أخط هذه السطور، والألم يعصُر أحشائي من شدّة خوفي على بلدي. ليت هذا الخوف سببه خطر خارجي من عدو حاقد، ولكن الأدهى والأمرّ، أن يكون خوفي مصدره هو أن بعضا من أبناء بلدي، يحفرون بأيديهم العارية أخدود الفُرقة والانقسام، وهم لا يشعرون. استفاق المغرب بكل فئاته الشعبية وأطيافه السياسية، وبكل أجهزته الحكومية على غضبة الريف، فتعرّت للعيان حقيقة مرّة مفادها أن المغرب مغربان وبأن المواطنين مراتب ودرجات. ويجب أن نعترف أن لأهل الريف فضلا كبيراً في هذه الاستفاقة الصدمة. افتضحت النخبة السياسية واعترف المسؤولون ضمنيّا بالإهمال والتقصير. ووعد ملك البلاد بالقصاص وبالانتصار للمظلومين، وأنه سيجعل من إقليمالحسيمة منارا للمتوسط فعلا لا قولا .فماذا بعد ...؟ ! ظننا أن الأمور سترجع إلى سابق عهدها وأن الهدوء قد عمّ أرجاء الإقليم ليستمرّ ورش الإصلاح، ولكن إعلان نشطاء حراك الريف عبر وسائل التواصل عن تنظيم مسيرة "أنوال"، بعثر الأوراق وعصف بالآمال، وكأن الريفيين لم يُبلّغوا الرسالة، وكأن المغاربة في باقي الأقاليم قد صمّت آذانهم عن مطالب سكان الريف. اختار نشطاء الحراك اسم "أنوال" عنوانا لمسيرتهم وكأن "أنوال" شرف خُصّوا به وحدهم دون باقي المغاربة، وكأن معركتهم هي معركة مع مستعمر وعدوّ رسموه في خيالهم. والحقيقة أنهم سيكونون في مواجهة رجال أمن هم بالدرجة الأولى مواطنون أمثالهم، دُفع بهم إلى إقليمالحسيمة دفعا لأنهم فقط اختاروا مهنة المخاطر مصدرا للرزق وإلا من سيقبل بأن يعود إلى أحضان أسرته وأولاده بعاهة في رأسه بسبب حجر طائش ألقى به طفل لا يدري ما يفعل. إلى ماذا سعى نشطاء الحراك من خلال محاولة تنظيم مسيرة "أنوال" ؟ هل إلى استعراض العضلات وإرهاب الدولة ؟ أم إلى الضغط على القضاء للإفراج عن المعتقلين، أم لإسماع العالم صوت الريف؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد إشباع لنشوة الانتصار على عدو افتراضي ؟. مُنِعت المسيرة بقرار من السلطات المختصة بدعوى عدم احترام مسطرة الإجراءات القانونية لطلب الترخيص للمسيرة وهذا في اعتقادنا سوء تقدير من الداخلية وميل واضح نحو اعتماد المقاربة الأمنية كحل نهائي للأزمة. لا يمكن لأحد أن يصدّق بأن الداخلية التي في استطاعتها أن تؤمن مسيرة مليونية بالرباط تعجز عن تأمين مسيرة ولو كانت بمائة ألف أو يزيد في شوارع الحسيمة. فلماذا المنع إذا ؟! ألا تعلم الداخلية بمختلف أجهزتها الأمنية وخبرتها الطويلة أن المنع يزيد من درجة الاحتقان ويضخم الإحساس لذا جماهير الريف بالحيف والظلم والحكرة ؟. ثم ألم يؤطر نشطاء الحراك مسيرة في الحسيمة قدّرت بأكثر من خمسين ألف متظاهر دون أن يقع حادث واحد يذكر؟ ألم نكن في غنى عن الاصطدامات التي وقعت بعد المنع بين رجال الأمن والمحتجين والتي أدت إلى إصابات خطيرة بين صفوف رجال الأمن قدّرت بالعشرات؟. ماذا كان سيحدث لو سمحت السلطات بالمسيرة وعبّر المتظاهرون عن مطالبهم فتخفّ بذلك درجة الاحتقان في الإقليم ؟ من يصدّق أن مسيرة "أنوال" خطر على الأمن، والإقليمُ كله قد أصبح منطقة عسكرية ؟. قد نتفهّم هوس الداخلية في الحفاظ على الأمن وأن ما قامت به من منع للمسيرة ما هو إلا إجراء احترازي. إلا أننا لا نفهم موقف أحزاب الأغلبية الحكومية التي أصدرت بيانا جماعيّا تعبّر من خلاله عن مساندة لا مشروطة لقرار الداخلية بمنع المسيرة، وكأن أحزاب الأغلبية أصبحت لا شغل لها إلا إصدار بلاغات فارغة من أي حكمة أو تبصّر وأن تحشر أنفها في موضوع هَجَرتْه منذ أشهر فتضع بذلك نفسها في موقف حرج أمام ساكنة الريف، خاصة وأن رصيد الثقة بينها وبين هؤلاء قد نزل إلى درجة الصفر. ألم يكف أحزاب الأغلبية البيان الأول المخزي الذي خرجت به و نعتت فيه الريفيين بالانفصاليين لتضيف بيانا آخر تنحاز فيه الانحياز كله لقرار الداخلية رغم أن مهمة الأحزاب والنخب السياسية هي تقليص الهوّة بين الحكومة وطبقات الشعب. لعمري إن هذا لشيء عجاب. وليت الأمر وقف عند بلاغ أحزاب الأغلبية الحكومية، بل لقد خرج علينا بعض المسؤولين الحكوميين بتصريحات أقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها عارية عن كل بُعد نظر أو تعقّل فهذا وزير الدولة المكلّف بحقوق الإنسان، والنجم المتألق لحزب العدالة والتنمية الذي من المفروض أن يكون أول مدافع عن حقوق المواطنين وحرياتهم، نراه يدخلنا في أحد تصريحاته الصحفية، في جدال عقيم حول قانون التظاهر لينتهي به المطاف ليقول في آخر التصريح بأنه لم يتدخّل لدى وزارة الداخلية للسماح للمسيرة لأن نشطاء الحراك لم يقدموا طلبا مُسبقا في الموضوع. فبالله عليكم هل هذا كلام يليق برجل بمنصب وزير حقوق الانسان. إن تصريح معالي الوزير يذكّرني بذلك الطالب الفاشل الذي يملأ ورقة الامتحان بكلام فضفاض لا علاقة له بالموضوع. ويخرج علينا مسؤول حكومي آخر بتصريح للصحافة، ليس هو إلا نجم الأحرار ووزير كل شيء بوجه سمح وابتسامة عريضة ليقدّم درسا للرّيفيين في الانضباط والمسؤولية وروح المواطنة وأن الاحتجاج يؤدي إلى تعطيل الأوراش الإصلاحية ويبعد المستثمرين. كلام جميل وكلام معسول ولكن هل نسي المسؤول الحكومي المحترم أنه أحد الأسباب الرئيسية في البلوكاج الحكومي الذي عطّل الأوراش في الريف وباقي مناطق المغرب الأخرى لأكثر من ثمانية أشهر وأن الميزانية لم يصادق عليها في البرلمان إلا بعد تكوين الحكومة الجديدة التي أخضعها نجم الأحرار لشروطه القاسية ثم أليس هذا المسؤول الحكومي هو الذي كان بيده ملف الصيد البحري الذي عاث فيه المفسدون وكان من بين نتائجه موت محسن فكري "طحنا" في حاوية الأزبال وإلى اشتعال الريف. وإذا لم تستح فقل ما شئت. إن على النخبة السياسية الحاكمة أن تعِي بأن الأحداث التي تعاقبت على البلاد بعد انتخابات السابع من أكتوبر وإلى حدّ الآن، والتي كانت فاعلا أساسيا فيها، قد أفقدتها كل مصداقية أمام المواطنين، ولكي تستردّ النخبة السياسية الحاكمة هذه المصداقية لابدّ عليها أن تقلّل من التصريحات الجاهزة سلفا، وأن تشتغل بجدية أكبر، وإلا فإن قطار الزمن سيخلّفها وراءه لتاريخ غير مشرّف. بقيّت كلمة أخيرة نوجّهها إلى أعيان الريف ومنتخبيه وإلى كل شرفاء إقليمالحسيمة. إلى الشيوخ الذين يعرفون الإقليم وطبيعة أهله وتاريخهم هي أنه لم يعد من المعقول ترك الشباب وحدهم يعبثون بمصيرهم ومصير منطقتهم ومصير وطنهم، وأن المواجهة المفتوحة مع الدولة ممثلة في أجهزتها الأمنية، لن تؤدي إلا إلى تصعيد أكبر، وإلى اشتعال نار الحقد والغضب التي لن تنطفئ إلا وقد أصبحت الأرض رمادا بمن عليها. لقد سئمنا وسئم المغاربة كلهم، اجترار تاريخ مظلم وقعت أحداثه بين السلطة والريف في القرن الماضي، تاريخ لا ناقة لنا فيه ولا جمل، فلماذا نتحمل تبعاته ،ونحن اليوم في عهد جديد يحكم فيه ملك لا يقبل الضّيم ولا يفرّق أبدا بين مواطني بلده مهما كانت المؤهلات ومهما كانت المرجعيات، ألم تكن "أجدير" أولى المناطق الريفية التي زارها الملك في بداية عهده بالحكم .؟ إن المعتقلين من نشطاء الحراك والذين اتخذتهم بعض الحركات اليسارية وبعض الجمعيات الحقوقية المشبوهة حصان طروادة الذي يعيد إليها أمجادها الخالية – هم أبناء هذا الوطن الشرفاء الذين لم يخرجوا إلى شوارع الحسيمة إلا بدافع الغيرة الشديدة على هذا الوطن .وإذا كان القضاء سيقول كلمته في حقهم فإن لهؤلاء الشباب أبا رحيما يعي جيداًً بأن ما اقترفوه لم يكن إلا فورة شباب رفض الظلم والحكرة. وبفضل حكمة صاحب الجلالة وتبصره لا بد وأن يعرف ملف المعتقلين طريقه إلى الحل وإلى الانفراج. فيا شرفاء إقليمالحسيمة وأعيانه، عليكم تقع مسؤولية حماية الريف وأهله، وتجنيب البلاد آفة الفتنة والانقسام، وذلك بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة وبالمجادلة بما يعود على الوطن بالنفع والخير العميم. يا شرفاء الريف أليس منكم رجل رشيد .