(1) يقوم الزواج على التراضي والاختيار الحر لطرفيه، فهو عقد رضائي ينبني على إرادة حرة ورضى صريح للمتعاقدين لا يشوبهما عيب أو خلل، فقد اعتبرت المادة 4 من مدونة الأسرة الزواج "ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين"، ولا يتحقق هذا التراضي إلا إذا كان من صدر منه متمتعا بقواه العقلية التي تمكنه من التمييز بين ما ينفعه وما يضره، لذلك فعديم التمييز يعد فاقدا لحرية الاختيار ويتعذر عليه بالتالي التعبير عن الإرادة. ويرمي المشرع من وراء ذلك إلى بناء مؤسسة الزواج على أسس متينة، تضمن استمرارها ومساهمتها في رقي المجتمع، لذلك فقد فرض توفر الإرادة الصحيحة قبل إبرام هذا النوع من العقود، كما أكدت المادة 13 من مدونة الأسرة على وجوب توفر أهلية الزوجين، وجعلتها من الشروط التي لا محيد عنها لصحة عقد الزواج، وتكتمل هذه الأهلية بإتمام الفتى والفتاة ثمان عشرة سنة شمسية كاملة شريطة تمتعهما بقواهما العقلية، وهذا الشرط أمر ضروري تقتضيه الصفة العقدية للزواج، وهو تأكيد آخر بأن العقل محل اعتبار في إبرام هكذا عقود، باعتباره مناط كل تكليف أو التزام أو مسؤولية، وبزواله تعيب الإرادة وتبطل العقود. ولئن كان ذلك هو الأصل الذي ارتضته أحكام الشرع وأكدته نصوص المدونة، فإن لهذا الأصل استثناء يتولى تقديره قاضي الأسرة المكلف بالزواج عند منح الإذن من أجل زواج الشخص في وضعية إعاقة ذهنية أو المعتوه كما تصطلح عليه المدونة في المادة 2161، وفق شروط موضوعية (المحور الأول) وأخرى إجرائية (المحور الثاني). المحور الأول: الشروط الموضوعية لزواج المصاب بإعاقة ذهنية2 قد يكون الزواج مجديا أحيانا في التخفيف من حدة الإعاقة الذهنية، لذلك فليس من العدالة أن يقف القانون في سبيل زواج شخص في هذه الوضعية مادام الطرف الآخر موافقا ومطلعا على حالته، ولهذه الغاية سمحت هذه المدونة أن يأذن القاضي بتزويج الشخص في وضعية إعاقة ذهنية ذكرا كان أم أنثى وفق ضوابط معينة. فقد أوجبت المادة 23 تقديم تقرير طبي يوضح حالة الإعاقة بدقة، وصنفها، ودرجة خطورتها، ومدى درجة القدرة العقلية للشخص الراغب في الزواج حتى يكون أهلا للتحمل بالالتزامات والقيام بالواجبات التي تفرضها رابطة الزوجية، كما يبرز هذا التقرير مدى مساهمة الزواج في إمكانية شفاء المصاب بالإعاقة الذهنية أو على الأقل التخفيف منها. ويستشف من خلال قراءة ظاهر هذه المادة، أن قاضي الأسرة المكلف بالزواج لا يملك سلطة تقديرية واسعة في منحه للإذن بزواج المصاب بإعاقة ذهنية، وذلك من خلال تعبير الفقرة الأولى من المادة المذكورة التي جاء فيها "يأذن قاضي الأسرة المكلف بالزواج بزواج الشخص المصاب بإعاقة ذهنية ذكرا كان أم أنثى، بعد تقديم تقرير حول حالة الإعاقة من طرف طبيب خبير أو أكثر"، فصياغة هذه المادة توحي بأنه بمجرد تقديم التقرير الطبي حول حالة الإعاقة من طرف الخبير، يبادر القاضي إلى منح الشخص المصاب بإعاقة ذهنية موضوع الخبرة الإذن بالزواج دون أن يكون له رأي أو تقدير لما جاء في هذا التقرير. ولعل هذا المنحى تؤكده طبيعة الخبرة الطبية، فهي مسألة فنية لا يأنس القاضي من نفسه الكفاية العلمية أو الفنية للقيام بها، لذلك فهو مجبر بالأخذ بما تضمنه تقرير الخبير طالما أنه جاء في حدود الجوانب الفنية ولم يتصل بأي حال بالقانون كما قضت بذلك المادة 59 من قانون المسطرة المدنية. غير أن واقع الحال يؤكد عكس ذلك، فالقاضي المكلف بالزواج له واسع النظر في منح الإذن بزواج المصاب بإعاقة ذهنية من عدمه، حتى ولو جاء تقرير الخبرة الطبية لصالح هذا الأخير، لأن القاضي مطالب بدراسة كافة الأسباب والوقائع والظروف المحيطة بطلب الإذن بالزواج، والبحث فيها، والاستماع إلى كافة الأطراف حول الجدوى من هذا الزواج، وتقدير مصلحة الشخص في وضعية إعاقة ذهنية، ومدى تقبل الطرف الآخر لهذه الوضعية، حتى يصل في النهاية إلى قناعته الوجدانية، والتي على ضوئها يقرر منحه الإذن أم لا، وعلى هذا تسير المحاكم المغربية. وبالمقابل يجب أن يكون الطرف الآخر، الذي يرغب المصاب بإعاقة ذهنية في الزواج منه، راشدا وكامل الأهلية، وهو شرط منطقي مادام أن المشرع تطلب رضاه وموافقته الصريحة، والتي لا يمكن أن تصدر إلا من شخص كامل الإرادة، فضلا عن أنه لا يعقل أن يكون الطرفان معا في وضعية إعاقة ذهنية وإلا تنافى ذلك مع الغاية من تحصينهما، وشقت أعباء الأسرة عليهما، بل واستحال العيش أصلا بينهما. إلى جانب هذين الشرطين الخاصين، فإنه يتعين أن تتوافر في زواج المصاب بإعاقة ذهنية باقي الشروط العامة الأخرى، من صداق وولي وانعدام الموانع المؤبدة والمؤقتة وغيرها من الأركان والشروط الواجبة على أي مقبل على عقد الزواج، سواء كان مصابا بإعاقة ذهنية أم لا. المحور الثاني: مسطرة الإذن بزواج المصاب بإعاقة ذهنية نصت المادة 23 من مدونة الأسرة على ما يلي "يأذن قاضي الأسرة المكلف بالزواج بزواج الشخص المصاب بإعاقة ذهنية ذكرا كان أم أنثى، بعد تقديم تقرير حول حالة الإعاقة من طرف طبيب خبير أو أكثر. يطلع القاضي الطرف الآخر على التقرير وينص على ذلك في محضر. يجب أن يكون الطرف الآخر راشدا ويرضى صراحة في تعهد رسمي بعقد الزواج مع المصاب بالإعاقة"، فقد خص المشرع المغربي زواج المصاب بإعاقة ذهنية بهذه المادة الفريدة والمقتضبة، كعادته عند تنظيم أحكام الأشخاص في وضعية إعاقة بشكل عام، على عكس بعض التشريعات العربية، وهذا حال القانون المصري، التي أسهبت في تأطير هذا الزواج وتنظيمه وسن ضوابطه، وقد اعتور هذه المادة الكثير من النقائص والثغرات، كانت مثار جملة من الملاحظات التي سجلناها حول بعض الإشكالات العملية التي قد يطرحها تطبيق هذه المادة، والتي ستكون موضوع دراسة قادمة بمشيئة الله. غير أن أهم ما يميز هذه المادة هو تجنبها للتعقيد في عرضها لمسطرة الزواج، فقد جاءت بإجراءات سهلة وواضحة ومبسطة وغير طويلة، ولعل ذلك راجع إلى وضعية المصاب بإعاقة ذهنية التي ينبغي مراعاتها وتقديرها قبل تسطير أي إجراء قد يعيق الاستفادة من أبسط الحقوق. فعلى الشخص المصاب بإعاقة ذهنية الراغب في الزواج أن يقدم طلبا بذلك إما بنفسه أو من طرف نائبه الشرعي لدى كتابة الضبط لمحكمة قضاء الأسرة التابعة لمحل سكناه، مرفوقا ببعض الوثائق اللازمة ويؤدى عنه الرسوم القضائية. إثر ذلك تأمر المحكمة بإجراء خبرة طبية، وتنتدب لها طبيبا مهمته محددة في فحص الشخص المصاب بإعاقة ذهنية فحصا دقيقا والقول ما إذا كانت الإعاقة الذهنية على درجة بسيطة أو متوسطة أو عميقة، وهل بإمكانه الزواج دون أن يشكل ذلك خطرا على الطرف الآخر، ووضع تقرير بذلك يوضع بكتابة ضبط المحكمة، وتحدد أجرة له على ذلك يتحملها الراغب في الزواج ويضعها في صندوق المحكمة. ويعرض القاضي تقرير الخبير على الطرف الآخر للاطلاع عليه ثم الموافقة عليه وذلك حتى يكون على بصيرة، وهو لا يكتفي بموافقته الشفوية إذ لابد أن تكون هذه الموافقة صريحة ومضمنة بوثيقة رسمية تدل على موافقته على الزواج بالطرف المصاب بالإعاقة الذهنية، مع تضمين كل ذلك بمحضر رسمي يوقعه، ليكون حجة كتابية تثبت علمه بحالة المصاب بالإعاقة الذهنية ونوع إعاقته ودرجة خطورتها... تفاديا لكل لبس أو ادعاء لغش أو تدليس3، فالموافقة المضمنة في الوثيقة الرسمية تفيد الرضى الصريح والقبول الذي لا شك فيه بالزواج من الشخص المصاب بإعاقة ذهنية. ومادامت النيابة العامة طرفا أصليا طبقا للمادة 3 من المدونة، فقد بات ضروريا تبليغها، ولا يمكن إصدار الإذن إلا بعد التوصل بملتمسها في الموضوع. وباستنفاذ هذه المراحل، يكون قاضي الأسرة المكلف بالزواج قد كون رأيا في الموضوع، واقتنع بضرورة منح الإذن بزواج الشخص المصاب بإعاقة ذهنية أو عدم الجدوى من ذلك، فهو مالك لقراره، وبيده صلاحية منح الإذن من عدمه. هوامش: 1 -عرفت المادة 216 المعتوه بأنه الشخص المصاب بإعاقة ذهنية لا يستطيع معها التحكم في تفكيره وتصرفاته، والملاحظ أن المشرع لا زال يتبنى المفهوم التقليدي للإعاقة، فالشخص لا يصاب بالإعاقة لأنها ليست مرض أو ووباء وإنما هي إعاقة موقف وظروف محيطة بيئية واجتماعية واقتصادية وغيرها، تدور معها وجودا وعدما. 2- سنحتفظ خلال هذه الدراسة باللفظ الذي استعمله المشرع للدلالة على الشخص في وضعية إعاقة ذهنية، رغم تحفظنا على هذا المفهوم كما أسلفنا 3- صرحت المادة 66 من المدونة بأن التدليس في الحصول على الإذن أو التملص منه تطبق على فاعله والمشاركين معه أحكام الفصل 366 من القانون الجنائي بطلب من المتضرر، كما يخول بالمقابل للمدلس عليه من الزوجين حق طلب الفسخ مع ما يترتب عن ذلك من تعويضات عن الضرر. *باحث جامعي