"أنا ألماني ولد في بولونيا".. بهذه العبارة المكثفة والرمزية افتتح السياسي والاقتصادي هورست كولر Horst Köhler كلمته بمركز التضامن الأوروبي بغدانسك يوم 7 ماي 2015، متسائلا عن معنى الاندماج الأوروبي اليوم بوصفه درسا مفيدا لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تأتي العبارة مختصرة لتحكي قصة كولر وسيرته الأولى، إذ حسب قوله: "قصة عائلتي قصة أوروبية: قصة القمع والمعاناة والخسارة، لكنها أيضا قصة التحمل والبدايات الجديدة والتضامن". وإذ تذكر كولر شعور أسرته بالخوف والعذاب في لحظات حالكة من سنة 1942 (معاناة أمه وهي تنجبه بعيدا عن منزلها الأصلي، هروب العائلة من بولونيا إلى ألمانيا الشرقية، التسلل إلى ألمانيا الغربية للاستقرار فيها بحرية)، فإنه لم يقصد أن يحكي قصته لكي يستمع الأوروبيون لقصص بعضهم البعض أو أن يستجلب تعاطف المستمعين مع إنسان عانى ما عانى منه الكثير من الناس بسبب الحرب. كانت الغاية المنشودة استخلاص العبرة من دمار الحروب ومآسي الصراعات لإقامة المشروع الأوروبي المندمج، باعتباره مشروعا منفتحا على العالم وفضاء منبثقا عن المصالحة والتعاون والتشبث بالتوافق بدل المجابهة. نستحضر هذه العبارة بعد تعيين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش António Guterres الوسيط الأممي هورست كولر مبعوثا خاصا له إلى الصحراء خلفا للأمريكي كريستوفر روس Christopher Ross قصد البحث عن تسوية للنزاع المستمر لأكثر من أربعين عاما بالشمال الإفريقي. نستحضرها لنشير، من جهة، إلى أن كولر يعد من الفاعلين السياسيين الدوليين الذين يكشفون عن وعي فلسفي وفكري عميق، والذين لم يتوقفوا عن مناصرة الفضاءات المندمجة والمخططات التنموية الكونية والبعد الإستراتيجي للتعاون الدولي؛ ومن جهة ثانية، لنتساءل عما إذا كان بوصفه وسيطا أمميا قادرا على المحافظة على قناعاته وأفكاره السياسية والاقتصادية والثقافية وجعلها مرجعا مفيدا في إدارته للمفاوضات. فالمفاوض في المجال السياسي، وإن جنح إلى الحياد في تدبير القضية الموكولة إليه، يكون – شعوريا أو لا شعوريا – تحت تأثير ما راكمه من معارف وما بلوره من مواقف كما يذهب إلى ذلك متخصصو علم التفاوض. وفي حالة المفاوض كولر، من المهم أن نقر بأننا أمام فاعل سياسي واقتصادي وازن راكم خبرة مهمة على المستوى الرسمي (رئيس ألمانيا 2004 – 2010، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي 2000 – 2004، رئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية 1998 – 2000)، وإن لم يفلح – بما يشبه كبوة الفارس – في إتمام ولايته الرئاسية الثانية لألمانيا بعد أن استقال في 31 ماي 2010 إثر انتقادات إعلامية حادة بشأن تصريحاته الإذاعية المبررة لوجود قوات بلاده في أفغانستان بدعم المصالح التجارية الألمانية. غير أن السعي إلى معرفة كيفية تفكير هورست كولر بشكل موضوعي يدفعنا إلى استبعاد ملفوظاته إبان تحمله لمهام رسمية بفعل هيمنة المؤسساتي على الشخصي، وبالتالي اعتماد الآراء والأفكار المتحررة من الالتزامات الرسمية والمتضمنة في الخطابات المنشورة باللغة الإنجليزية على موقعه الشخصي (www.horstkoehler.de) ومن ثمة، سنركز على كلماته الأساسية التي ألقاها في لقاءات دولية كبرى من بينها على الخصوص: "خطة التنمية لما بعد سنة 2015" – طوكيو – 15 أكتوبر 2012، "مستلزمات التعاون العالمي والسياسات الدولية" – توبينغن – 13 دجنبر 2013، "التعاون الدولي الجديد والتنمية المستدامة" – برلين – 14 يونيو 2013، "استحالة الحديث عن إفريقيا" – برلين – 18 مارس 2014، "في معنى الاندماج الأوروبي اليوم" – غدانسك – 7 ماي 2015، "الدور الإفريقي في العالم" – أديس أبابا – 14 أبريل 2016، "التعاقد الاجتماعي العالمي الجديد" – فرانكفورت – 3 ماي 2016، وأخيرا "أفكار حول القيادة السياسية" – مراكش – 7 أبريل 2017. ويمكن القول إن الأطروحات التي استدل عليها كولر في هذه التظاهرات، من وجهة نظرنا، لم تخرج عن ثلاثة محاور بارزة تتجلى أساسا في إبراز جدوى الرؤية الاندماجية، وترسيخ التوجه الإستراتيجي لكسب التحديات التنموية، وتقديم تصور جديد للمجال الإفريقي. 1 دفاعا عن سياسة الاندماج: تعد الدعوة إلى الاندماج من بين الأفكار الأساسية التي اختمرت بفعل الخبرة السياسية والاقتصادية التي انبثقت عن التجربة الكبيرة لهورست كولر، إذ لم يتوان في الدفاع عن نجاعة الآليات الاندماجية في التجمعات الدولية والإقليمية؛ وقد أعطى المثال على ذلك بالاندماج الأوروبي الذي شكل درسا فريدا لما بعد الحرب العالمية الثانية، مبرزا أن اللحظة الراهنة تستدعي، على ضوء التراكمات المحققة، تطوير الآليات الاندماجية بما يمكن من تحويل المشروع الأوروبي إلى مشروع عالمي يمنح للمصالح الإنسانية الأولوية نفسها التي يوليها للمصالح الإقليمية. فبعد أن ساهم – ومازال إلى اليوم في جغرافيات محدودة – في ترسيخ قيم المصالحة لتجاوز المخلفات المأساوية للصراعات والحروب، من المفيد أن يتوجه المجتمع الدولي نحو تكريس قيم التضامن بين مختلف المجتمعات بما يعزز التكتل السياسي والاقتصادي ويدعم سياسات التعاون على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وإذ يستحضر كولر إشارة الفيلسوف يورغن هابيرماس Jürgen Habermas المتمثلة في إدانة العالم لفترة طويلة لكونه "جماعة تفتقد للتطوع رغم مخاطرها المشتركة"، فإنه – رغم كل التقارب الاقتصادي والتكنولوجي والبيئي – يعتبر أن الاستجابة السياسية تتخلف كثيرا عن التطورات المتلاحقة وأن السياسات المعتمدة أقل إبداعا لاقتصارها على إدارة العالم كما هو؛ وبناء عليه، يدعو إلى ضرورة إقامة نظام دولي أكثر تعاونا يقوم على تعاقد اجتماعي عالمي جديد وفق ما تقتضيه خطة التنمية لما بعد سنة 2015. ومن أجل ذلك، يصرح السياسي الألماني بأننا في حاجة إلى تبني تصور أوسع وأعمق ينبثق عن فحص دقيق للأعطاب المجتمعية الأساسية ويستوعب التحديات الكبرى المطروحة حاليا على الصعيد التنموي بشكل خاص. 2 تحديات التنمية والرهان الإستراتيجي: تجدر الإشارة إلى أن هورست كولر يعي بوضوح أن المجتمع الدولي يعيش وضعا مقلقا للغاية، عنوانه البارز الإكراهات المتعددة التي تتولد عن الخصاص المهول في مختلف المجالات الإنسانية الحيوية. فمن جهة، يعيش مليار شخص في الأحياء الفقيرة للمدن، مع معاناة ملايين الأشخاص من سوء التغذية وانعدام المياه الصالحة للشرب؛ ومن جهة أخرى، يعيش العالم على وقع كوارث طبيعية متعددة تهدد التوازن البيئي العالمي من قبيل فقدان 13 مليون هكتار سنويا من الغابات. والحصيلة أن حاجتنا في أفق سنة 2030 ماسة للموارد الرئيسية الضرورية لتعزيز المخططات التنموية، إذ مقارنة مع ما هو متوفر اليوم تقدر الاحتياجات بنسب هامة: 50 % من الغذاء و40 % من الطاقة و30 % من الماء. واستنادا إلى هذه المعطيات، يوصي السياسي الألماني بضرورة إعمال الآليات الاندماجية وتفعيل الأشكال التعاونية الجديدة من أجل رفع التحديات التنموية وكسب رهانات المجتمعات الدولية؛ ولن يتأتى ذلك إلا بتحسين النمو، ليس بحكم الحب الذي يكنه له الاقتصاديون والسياسيون على السواء، وإنما لكونه يشكل مقياس التقدم البشري، ويمثل علامة بارزة على الإبداع والابتكار وعاملا مفرزا للرفاه الإنساني.. لن يتأتى ذلك أيضا، في نظره، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الحقائق التي أفرزها القرن الواحد والعشرين، والتي تتمحور حول معطيين جوهريين: أولهما، يتمثل في أن التحديات الراهنة عالمية وذات بعد إنساني؛ وثانيهما أن رهانات اليوم رهانات إستراتيجية تقتضي تخطيطا على المدى البعيد. إن المشكل المزمن لسياقنا المعاصر، كما يحدده كولر، يتلخص في عنصرين أساسيين: "النزعة الوطنية" التي تعتقد بمركزية الذات وتصر على إقصاء الآخر، والتخطيط على المدى القريب الذي يقتل المستقبل. ومن هذا المنطلق، ورغم عدم جرأته على نفي مقولة المفكر الاقتصادي جون ماينار كاينز John Maynard Keynes: "على المدى الطويل، نحن كلنا ميتون"، يعلن كولر موقفا حازما: مسؤوليتنا جماعية في أن نعمل بشكل مندمج وإستراتيجي من أجل إعداد عالم أفضل لأطفالنا في مختلف بقاع العالم، بما في ذلك إفريقيا. 3 الفهم الجديد لإفريقيا: انطلاقا من إيمانه بمزايا الاندماج والبعد الإستراتيجي للتعاون الدولي، يقارب كولر العلاقات الممكنة بين إفريقيا من جهة، والغرب وباقي مناطق العالم من جهة ثانية، داعيا إلى اعتماد صيغة جديدة تقوم على أنقاض الهندسة الحالية للنظام الدولي الذي لم يكف يوما عن تهميش إفريقيا اقتصاديا وسياسيا. ولا يخفي كولر، بحكم احتكاكه بالأفارقة، شعوره بأن الواقع الإفريقي يعد أكثر تعقيدا مما هو عليه على الورق، ما يجعله دوما في طور الفهم والتعلم واستكشاف الشؤون الإفريقية؛ ولذلك أعلن ذات مناسبة أنه يناقض المقولة الفلسفية للودفغ فيدغنشتاين Ludwig Wittgenstein: "الشيء الذي لا يمكننا الحديث عنه لا يجب أن نسكت عنه". فإن كان ليس بمقدورنا الحديث عن إفريقيا بفعل الصعوبات الكثيرة والتباس الرؤية، فلا ينبغي أن نصمت كما قال. ومن هنا، يعتقد كولر أن هناك ضرورة قصوى للحديث عن إفريقيا لتصحيح الصورة الذهنية النمطية الرائجة لدى الأفراد ووسائط الإعلام التي تركز على الطريقة التي يموت بها الأفارقة، وليس الطريقة التي يحيون بها. كما يعتقد أن الأوان قد حان لتغيير مغالطات المتخيل الغربي لأن عدم تغيير الصورة النمطية لن ينتج إلا معرفة ناقصة وتأويلا مشوها.. إنه يدرك تماما ضرورة نسج فهم مغاير للكيان الإفريقي يرتكز أساسا على تصور جديد ينطلق من أن رؤية الآخر لإفريقيا تبوح بالشيء الكثير عن ذاته، وليس عن ذاتها فحسب. ومن ثمة، نبه كولر إلى حاجة الأوروبيين لمقاربة مختلفة تجاه إفريقيا تجعلهم يقتنعون بأن الأزمات لا تأتي من عالم خارجي لأنهم، في نهاية المطاف، جزء لا يتجزأ من عالم واحد بسلبياته وإيجابياته. إن الأمر يقتضي تغيير منهجية التعامل مع المجال الإفريقي، وخاصة الانتقال من الحكم الجاهز المعبر عنه بمفهوم "قارة الأزمات" إلى التقييم الواقعي المتجلي في مفهوم "قارة الفرص" ما دامت إفريقيا اليوم تمثل المنطقة الجديدة الواعدة للنمو العالمي. واعتبارا لذلك، يشدد كولر على أهمية إجادة الإنصات إلى الصوت الإفريقي، خاصة إذا علمنا أن العالم يتجه في أفق سنة 2025 لكي يكون أكثر إفريقية حسب تقديره (20 % إفريقي مقابل 5 % أوروبي). إن الأهم في المقاربة الجديدة استشراف المستقبل حيث تمثل رؤية إفريقيا ووظيفتها، كما هي مسطرة في خطة 2063، حجر الزاوية في التخطيط الإستراتيجي، ليس فقط من أجل مستقبل أرحب للأفارقة، بل من أجل غد أفضل للعالم بأسره. وبما أن العالم لن يكسب رهاناته دون إفريقيا ولكون التحديات الإفريقية هي من صميم التحديات الدولية، فإن كولر يعتبر أن المكون الإفريقي، بما أسداه للبشرية من عبر غنية في تدبير التنوع الثقافي وتكريس المصالحة وترسيخ التعايش الديني، ضروري لإقامة نظام دولي منسجم بتعاقدات اجتماعية عالمية جديدة. وعلى عكس ما كتبه فريدريك هيجل Friedrich Hegel عنها بأنها ليست قارة للتاريخ حيث لا تشكل مجالا للتغيير والتطور، يؤكد كولر أن إفريقيا اليوم قارة متحولة باستمرار وفضاء دينامي لا يتوقف عن التحرك، الأمر الذي يحث على كسر حواجز الصمت والحديث عن المسالك الكائنة والممكنة للحوار والتعاون معها. تلكم جملة أفكار بلورها، عن اقتناع، السياسي والاقتصادي الألماني الذي أنيطت به اليوم مهمة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، وتطرح نفسها اليوم على المحك في المفاوضات التي سيباشرها مع الأطراف المعنية. هل يستطيع، بالموازاة مع قناعاته السالفة الذكر، أن يدافع عن فكرة الاندماج في منطقة المغرب العربي والتحديات التنموية للشمال الإفريقي ودوره المؤثر في تجسيد التصور الجديد لإفريقيا؟ الأكيد أن الوسيط الأممي، بمنهجية تفكيره، يدري جيدا أن الرؤية الاندماجية والتنمية الإستراتيجية وإفريقيا المتجددة لن تتحقق بالكيانات الوهمية الضعيفة ومخططات التقسيم الجائرة وإطالة أمد النزاعات. والأكيد أن ثمة رؤى تتقاطع كليا مع تصورات كولر، تتمثل أساسا في المقترح المغربي للحكم الذاتي والنموذج المغربي الجديد للتنمية في الأقاليم الجنوبية والدور المغربي الريادي في القارة الإفريقية: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. كل الأمل أن يهمس هورست كولر في أذن قادة الجزائر الداعمين لوهم الانفصاليين ومناوراتهم العقيمة: "القائد لا يدير الحاضر، القائد يبني المستقبل"، على حد تعبيره ذات لقاء. *باحث في التواصل وتحليل الخطاب