يتصاعد الدور السياسي والرمزي لحزب العدالة والتنمية في المشهد الوطني، وتمنحه العديد من التوقعات الرتبة الأولى في حال تنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وإذا كان الحزب الأول، طبقا للدستور الجديد، هو من سيقود الحكومة، فإن تولي حزب العدالة والتنمية لهذا الموقع سيكون بكل تأكيد أهم جديد سياسي يحصل في المغرب منذ تجربة "التناوب الديمقراطي"! فكون رئاسة الحكومة ستؤول لحزب سياسي ذي مرجعية إسلامية، فهذا يعني أن تحولا عميقا حدث في تقبل المجتمع والدولة لقيادة تدبير شأنه العام. سيحصل ذلك رغم أن الحزب، كفاعل سياسي، سيظل غير مرغوب فيه من قبل العديد من دوائر النفوذ الاقتصادي والثقافي والسياسي المهيمنة على كثير من مقدرات المغرب. ورغم أن هذا المعطى بات في حكم المسلم به، فإن ما يطرح السؤال هو أن النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع، والتي ستمكّن حزب العدالة والتنمية من موقع الصدارة، تستبطن الصورة الجديدة للحزب في مخيال عموم الشرائح الاجتماعية التي سيقود تصويتها الحزب إلى الرتبة الأولى. من البديهي إذن القول بأن صورة الحزب الإيجابية بالأساس هي ثمار صيرورة من العمل الفكري المتأمل في قضايا الشعب، ومن الإنجاز السياسي الميداني، إضافة إلى الكسب الخاص للعديد من قياداته ورموزه ومؤسساته محليا ووطنيا. وللمفارقة، فصورته السلبية قد تكون مرتبطة أيضا بذات المصادر والممارسات! فعلى المستوى النظري، طور الحزب، وفي إطار المرجعية الإسلامية، نظرية التغيير الحضاري المنبنية أساسا على مفهوم المشاركة والتمييز بين حقول الفعل والتأثير، فنأى بنفسه عن الاجتهادات التقليدية الشمولية أو الجذرية، واختار الانغماس في واقع الوطن والمواطنين وفق رؤية تميز بين ما هو دعوي وما هو تدبيري، فتدرج في فهم تعقيدات الحياة العامة واقترب أكثر، من خلال مشاركاته المتعددة في الاستحقاقات الانتخابية، من هموم المواطنين، ومن تأكيد صحة نظريته العامة في التغيير والإصلاح الذين يتطلبان مشروعا حضاريا مندمجا وبنَفَسٍ عميق، وليس عملا سياسيا سطحيا معزولا. وفي علاقته بالديمقراطية، تجاوز الحزب في منظومته الفكرية السجال التقليدي حول الشورى والديمقراطية، وقدم قيمة مضافة معتبرة مكنته من تجسيد إيمانه الفعلي بالتعدد والاختلاف، وبالتنافس السلمي على السلطة خارجيا، وتدبير شؤونه التنظيمية في ما يعرف بالديمقراطية الداخلية. وهناك إقرار واضح بأن حزب العدالة والتنمية يملك شروط المؤسسة الحزبية الديمقراطية السليمة، سواء تعلق الأمر باختبار قياداته ومؤسساته أو منتخبيه للمهام الانتدابية، أو بإدارة الاختلاف داخليا في إطار الاحترام المسؤول للمشروعية المنبثقة من حرية اختيار أعضائه للمسؤولين وللمؤسسات. ذات منطق التدرج هو الذي مكّنه من تليين موقف الدولة التقليدي منه، والمتسم عادة بالرفض والمواجهة. وقد ربح المجتمع والدولة من وجود الحزب تعزيزا للسلم الاجتماعي وتميزا بارزا ل"النموذج المغربي" في المحيط العربي والإسلامي، حيث يشكل الإسلاميون والدولة، قبل أحداث الربيع العربي عموما، تقاطبا حادا يدبر في مناخ من العنف المادي والرمزي والرفض المتبادلين. أما على المستوى العملي، فقد راكم الحزب في ظرف قياسي خبرة وموقعا في تدبير الشأن العام، عبر وجوده النشيط في البرلمان لمدة تقارب خمسة عشر سنة، وفي تدبير شؤون العديد من المدن والجماعات الحضرية والقروية والغرف المهنية. ويشهد حضور منتخبي العدالة والتنمية عموما حضور قيمة تخليقية مضافة للحياة العامة تنعكس عمليا في الحد من ظواهر الفساد، كالرشوة ونهب المال العام وغيرها. ذات الملاحظة يمكن تسجيلها بشأن علاقاته الخارجية المتنامية ونشاط منظماته الشبابية والنسائية والمهنية، كما يتميز أعضاؤه بالتأثير الفعال في العديد من المواقف والحركات التضامنية أو الاحتجاجية ذات الصلة بقضايا دولية أو حقوقية واجتماعية وطنية. ولم يكن الحضور الكبير في صياغة الوثيقة الدستورية الجديدة إلا امتدادا لهذا التأثير الذي يحسم بعض المعارك لصالح الاختيارات المنسجمة مع هوية الحزب. أما التأطير والتواصل المباشر مع المواطنين وعبر وسائل الإعلام، فلا جدال أن حضور العدالة والتنمية يكاد يكون، حزبيا، بلا منافس. ولتأكيد حقيقة هذا الحضور الفعال يستدل كثير من المراقبين على أن لجوء الدولة لصناعة حزب الأصالة والمعاصرة إنما جاء لوقف مد العدالة والتنمية بعد أن تأكدت من عجز الأحزاب التقليدية عن القيام بالمهمة بشكل فعال ودون حاجة لتدخل الدولة التقليدي في التأثير على نتائج الانتخابات. غير أن تجربة الأصالة والمعاصرة وتلاشي رهانها بسرعة قياسية صب أساسا في رصيد شعبية العدالة والتنمية الذي تميز في مواجهة "حزب الدولة" وحزب "صديق الملك" بوضوح ومبدئية شهد بها خصومه قبل أصدقائه. لقد بدأ هذا الصدام المباشر بتجريد الحزب من رئاسة العديد من الجماعات المحلية خلال انتخابات 2009، وتواصل بالزج بقياديين من الحزب في السجن على خلفية ملفات أكدت الأحداث في ما بعد أنها ملفقة ومصطنعة. ويبدو أن أحداث تونس ومصر وحركة 20 فبراير أوقفوا هذا المسلسل الذي كان في بدايته ولم يكن أحد يعلم أو يستطيع أن يتنبأ ببقية فصوله! إن هذه الملامح العامة للصورة الذهنية للحزب لدى الرأي العام الوطني اليوم هي التي تشكل مصادر مصداقيته، وتجعله يحظى بالثقة، كما أنها ترشحه لصناعة التحول نحو نمط جديد لتأثير قوي ومباشر للمجتمع في صناعة مصيره وقيادة مساره. فهل ستؤكد الأيام المقبلة صحة ما ذهبنا إليه أم أن الجوانب السلبية التي لا يسلم منها أي عمل مؤسساتي وحزبي في واقع متشابك المصالح والرهانات ومهدد بتغول الفساد ستحد من هذا التفوق المرتقب؟ هناك شعور عام بأن التطبيع مع الديمقراطية وتمكين الشعب من تدبير قراره وثرواته يتعثر باستمرار. وهناك من يعتقد، على إيقاع ما يجري في المحيط العربي، بأن المنهج الإصلاحي بات محدودا وغير ذي جدوى. فهل سينجح حزب العدالة والتنمية في إنجاز المستحيل؟ وهل سيتجه المغرب بعيدا عن الفساد والاستبداد إذا مكنه الشعب من أصواته؟ سنرى..!