاره الداخلي الصغير، سوف يدفع ثمنا باهضا لقاء الدعم العسكري الروسي والإيراني، الذين لن يكون مجانيا، وإنما بمقابل كبير سيكون حتما على حساب السيادة الوطنية السورية، إذ سيقع ترسيم الوجود الإيراني الشيعي في البلاد لتأبيد سيطرة العلويين على السلطة، وإحصاء أنفاس السنة الذين انهزمت ثورتهم وخضعوا للشيعة بقوة السلاح. بينما تحوّل الوجود العسكري الروسي في القواعد البحرية والبرية من 25 سنة كما كان مقررا قبل الثورة إلى 100 سنة شهورا قبيل الإعلان الرسمي عن نهاية الثورة السورية. فبعد مقتل ما يقرب من مليون سوري، وبعد لجوء وتشرد ملايين السوريين في أصقاع الأرض، تقترب أحداث القصة السورية من الانتهاء بهذا الشكل المأساوي: قتل دمار وخراب، ثم رجوع إلى المربع الأول من اللعبة. في نهاية المشهد الأخير سيتبخر كل شيء ليجد السوريون أنفسهم بين نار الفرار من بلادهم إلى ديار المهجر فرارا بجلودهم من الانتقام، أو نار العودة والاستقرار ببلد مخرب تحكمه عائلة طائفية وتراقبه قوات روسية وإيرانية مسنودة بالمليشيات الطائفية. الرابحون والخاسرون في الصراع السوري ربما تكون ساعة الحسم في الملف السوري قد دقت، وأصبح بالإمكان إحصاء الخاسرين والرابحين في هذا الصراع العسكري الذي اختلطت فيه المصالح الجيوسياسية الإقليمية والدولية بين الاقتصادي والعسكري والأمني، وتناقضت فيه رهانات الفرقاء الداخليين والخارجيين. الأطراف الخارجية: فروسيا، بانتصارها في سوريا، تكون قد فرضت على الجميع وجودها العسكري الدائم في بلاد الشام كقاعدة مفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، في انتظار إيجاد موطئ قدم آخر في ليبيا، وبالتالي تعزيز حضورها العسكري في البحر الأبيض المتوسط في مواجهة حلف شمال الأطلسي. أما إيران، فقد ضمنت قضم مجال نفوذ جديد ينضاف إلى المجالات التي ركزت بها حضورها العسكري والأمني، معززة بذلك دورها الإقليمي كشريك ومحاور أساسي للأطراف الخارجية، فضلا عن تحقيق حلمها التاريخي بالسيطرة على بلاد الشام، وربط مجالات نفوذها في العراقوسورياولبنان. أما الأطراف الغربية، وبخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي أعرضت منذ البداية عن دعم الثورة السورية بسبب غموض أفق الثورة، والشك في نوايا القائمين عليها، وفي طبيعة مخرجاتها، فقد وجدت في تحولات الثورة السورية فرصة لإخراج المتشددين الإسلاميين من جحورهم والرمي بهم في ساحة الحرب في مواجهة عسكرية عقائدية ضد المليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران. فتحقق بذلك للغربيين ما أرادوا، أي التفرج على مشهد صراع المتشددين من السنة والشيعة الذي يحقق إنهاك الجانبين دون أن يبذل الغرب أي مجهود عسكري في الميدان. فقد وجد الغرب بأن أكثر قوة يمكن أن تقاتل ما تصفه ب "الإسلام السني الإرهابي'' بعقيدة صلبة هي المليشيات التابعة لإيران. ولا شك في أن ترك الغربيين الساحة فارغة للروس قد أتى في إطار صفقة تم فيها تبادل المصالح، ومن بينها الحرص على أمن إسرائيل؛ ذلك أن دولة مخربة ومنهارة ومشرذمة النسيج الاجتماعي والديني ستكون أفضل جار آمن للدولة العبرية من جار غامض، تسفر عنه ثورة فوضوية، قد يكون أسوأ بكثير من نظام قائم له عقيدة عسكرية تقوم على عدم محاربة إسرائيل. وعليه، فإن إسرائيل ستكون قطعا من بين أهم المستفيدين من المشهد السوري المترهل، فهي ستضمن أمن حدودها مع جار منهك ومدمر ومنقسم ومفكك، وستأمن جانب نظام أصبح كل همه هو ضمان السيطرة الداخلية. ولذلك فقد ظلت إسرائيل دوما تفضل استمرار النظام القائم في سوريا. ولسنا بحاجة إلى عرض تصريحات إسرائيلية يقع الجدل بخصوصها؛ فعمليا مصلحة إسرائيل تكمن في استمرار نظام خبرت أجندته وتعرف مهادنته لها، ولا يمكن لها التعويل على مخرجات ثورة غامضة انزاحت عن مسارها، وتحولت إلى لعبة مخابراتية عالمية قد تأتي بمفاجآت غير متحكم فيها يرجح أن تكون في غير مصلحة الإسرائيليين. فمهما كان مستوى التغيير الذي كان يمكن أن يتمخض عنه نجاح الثورة السورية، فإن مخرجاته ستكون بكل تأكيد أسوأ بكثير من نظام مهادن. وإلى جانب الرابحين، ثمة ضحايا للأزمة السورية، وفي مقدمتهم المحور العربي المعتدل الذي راهن، بالرغم من انقساماته بخصوص دعم فصائل الثوار السوريين، في البداية على الثورة السورية، ثم تعزز ذلك بعد تزايد التدخل الإيراني، حيث اعتبر دعم الثوار السوريين وسيلة لمحاربة الامتداد الايراني في الإقليم؛ غير أن النتائج جاءت مخيلة للآمال، فلا الثورة نجحت، ولا النظام سقط، ولا النفوذ الإيراني تقلص. وبالنظر إلى الواقع الميداني، فلا أحد من دول الجوار السوري سوف يظفر بشيء، إذ تعتبر جميع هذه الدول خاسرة من النواحي الاستراتيجية والعسكرية والأمنية، وإن بدرجات متفاوتة. فقد كانت تركيا ترى في الأزمة السورية فرصة مواتية لترتيب الأوضاع في شمال سوريا بما يضمن مصالحها لجهة وأد أي محاولة لأكراد سوريا للاستفادة من مجريات الأزمة، وهو أمر لم يتحقق، إذ أصرت أمريكا منذ البداية على تقزيم الدور التركي، وبادرت إلى حماية الأكراد وتسليحهم وتمكينهم من القيام بأدوار محددة في الأزمة السورية تحت غطاء أمريكي. ولهذا، ستجد تركيا نفسها قد خرجت من الأزمة خاوية الوفاض، بعد أن يقع تأمين وضع معين للأكراد على حدودها الجنوبية. أما لبنان، فسيكون وضعه إزاء الجار السوري أكثر سوءا من السابق بعد انتصار النظام السوري وتغول مليشيات حزب الله اللبنانية. فبعد أن كان حزب الله يسيطر على الحدود مع إسرائيل تحت ذريعة المقاومة، فقد أصبح اليوم بفضل انخراطه في الصراع السوري يسيطر أيضا على الشريط الحدودي اللبناني مع سوريا، مؤمنا خطوط الإمداد الدائم بينه وبين النظام السوري، وخطوط الإمداد الدائم لما يسمى بمعسكر الممانعة والمقاومة من إيران مرورا بالعراقوسوريا ووصولا إلى لبنان. أما داخليا، فسيعود حزب الله إلى الساحة الداخلية اللبنانية أقوى مما كان، بعدما أصبح يطوق البلاد عسكريا؛ وهو ما سيمكنه من السيطرة على القرار اللبناني داخليا وخارجيا، وتحجيم دور القوى المناوئة للنظام السوري، وفرض اختياراته عليها مدعوما بقوته العسكرية على الأرض. ولا شك في أن ما سيسري على سنة سوريا سينسحب أيضا على سنة لبنان لجهة إجبارهم على العودة مجددا للخضوع لتحكم النظام السوري كعراب، هو وشريكه حزب الله، للترتيبات الإيرانية في لبنان. أما الأردن، فقد تحوّل في خضم التحولات الميدانية على مقربة من حدوده، إلى حلقة ضعيفة في الإقليم بعدما سيطرت المليشيات الشيعية وقوات النظام على حدوده مع سوريا. بينما لا يجد العراق التابع عمليا لإيران أي حرج فيما يقع باعتبار أن حدوده مع سوريا تكاد تشكل، مع تقدم المليشيات، منطقة التقاء بين قوات الحسد الشعبي الشيعي العراقي، التي تحارب سنة العراق تحت مسمى محاربة الإرهاب، وباقي المليشيات الشيعية العاملة في سوريا؛ وهو ما سيسمح بمد جسر شيعي يربط العراقبسوريا لمصلحة إيران. ب-الأطراف الداخلية: أما داخليا، فإن أكبر الرابحين ستكون هي الطائفية العلوية التي وسعت مجال سيطرتها على الجغرافيا السورية، وستعود مجددا أقوى من السابق لممارسة استبدادها على بقية مكونات الشعب السوري وبخاصة العرب السنة. وقد ينطلق مسلسل من الانتقام في حق كل من تجرأ على حمل السلاح في وجه نظام الأسد وطائفته. وسيكون الأكراد في زمرة الرابحين أيضا. فلا شك في أن سيحصلون على مكافأة لقاء انخراطهم، بدعم غربي، في مواجهة داعش. ولا ريب في أن صيغة معينة تبدو في الأفق لإعطاء الأكراد وضعا خاصا داخل سوريا ما بعد الحرب. في حين سيكون أكبر طرف داخلي سوري متضرر من النهاية المأساوية للأزمة السورية هم العرب السنة. فهؤلاء يشكلون الأغلبية من بين مكونات الشعب السوري، وهم الذين أشعلوا الثورة على أمل التخلص من بطش النظام البعثي وتجبر طائفته العلوية. فهؤلاء الذين انتهى بهم الحال بين قتيل ومشرد ولاجئ ومرحل، سيكونون مجبرين على الرجوع صاغرين إلى بيت الطاعة، والإذعان مجددا للنظام بشروط أكثر إجحافا. لقد وضع هؤلاء كل آمالهم في الجماعات الإسلامية المتطرفة وراهنوا عليها مضطرين إلى ذلك، فسقطوا فريسة لرهاناتها التي كانت تتعدى بكثير حدود القطر السوري. وبذلك أسفرت الحرب غير المتكافئة بين السنة وجيش النظام مدعوما بالجيش الروسي والإيراني والمليشيات الشيعية، عن قتل الآلاف منهم وتشريد الآلاف في دول الجوار وهجرة الآلاف نحو أوربا. كما سيعاني السنة من اختلال ديموغرافي فادح في التراب السوري بعد استتباب الأمور لمصلحة لنظام؛ فقد وقع إبعاد السنة عن مجالاتهم التاريخية، إما بسبب المعارك، أو نتيجة اتفاقيات هدنة أبرمتها الفصائل المسلحة مع النظام نصت على ترحيل السكان عن قراهم ومدنهم فيما يشبه التطهير العرقي والطائفي، ليقع استيطان مناطقهم من طرف العلويين والشيعة. وبهذا، سيجد السنة أنفسهم معزولين في مجالات جغرافية غير ممتدة ومحاصرين بالمليشيات الشيعية الأجنبية التي لا يوجد ما يوحي بأنها ستغادر البلاد بعد نهاية الأزمة. ولا شك في أنها ستطالب بثمن لقاء مجهودها العسكري طيلة سنوات، وستدخل في ترتيبات ما بعد الأزمة. *كاتب وأستاذ باحث [email protected]