لماذا يقبل بعض الشباب على الإسلام ويتمسكون بأصوله وفروعه،ثم لا يلبثون أن يتراجعوا عن تدينهم وينبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون؟ إنه سؤال يطرح كثيرا ويتساءل حوله المتسائلون بحسرة وتوجع، وأكثرهم لا يجدون تفسيرا مقنعا لهذه الظاهرة، ولا يهتدون إلى الأسباب الخلفية لهذا السلوك المضطرب، وكم سئلت هذا السؤال في عدة مجالس ومناسبات فكنت أجيب بما يناسب السؤال والمقام، ولكل مقام مقال. إنها أسباب واضحة غير مستعصية على الإدراك، وذلك لكونها ملموسة في سلوك أولئك الشباب المضطرب وماثلة في أحوالهم وتصرفاتهم، وهي أسباب متنوعة بتنوع أصناف الوافدين على الإسلام واختلاف مشاربهم ومقاصدهم من الأخذ بتعاليمه ومبادئه. 1. التنطع في الدين والإيغال فيه بعنف وتجلد وأولها و أشدها تأثيرا في المتصفين به: التنطع في الدين والإيغال فيه بعنف وتجلد، إذ يبدو أحدهم في تناوله لشرائع الإسلام وأحكامه كأنه في معركة حامية وصراع مرير، فهو دائم الحيطة والحذر ، وذو صلابة وجمود، ولا نصيب في تدينه للرفق واللين، ولا حظ في سلوكه لليسر والسماحة ، وليس الدين عنده إلا الوعيد والعذاب والتخويف والإنذار والدعاء بالويل والثبور، وهكذا يمضي في تدينه متعبا بعبء ثقيل لا يطيقه ولا يصبر على السير به، فيصيبه الوهن و العياء فينهار كما ينهار البنيان الذي أسس على شفا جرف هار، وقد يعود بعد تشدده وغلوه أشد طغيانا وأبعد ضلالا، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. 2. سيطرة الهوى على صاحبه وضعفه أمام المغريات والمثيرات وثانيها: سيطرة الهوى على صاحبه وضعفه أمام المغريات والمثيرات، وميله إلى إشباع رغباته الآثمة، ودوام حنينه إلى دنيا الملذات والشهوات، فهو لا يستطيع التوفيق بين تدينه ومطاوعة ميوله، ولا يطيق المداومة على كبح جماح نفسه، فلذلك يتدين ما شاء الله أن يتدين ثم يغلب طبعه تطبعه فينقلب إلى ما تدعو إليه كل نفس أمارة بالسوء ويخلع ما كان قد تحلى به من فضائل الإسلام ومكارمه ويدخل في لعنة الله مع الداخلين، وما ذلك إلا لأنه لم يذق حلاوة الإيمان ولم يقبل بقلب خاشع على طاعة ربه، ولو تحقق فيه ذلك لانطبق عليه قول الله عز وجل: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة). 3. قرناء السوء وثالث الأسباب قرناء السوء الذين يحتفظ الشاب التائب بصداقتهم ومرافقتهم رغم ما بينه وبينهم من التباين والاختلاف، فهو مستقيم على دينه وقائم بطاعة ربه ، وهم مفرطون في جنب الله مسرفون على أنفسهم في الفسوق والعصيان، فلا يتفقون معه في غاية ولا وسيلة، ولا تجمعهم وإياه مودة خالصة ولا تربطه بهم رابطة سليمة. ومن ثم فإنهم لا يفتأون يوسوسون في صدره ليردوه عن تدينه واستقامته، وقد ينالون منه ما يبتغون ويبلغون من إغوائه ما يريدون، فينطبق عليهم وإياه قول الله عز وجل :(قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين اغوينا أغويناهم كما غوينا)،فإذا هو ممن وصفهم الله عز وجل بقوله: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ايتنا قل إن هدى الله هو الهدى)، ومن أجل ذلك أمر سبحانه بالصبر على مصاحبة الصالحين وملازمة مجالسهم، وحذر من الالتفات إلى غيرهم والركون إلى من سواهم من الغافلة قلوبهم عن ذكر الله واللاهية عن ذكره وطاعته، فقال جل علاه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). 4. اللجوء إلى التدين باعتباره هواية يملأ المرء بها فراغه ويشغل بقضاياها فكره و رابعها: اللجوء إلى التدين باعتباره هواية يملأ المرء بها فراغه ويشغل بقضاياها فكره، ويتسلى بتعاطيها عن همومه ومتاعبه، وهذا حال كثير من المنتسبين إلى الإسلام والعاملين مع أهله والقائمين بما ظهر من تعاليمه ومبادئه، إذ يبدو أحدهم للناس كأنه من خير المسلمين تمسكا بالدين وأشدهم حرصا على التفقه في أحكامه فلا يفوته درس ولا محاضرة، ولا يسمع بشريط تسجيل لأحد من علماء الشرق أو الغرب إلا بادر إلى اقتنائه، ولا حضر في مجلس إلا كان حديثه عن الدعوة الإسلامية والدعاة وما يتعلق بالموضوع، لكنك مع هذا كله تدرك من مخالطته وسلوكه وتعامله أنه غير صادق في تظاهره بالاستقامة والالتزام، وأنه لا فرق بينه وبين جاهل لم يرفع بالقرآن رأسا ولم يدر ما الكتاب ولا الإيمان ، ومثل هذا الصنف من الناس لا يثبت على حال ولا يستقيم على طريقة، فهو اليوم مع المصلين وغدا مع المخمرين، فلا يفرح بإقباله ولا يحزن لإدباره، وقد قال عز وجل: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا). 5. التدين من أجل الجزاء العاجل و خامسها :التدين من أجل الجزاء العاجل ، وهو مقصد يسعى إليه كثير من المتدينين بشرائع الإسلام، إذ يعتقد أحدهم أنه بتمسكه بدينه واستقامته على طاعة ربه سيصير منصورا محفوظا مجاب الدعوة، لا تنال منه النوائب منالا، ولا تصيب المصائب من حياته مجالا، إذا هم بحاجة قضاها، وإذا رام عسيرا من الأمور صار يسيرا، وإذا دعا على قوم (فساء صباح المنذرين) وإذا سافر أظلته السحاب من حر الشمس، وأضاء القمر طريقه في ظلمة الليل، أما إذا صلى أو قرأ القرآن فإنه يشعر أنه قد أصبح من الملائكة المقربين، ودخل في زمرة المصطفين الأخيار. فإذا نزل به مع اعتقاده هذا ما ينزل بكل إنسان في هذه الحياة من الشدة والبلاء والهم والنكد فزع وجزع أصابه الفشل والإحباط وظن بربه ظن السوء فنكص على عقبيه وعاد إلى غيه وضلاله متسخطا على ربه محققا في نفسه قول الله عز وجل: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين). وقد وصلتني ذات مرة رسالة من أخت تشكو شقيقتها التي كانت مختمرة وقائمة بما يجب عليها من أمر دينها، ثم خلعت الحجاب وتركت دينها وتمردت على طاعة ربها وسبب ذلك أنها كانت ذات يوم مسافرة من قرية صغيرة إلى مدينتها التي تسكنها، ولما كانت (المواصلات )غير منتظمة بين تلك القرية والمدينة فإنها وقفت على الطريق تنتظر حافلة النقل، وبينما هي كذلك إذ وقفت سيارة صغيرة خصوصية وفيها ركاب من رجال ونساء وهي من تلك السيارات التي تحمل الناس من الطريق بدون ترخيص فركبت الفتاة مطمئنة إلى من في السيارة من الركاب، ولم يبق فيها إلا السائق والفتاة التي تنتظر من السائق أن يبلغها المدينة التي هي متوجهة إليها، لكن السائق مال بالسيارة عن الطريق المسلوك وأخذ طريقا مهجورا غير مسلوك، وهنا ذعرت الفتاة البكر وخافت على مصيرها وكرامتها وأخذت تستغيث الله وتدعوه أن ينقذها من هذه الشدة التي حلت بها، ووصلت السيارة إلى منزل خرب وكان الوقت عشاء والفتاة خاشعة في التضرع والدعاء وهي لا تشك أن الله سينقذها (بمعجزة كما قالت) من ورطتها وأدخلها السائق بالشتم والسخرية إلى ذلك المنزل وهناك قضت معه مكرهة ليلة سوداء نال السائق في ظلامها مراده منها، وأصبحت كئيبة حزينة عاتبة على ربها لكونها دعته فلم يستجب لها واستغاثته فلم يغثها. وهكذا رأت أن تدينها لم يخلصها مما نزل بها وأن تعلقها بربها لم يغن عنها في تقديرها من مصيبتها، فما كان منها إلا أن قطعت ما كان بينها وبين الله ، ودخلت في زمرة الجاهلين. ونسيت الفتاة أنها كانت بسفرها وحدها عاصية لله عز وجل فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تسافر بدون محرم، وذلك حماية لها مما قد يعرض لها في سفرها من الآفات، كما أنها تهورت وغامرت بنفسها حين ركبت سيارة مجهولة ، وكل هذا يجعل دعاءها غير مقبول من الله مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل كان له على ربه مال فلم يشهد عليه، ورجل أتى سفيها ماله وقال الله تعالى : ولا توتوا السفهاء أموالكم). 6. خيبة الظن في أهل الإسلام وسادسها: خيبة الظن في أهل الإسلام وذلك أن المقبل على الإسلام يعتقد أنه سيجد في العالم الجديد الذي سيدخله نوعا متميزا من الناس ليس بينهم إحن ولا أحقاد ولا يعرفون عداوة ولا بغضاء ولا يشوب تعاملهم كذب ولا غش ولا خيانة ولا خداع فإذا به يجد نفسه بين قوم متصفين بكل ما يتصف به غيرهم من مساوئ الأخلاق ومذموم الصفات، لا يزعون عن قبيح ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فيدركه اليأس والإحباط ويشعر أنه كالمستجير من النار بالرمضاء، فينقلب إلى ما كان فيه من جهل وضلال، ويرى أن الخير قد رفع من الأرض، وأن الناس كلهم سواء في الفسق والفجور. و قد ذكرت الصحف منذ سنوات أن ممثلة مصرية قد اعتزلت السينما ودخلت في زمرة الفنانات التائبات، فصار الأخوات يزرنها بين الحين والآخر وأكثرن عليها الترداد، كما أكثرن عليها النصح والأمر والنهي، فضجرت منهن وضاقت عليها الأرض بما رحبت فلم تستطع معهن صبرا، وهجرت الإسلام وأهله وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وقد قيل : عدو عاقل خير من صديق جاهل. 7. الخوف من المضايقة والملاحقة والازدراء وسابعها: الخوف من المضايقة والملاحقة والازدراء، فكم من واحد وواحدة أيضا تاب إلى الله واستقام على دينه فرماه من حوله من أهل وأصحاب بتهم شتى ونعتوه بنعوت تشوه صورته بين الناس، كما استاء منه زملاؤه ورؤساؤه في العمل، وتلقوه بنظرات الازدراء والاشمئزاز، فهو يقضي يومه في صراع حاد بينه وبين من يعايشهم من الناس فلا يلبث أن يمل حياته ويسأم من المقاومة والمواجهة، فيتراجع عن استقامته ويطاوع دعاة الزيغ والإغواء، فيميل مع المائلين ويغوى مع الغاوين، وصدق الله العظيم إذ قال: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما). وعلى كل حال فإن هذه الأسباب إنما تؤثر في المذبذبين الذين لم يأخذوا الإسلام بجد واجتهاد، بل دخلوا فيه مترددين وأقاموا شرائعه مقدمين ومؤخرين، فهم ممن قال الله عز وجل فيهم: (قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). أما من اطمأن قلبه بالإيمان واسلم وجهه لله وهو محسن فإنه يكره أن يعود في الكفر والضلال كما يكره أن يلقى في النار، وهو الذي يصدق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).