يبدو أن المواجهة بين العدل والإحسان والسلطة في المغرب دخلت منعطفا جديدا بعد استفتاء 1 يوليوز، فبعد شهور من الحراك الشعبي في الشارع المغربي خرجت المواجهة بينهما من نطاق "الحرب الباردة" وتبادل الرسائل المشفرة إلى المواجهة المباشرة، حيث تصاعد هجوم الدولة على الجماعة بشكل واضح خطابا وممارسة: فعلى المستوى الإعلامي:عوض التلميح المعتاد بدأ التصريح باسم الجماعة، وتحميلها مسؤولية بعض الأحداث ك"خريبكة أسفي اليوسفية" في وسائل الإعلام الرسمي خاصة القناتين الكسيحتين و"لاماب" بعد أن كان المخزن يطلق على أعضائها "المجموعات الفوضوية" أو "مثيري الشغب" أو" بعض الخارجين عن الشرعية والإجماع الوطني" وعلى مستوى الشارع:أيضا تشير كل العلامات أن المواجهة تجاوزت في حقيقتها سقف 20 فبراير ورموزها وأنها بين جماعة الشيخ ياسين والملك مباشرة فقد رفع البلطجية والمحسوبون على المخزن شعار "الملك كيحكم وياسين كيحلم" "لا نادية لا ياسين الملك هو اللي كاين".فالمخزن استنفذ الأسلحة الخفيفة كالدعاية الإعلامية الرخيصة والتحريض والبلطجة والعنف المباشر، وشرع في استعمال مخزونه من الأسلحة الإستراتيجية الثقيلة التقليدية حيث حرك المساجد والخطباء والعلماء وأنزل الزوايا والطرقية إلى الشارع في أول سابقة من نوعها، بعد أن فشلت مؤسسات الدولة الحديثة من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام في إيقاف زحف الجماعة الشعبي، وسيطرتها الفعلية على الشارع. وعلى المستوى السياسي: يبدو أن السلطات أدركت هذه حقيقة "انحسار الشعبية"الساطعة بعد الاستفتاء، لهذا فهي تحاول بكافة الأشكال والأساليب المشروعة وغير المشروعة المباشرة وغير المباشرة، أن تقوي موقعها التفاوضي فقط، أما القضاء على الجماعة أو إخراجها من الشارع فيبدو أنه صار مطلبا من رابع المستحيلات لأن كل المؤشرات تشير أن المخزن يمر من أضعف فتراته شعبيا وسياسيا ودبلوماسيا، وكل هذه البهرجة الإعلامية الضخمة إن ما يراد منها إخفاء العجز، فالدولة تدرك تمام الإدراك بوسائلها الاستخبارتية وتقاريرها الأمنية المضبوطة بالأرقام والمعطيات الحقيقية والواقعية"، أن العدل والإحسان لم تنزل بثقلها إلى الشارع لأسبابها الخاصة، وأنها قادرة على قلب المعادلة في كل حين، ودعك من تصريحات الناصري وأشباهه اللي "غير هبيلة وقالوا ليها زغرتي". نتيجة لهذه الحقيقة ونتيجة لضغوط خارجية أمريكية وأوروبية، أجبرت السلطات خاصة- جناح الصقور الاستئصالي-على فتح قنوات المفاوضات غير المباشرة، لجس نبض الجماعة لمعرفة مدى قبولها الانخراط في اللعبة السياسية، فقد قطع السفير الأمريكي صامويل كابلان الشك باليقين حين صرح في اللقاء الذي نظمته جريدة "ليكونوميست"، أن كل اللقاءات مع الجماعة تتم بموافقة وعلم السلطات المغربية، مشيرا إلى أن سفارة بلاده بالرباط "تطلع الخارجية المغربية بشأن هذه اللقاءات بشكل دوري ومنتظم". كما أعطت السلطات المغربية الضوء الأخضر لجهات إعلامية وسياسية ودعوية أيضا لممارسة ضغط معنوي وسياسي على الجماعة لجعل مسألة انخراطها في العمل السياسي عبر تأسيس حزب قضية مقبولة ومستساغة، وأيضا لإحداث شرخ في الصف الداخلي للجماعة خاصة جناح الصقور، فداخل الجماعة –كما لا يخفى كسائر كل التنظيمات البشرية- معسكران معسكر الحمائم على رأسه القيادات الشابة ل"الدائرة السياسية" التي تدير الحراك الحالي، ولا ترى ضيرا في مشاركة مشروطة، ومعسكر صقور يمثله رجال التنظيم الأقوياء على رأسهم أعضاء مكتب الإرشاد، يرون أن تأسيس حزب سياسي حاليا: 1-سيخلف هزة داخل الصف العدلاوي سيما وأن الشروط والإرادة السياسية للتغيير غير متوفرة الآن. 2-أنه خطوة لإنقاذ النظام الذي بدأ يتهاوى، وكل المؤشرات ترجح قرب نهايته. 3-أنه يشكل مساسا بمصداقية الجماعة ومغامرة بمواقفها وتاريخها شعبيا وجماهيريا. كل هذه الدعوات للعدل والإحسان من جهات متعددة مختلفة المرجعيات والخلفيات والولاءات، في أكثر من مناسبة، لتأسيس حزب من أصحاب النوايا الحسنة كالشيخ الفزازي، أو من عرابي المخزن أو غيرهم من الكراكيز الذين تحركهم الدوائر الاستخباراتية من صحافيين وسياسيين ومستقلين وأكاديميين –كانوا لا يجرؤون على ذكر الجماعة إلا في معرض الذم والسب - تحمل شبه اتهام للجماعة أنها ترفض العمل داخل الشرعية، وداخل المؤسسات ووفقا للقانون، وهذه مغالطة كبرى، فأي قراءة علمية وموضوعية لمواقف الجماعة منذ تأسيسها في بداية الثمانينات، تفيد عكس ذلك تماما، فالجماعة – حسب ما أعلم- لم ترفض يوما الانخراط في العمل السياسي، وليس هناك ما يمنعها إيديولوجيا ومبدئيا من تأسيس حزب، بل هي عمليا اتخذت الخطوات القانونية لتأسيس جمعية ذات طبيعة سياسية وفق قانونها الأساسي التأسيسي، وقد اعترف لها بهذه الصفة بأحكام قضائية صادرة من محاكم المملكة، وحتى في الرسالة التي وصفت بالسرية التي وجهها مجلس الإرشاد من سجن سلا بتاريخ 29 ذي القعدة 1411/ سنة 1991 نجد قبولا بذلك في ظروف أسوء مما نعيشه الآن "إن الجماعة ممثلة في أعضاء مجلس الإرشاد لا ترفض في حالة إذا ما خلصت نيات المسؤولين وإرادتهم السياسية أن نعمل في إطار حزب سياسي معترف به وفق ما ينص عليه دستور البلاد، والملكية الدستورية تضمن تعددية الأحزاب، على أن تمنح لنا مهلة كافية تهدأ فيها النفوس من الإثارات التي سببتها المظلومية الواقعة علينا، ولنسوغ لإخواننا فكرة قبول هذا الحزب كما تقضي بذلك قواعد الشورى الإسلامية". وبالنظر إلى هذه المعطيات فالمبدأ غير مرفوض ولكن الجماعة تضع شرطين اثنين: 1-شرط ذاتي متمثل في قبول قواعد الجماعة وهيئاتها التقريرية بالفكرة وفق قوانينها المنظمة، واقتناعها بجدواه وجديته، وما يستلزم ذلك من بناء الثقة بين الدولة والجماعة بعد عقود من الصدام والمواجهة. 2-شرط موضوعي: هو وجود إرادة سياسية حقيقية ونوايا حسنة من الدولة في احترام الدستور -ولو في حده الأدنى- وقبولها بوجود تعددية سياسية حقيقية وهو ما أكده ذ فتح الله أرسلان للجريدة الأولى سنة 2009* "إن انتقالنا إلى حزب سياسي مرتبط بتوفر الظروف السياسية باعتبار أن معارضة الجماعة تقوم على معارضة النظام وليس المعارضة السياسية على شاكلة الأحزاب القائمة". السؤال الآن هل يتوفر الشرطان؟ وهل نضجت الحياة السياسية لتستجيب العدل والإحسان، لمناشدات كل من ذ توفيق بوعشرين والشيخ الفزازي المتوالية؟ ينطلق كل من الشيخ الفزازي والأستاذ بوعشرين وغيرهما من مسلمة أن المغرب قد تغير، وأننا نعيش عهدا جديدا بعد عهد صار قديما، وأن الدستور الجديد هو مرحلة قطيعة مع ما سبق فإلى أي حد هذا الكلام صحيح وهل هما مقتنعان به حقا؟ ولماذا قفزا عن المنهجية التي حضر بها الدستور الحالي، وعن الطريقة التي أجري بها الاستفتاء وعن نتائجه الحقيقية؟ ولماذا لم يجيبا هل يعبر هذا الدستور عن إرادة الشعب حقا؟ وهل يستطيع عرابو المخزن أو غيرهم من الناصحين الصادقين أن ينقلوا مطالب العدل والإحسان وآلاف المغاربة بإصلاحات جدية وبضمانات سياسية ملموسة؟ قد نختلف مع العدل والإحسان في كل شيء لكننا نتفق معها على أن ما يقع هو "حيل مخزنية، ومسكنات يراد بها التهدئة ريثما يتم الالتفاف على (الثورة) والإجهاز على الثائرين. .....إنها لا شيء أمام هول الفساد الذي ينخر البلاد والعباد، وإنها مجرد ترميمات لبناء مهترئ (روتوش) وأنه لا محيد عن التظاهر... والبركة في الحركة."، لسنا نحن الذين نقول فضيلة الشيخ، بل هو الواقع الذي يقول ويشهد، والذي –للأسف- لا تقبلون به وتضعون رؤوسكم في الرمل حتى لا ترونه كما هو، كم كنا نتمنى أن هذه النصائح الأخوية الصادقة من رجل قدم كثيرا للدعوة الإسلامية في هذا البلد وقام بمراجعات جريئة، وصار أكثر هدوء ورصانة في خطابه ومنهجه أن تكون واقعية، وكنا سنعينه على مطالبه لولا أن الأيام والوقائع تتبث، مرة بعد مرة، أن الجماعة ومعها حركة 20 فبراير على حق وأن اختيار المقاطعة والممانعة السياسية الذي تنتهجه هو الأصوب والأسلم والمقبول -عند أمثالي من الديمقراطيين-، مادامت تعبر عن ذلك بشكل حضاري وسلمي بعيدا عن العنف ولا تخدم أجندات أجنبية، أم إن المطلوب حسب تعبير ذ بو عشرين "دخول خيمة عهد جديد ولو بالتدريج" ولو بالإغراء بعد أن نجح إدريس البصري" في جر إسلاميي العدالة والتنمية إلى حقل العمل الشرعي"** وانظر إلى التعابير جر، وإغراء، وخيمة، وبيت طاعة، نفس العقلية المخزنية التي لا تعرف مصطلحات التفاوض والحوار والتشارط والتعاقد، أي أن السيناريو المتوقع أن يؤسس العدلاويون حزبا ويدخلون البرلمان ويتطربشون ويتكرشون ويقدمون فروض الولاء والطاعة، أما أن يكونوا معارضة حقيقية ندية للمخزن فهذا غير مقبول بحزب وبلا حزب، فتكون الدولة بذلك ربحت عبدا جديدا وصفوف المعارضة خسرت قلعة من قلاعها. إن المغاربة بعد 20 فبراير -بالعدل والإحسان أو بغيرها- أسسوا لشرعية جديدة قائمة على الاختيار والتشارط أو على الأقل أعلنوا عن نهاية شرعية وراثية تقليدية قائمة على الفرض والغصب، شرعية ديمقراطية، يكون الاحتكام فيها للشعب ولصناديق الاقتراع وللشارع وهذه ليست منة من أحد أو تفضل، بل هي حصيلة تضحيات تراكمت لعقود وأي محاولة للمناورة بهذا الشأن هو مغامرة، فالشعب كما لن يقبل المساس بإسلاميته وعقيدته، فلن يقبل أن تفرض عليه أقلية مخزنية نظاما استبداديا تقليديا وراثيا لا ديمقراطيا. ****** *الجريدة الأولى، العدد: 312، بتاريخ 23-24 ماي 2009 ** مقال توفيق بوعشرين "العدل والإحسان والسلطة في حاجة إلى الحوار"