(2) تقديم أثلجت صدري تعليقات بعض القراء على الحلقة الأولى من سيرة "ولد الجبال".. وقد تملكتني الرهبة وأحدهم يضعني جوار قامة مسرحية كبيرة، أبدعت "ولد القصور"؛ المرحوم حسن الجندي. ولد الجبال سيرة ذاتية حقيقية، وليست متخيلة، أقول هذا حتى يتقيد النقد بالضوابط الأكاديمية لهذا الجنس الأدبي. وتتواصل هديتي نصا سيرذاتيا؛ لكنه في الوقت نفسه نافذة على الحياة في جبالنا وبوادينا الحبيبة، حيث يشح الأدب شح الأمطار، أحيانا. كنز في حماية ثعبان وشبح منذ سنة، تقريبا، وقفت على حفرة بعمق متر، أحدثها - ليلا - بمحاذاة شجرة "ثاقة "الباحثون عن كنوز "الزكارة"، وخصوصا كنز القائد بلعيد – سأتحدث لاحقا عن مكانة هذا القائد، المرموقة، في تاريخ القبيلة، والوطن- الحاضر دوما في أحاديث الناس. مازحت الوالد، بخصوص الحفرة قائلا: كم عانيْتَ من الفقر في شبابك، بأزغوغ، وبجوارك كنز دفين، لعله انكشف أخيرا للأباعد، بعد أن توارى عن الأهل. يصر الوالد دائما، بناء على شهادة صادقة في نظره، على أن ثروة القائد بلعيد، التي لن يتوقف البحث عنها أبدا، حسب ما يبدو، نقلت إلى الجزائر؛ عقب اعتقال القائد من لدن السلطات الاستعمارية سنة 1916. تظْهرُ هذه الحفر، بين الفينة والأخرى، في أماكن متعددة من منبسطات وجبال القبيلة، ولا أحد يعرف هل جادت على الحفارين، بالتبر، أم باللجين، أم بالتراب فقط. ما هو مؤكد هو أن البحث عن كنوز بلادي متواصل دائما. الحفرة التي وقفت عليها ذات صباح، جوار قبر سيدي زكري- سلف الشرفاء الأدارسة بالقبيلة - بعالية واد مستفركي، لا يمكن ألا تكون قد أفضت لأصحابها بشيء مهم؛ إذ بدت لي المخلفات دالة على شكل صندوق، اقتلع اقتلاعا من الأرض؛ بل عثرت في الجوار على قطع قديمة، من أغصان العرعر، لعلها استعملت، قديما، في تسقيف الحفرة، لعزل المخبوء عن التراب . ينسب إلى سيدي زكري هذا، البستان المحيط به فيقال بالأمازيغية: "أورثو نسيذي زكري". ارتبطت بهذا الولي حكايا دالة على مكانته في القبيلة؛ أركز منها على اعتباره حاميا أمينا، لكل ما يترك بجانب قبره من ودائع؛ لعل هذا ما جعل أحدهم –كما ذكرت- يستودعه حتى كنزه الثمين. إذا استثقل فلاح من الجوار حمل عتاده الفلاحي، وهو لم يكمل عمله بعد، يتركه في حمى سيدي زكري، إلى أن يعود إليه صباحا. وقل مثل هذا في قطع الحطب، وأكياس الحبوب وغيرها. لم نكن نجرؤ، في صغرنا، على دخول "أورثو نسيذي زكري"؛ ليس بسبب انتصابه، في قبره- حسب المعتقد القديم والمنقرض - حاميا لودائع الناس؛ لأن هذا النشاط البنكي للولي الصالح لم يعد يؤثث غير المخيال القبلي. خوفنا الكبير كان مما يسمى "بوظَلفة"، الذي يصفه الكبار بكونه ثعبانا ضخما ومُعمرا، يتخذ له مخبئا الجوارَ الشوكي للقبر، وهو من شجر التوت البري "ثابَغة". حينما نضطر، فرادى أو جماعات، إلى المرور عبر الممر الضيق الفاصل بين بستان سيدي زكري وبستان عمي "اعميمير"؛ نفعل وجلين مسرعين، دون الالتفات إلى الوراء؛ وفي ذهن كل واحد منا صورة مرعبة ل"بوظلفة"، وهو يهم بادراك البطيء منا. لم نكن نشك إطلاقا في وجوده فعلا. أما الأخت الكبرى "فاطنة" فتقسم أنها رأته يوما، وهي عائدة بقبضة نعناع، كُلفت مكرهة بجلبها من بستاننا المجاور، والمسمى "اج نلعربي". رأته ضخما، بطيئا ومخيفا، في عبوره من بستان إلى آخر. لم أره أبدا، ولم أنسه أيضا، إلى اليوم؛ وما الذي يُنْسِينيه، والمكان هو هو، إن لم يكن ازداد شوكه كثافة وإلغازا. فسواء وجد حقيقة أم لم يوجد - ليكون ما رأته الأخت ثعبانا آخر من الثعابين الكثيرة الموجودة ببساتين القبيلة- فإنه عاش في خيالنا، وخالط طفولتنا كلها، وها هو يخالط إلى اليوم سيرتي الذاتية. وقد يكون الأمر كله تمويها من الأقدمين؛ خصوصا ممن أخفى كنزه هناك، وسعى جاهدا إلى أن يثني الفضوليين عن الاقتراب من قبر سيدي زكري. في سمر ليلي مع إخوتي بفاس – في ثمانينيات القرن الماضي- تجاذبنا أطراف الحديث عن سيدي زكري، و"حارسه" بوظلفة، ورعبنا الطفولي، وجديد البحث عن الكنوز بالقبيلة؛ فما كان مني إلا أن قلت: ألا ترون أن كل الظروف، والشروط، توفرت لنفترض وجود كنز مخبوء جوار القبر؟ جاءني الجواب، بعد أزيد من عشرين عاما: يوم وقفت على الحفرة التي ذكرت. فعلا، يفسر هذا الكنز المفترض حبكة الصنعة "السحرية" التي جعلت للمكان حراسا حتى من الثعابين. كم من أسطورة محبوكة فاقت الحقيقة في تجذرها في المخيال. شبح حَلْوَشْ ينتهي بستان سيدي زكري، بجرف عال وهار، نُسجت حول جانب منه أسطورة أخرى أكثر رعبا وترهيبا من المكان؛ إنها أسطورة "حَلْوش". يقال بأن حلوش عجوز بلغ بها المرض مبلغا لم تستطع معه صبرا، فانتحرت ملقية بنفسها من عل. ويضيفون أن صوت ارتطامها بالأرض، حيث جانب من مجرى واد مستفركي، لا يزال يسمع إلى اليوم؛ حينما يعبر عابر المكان ليلا. يا لرعبنا نحن الصغار، حينما نوثر العودة، مغربا، من البساتين، منحدرين صوب الوادي، بدل المرور بسافلة جبل "لعلام"، حيث المسافة أطول والصخور ناتئة وزِليقة (الصفافح). إن لم ترتطم حلوش فعلا، محشرجة مهمهمة، فهي ترتطم في دواخلنا المحطمة أصلا برعب بوظلفة. لعل طمر الكنوز لم يكن يتطلب فقط دهاء اختيار المكان المتمنع؛ بل خلق الأساطير حوله. ألا ترون أن شيئا من هذا يحدث حتى في بناء الدول والأمم؟ ذهب بصخرة عبد النور من أضخم المشاريع التي خططت لها الإدارة الاستعمارية وعم نفعها بعض فلاحي الزكارة، لعشرات السنين، تشجير منطقة أزغوغ باللوز، غالبا، والزيتون، أحيانا، وتسييج تلالها بحزام أخضر من العرعر والصنوبر والأوكلبتيس. تطلب المشروع إنجاز دراسات وتصاميم، وشق مسالك جبلية- لا تزال معالمها ظاهرة إلى اليوم -وصهاريج متنقلة للري؛ وكل هذا يستدعي طبعا يدا عاملة كثيرة. اشتغل الوالد "كابران" في هذا المشروع؛ وفي مرحلة ما، من بداياته، كان عليه أن يرافق، طيلة اليوم، مهندسا فرنسيا أوكلت إليه دراسة التربة، ووضع التصاميم، على ما يبدو. في يوم من الأيام، لاحظ الوالد تركيز المهندس على صخرة ضخمة متجذرة، تجاور مسكننا؛ تعرف لدى الساكنة بصخرة عبد النور (ثاذرييسث اعبد النور). كانت الحيرة بادية على الرجل وهو يطوف بالصخرة مرارا، حاملا آلة السبر، الكاشفة للمعادن. في زوايا محددة تصدر الآلة رنينا، فيتوقف المهندس ويصغي، ثم يطوف، ويعاود الكرة، وهكذا. احتار الوالد، وذهبت به الظنون كل مذهب؛ لكنه لم يكن يتوقع أبدا ما نطق به المهندس، وهو يلاحظ بدوره حيرة مساعده: يوجد في هذه الصخرة، أو تحتها ذهب. ماذا؟ ذهب؟ نعم ذهب لكنه ضئيل جدا. ثم انطلق المهندس صوب وجهة أخرى . منذ سنوات، وبعد انتهاء اشغال التعبيد في طريق أزغوغ/ وجدة؛ انتبهت، وأنا أعبرها للمرة الأولى، إلى ملازمة صخرة عبد النور لمكانها، التي سبق للوالد أن أرانيها، ذات زمن. ترى أين الذهب؟ أهو عالق في جوف الصخرة، أم طي التراب في الأعماق؟ ما هو مؤكد أن الذهب الحقيقي هو ما دره هذا المشروع الفلاحي المهم – على الفلاحين - من ملايين الدراهم؛ على مدى عشرات السنين، ولا يزال. ولم تعرف البلاد بعده مشروعا بأهميته وضخامته. شاخت اليوم أشجار اللوز، أما الحزام الأخضر فقد شرع في بيعه وقطعه، في عدد من المواقع. هكذا يغيب العمران الأخضر ليحل محله اليباب والخراب. اليوم، لا تعكر صباحاتي الرياضية، سيرا على الأقدام بمرتفعات أزغوغ، غير محركات القطع، وهي تصدر ما يشبه العُواء الحاد؛ وما أخاله عويل أشجار يقطعها شره المُلاك، في غياب قوانين صارمة تحمي الأحزمة الخضراء. Mestferkiculture.wordpress.com