قدم الحراك الشعبي في الريف نموذجا جديدا للحركات الاحتجاجية التي شهدها المغرب خلال مرحلة الاستقلال. وكغيره من الحركات الاجتماعية فقد نشأ حراك الريف في سياق خاص الذي أصبغ عليه ميزته وجعله يختلف في جوانب كثيرة عن غيره من الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية. سأحاول من خلال هذه الورقة استقراء أهم مميزات الحراك الشعبي في الريف عن حركتين احتجاجيتن اثنتين عرفهما المغرب خلال العقد الأخير وهما الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني خلال فترة 2005-2008، وحركة 20 فبراير في عام 2011 التي ظهرت في سياق انتفاضات الربيع العربي. وأستعمل هنا الأسماء التي اشتهرت بها هذه الحركات الاحتجاجية في وسائل الإعلام دون أن يكون لهذه الأسماء أي دلالات اصطلاحية في هذه الورقة. كغيره من الحركات الاحتجاجية وانتفاضات ما سمي ”الربيع العربي“ كان لوسائل التواصل الاجتماعي أثر كبير في استمرار حراك الريف واتساع وهجه، وقد بُثت البداية الأولى للحراك في الوقفة الاحتجاجية التي تلت وفاة محسن فكري مباشرة على الفايسبوك يوم 28 أكتوبر 2016. لم يشكل حراك الريف قطيعة نهائية مع التجربتين السابق ذكرهما، كما أنه ليس نسخة مطابقة لهما. اتفقت كل هذه الحركات على نهج السلمية في أشكالها الاحتجاجية، كما أجمعت أيضا على محاربة الفساد في عمومه، وإن كان مدى حركة 20 فبرير ومطالبها ذات بُعد وطني عام، وليس محليا كما هو شأن الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني وحراك الريف. أما من حيث الاختلاف والتميز فسأعرض أهمها في الفقرات الآتية. وشكل التضمان الوطني الواسع مع كل هذه الحركات ميزة مشتركة، خاصة مع الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني وحراك الريف باعتبارهما حركتين محليتين. وتجسد هذا التضامن في مناسبات كثيرة ولعل أبرزها القافلة التضامنية إلى مدينة سيدي إفني يوم 22 يونيو 2008، ومسيرة الرباط التضامنية مع حراك الريف في 11 يونيو 2017، والمسيرة الوطنية المزمع تنظيمها إلى الريف بقيادة بعض الشخصيات الوطنية خلال الأيام القادمة. مطالب اجتماعية واقتصادية محددة ومشحونة بالأبعاد التاريخية والسياسية إذا قارنا مطالب حراك الريف مع حركة 20 فبراير سنجد أن الحراك الشعبي في الريف حدد لنفسه أهدافا واضحة تمثلت في وثيقة المطالب التي أعلن عنها بعد أسابيع قليلة من بدايته، وتعد هذه الوثيقة ملفا مطلبيا اجتماعيا واقتصاديا بالدرجة الأولى، ويشبه حراك الريف في هذه الخاصية مع الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني التي كانت مطالبها هي أيضا اجتماعية واقتصادية. ورغم شمولية أهداف حركة 20 فبراير، إلا أنها لم تتفق مكوناتها على لائحة محددة لمطالبها، وكان البعد السياسي طاغيا على شعاراتها. وقد فرض السياق الوطني والإقليمي الذي برزت فيه حركة 20 فبراير طبيعة شعاراتها وأهدافها (إسقاط الفساد وتغيير الدستور وإقرار الملكية البرلمانية). عكس الحراك الشعبي في الريف الذي فجره حدث مأساوي ذو طابع اجتماعي واقتصادي عرضي، لكنه تطور بسرعة مع مرور الأيام مما جعله يبلور ملفا مطلبا شاملا ضمَّ مطالب حقوقية وقانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية. ويمكن أن تشكل هذه اللائحة من المطالب أرضية لبرنامج شامل للتنمية المحلية. ورغم رجحان المطالب الاجتماعية والاقتصادية على قائمة الملف المطلبي للحراك نظرا لظروف نشأته، فإن هذه المطالب تغذت من إرث تاريخي ونفسي ممزوج بالشعور بظلم جماعي، حيث كان خطاب قادة الحراك دائما مشحونا بالأبعاد التاريخية والنفسية والسياسية. فإلى جانب الحضور الضمني والصريح أحيانا للأبعاد التاريخية للحراك من خلال استحضار بطولات الأجداد في زمن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، والأحداث التارخية التي شكلت صداما داميا بين الريف والدولة، خاصة أحداث 1958-1959 الأليمة، واستدعاء الرموز التارخية من أشخاص ورايات وشعارات، فإن الحراك ضمَّن أيضا قائمة مطالبه بعض الأمور التي تندرج ضمن هذا البعد التاريخي والسياسي والتي تتمثل في مطلبين اثنين وهما: أولا إلغاء ظهير 1.58.381 الذي يعتبر إقليمالحسيمة منطقة عسكرية، وثانيا الشروع في اتمام أشغال متحف الريف وترميم كل المآثر التاريخية بالمنطقة. ويعد القسم الذي كان يؤديه المتظاهرون استلهاما لنهج الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي بدأ حركته بالقسم الذي أداه المجاهدون قرب مدينة إمزورن. وقد أبدع قادة الحراك في شكله القسم ومضمونه، حيث كان يؤدى جماعيا وكأنه تجديد للعهد على التضحية في سبيل قضية أسمى من المطالب المادية، إنها قضية مجردة مرتبطة بالأرض والتاريخ. لا يظهر في نص هذا القسم أي إشارة إلى المطالب المادية الاجتماعية والاقتصادية: ”أقسم بالله العلي العظيم أن لا نخون وأن لا نساوم وأن لا نبيع قضيتنا ولو على حساب حياتنا. عاش الريف، ولا عاش من خانه“. ولا يبدو أن عبارة ”قضيتنا“ الواردة في نص القسم تحيل فقط إلى المطالب المعلنة، لأنها جاءت عامة مجردة. أُدي القسم في تظاهرات مختلف مناطق الريف، كما أودي في بعض تظاهرات أبناء الريف في أوروبا. هو إعطاء العهد للريف برمته أرضا وتاريخا وإنسانا، يتجاوز في روحه تحقيق الملف المطلبي المعلن. لذلك أكاد أجزم أن ترميم العلاقة بين الريف والدولة يصعب تحققه دون استحضار هذه الأبعاد التاريخية في أي مشروع لتنمية المنطقة وإعادة الثقة بينها والمركز. قيادة موحدة بخطاب عفوي واستيعابي ينهل من مصادر متنوعة عكس حركة 20 فبراير التي كانت تفتقد إلى قيادة موحدة، وعلى خلاف الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني التي كانت تؤطرها سكرتارية محلية مكونة من هيئات سياسية ومدنية، فإن الحراك الشعبي في الريف وضع مسافة بينه وبين الأحزاب السياسية، والتف أساسا على شخصية قائد الحراك، ناصر الزفزافي. لكن من الناحية الميدانية كان بصحبة الزفزافي مجموعة من الشباب تفاوتت خصائصهم الكارزمية. ولا شك أن قادة الحراك تعرضوا للكثير من الإغراءات والتهديدات ومحاولات الاحتواء بكل الطرق لمدة سبعة أشهر، لكنهم صمدوا. لكن هذه المركزية في قيادة الحراك الشعبي رغم أهميتها من حيث القدرة على التعبئة ووحدة الصف، لكنها لا تخلو من سلبيات لاسيما قدرة الحراك على الاستمرار والصمود بعد اعتقال القيادة من الصفين الاول والصف من القيادة. وقد اعتمد قادة الحراك بالريف، لاسيما ناصر الزفزافي، خطابا عفويا وسهل الفهم يستوعب كل الأطياف السياسية والفكرية يجد الجميع نفسه ممثلا فيه، وحتى بعض زلات اللسان كان يتفهمها الناس، لأن أولائك الشباب كانوا يتحدثون بعفوية صادقة وبدون عقدة أو رقابة ذاتية على كلامهم. خطاب ينهل من مصادر متنوعة وبشكل منسجم ومتماسك. تنوعت مصادر الخطاب بين المرجعة الإسلامية حيث كان الزفزافي يستشهد دائما بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والمرجعية الثقافية الأمازيغية، والمرجعية الحقوقية، والمرجعية التاريخية. انطلقت حركة 20 فبراير بنداء وجهه شباب مستقلون حزبيا لكن كانت لبعضهم تجارب مع تنظيمات سياسية من قبل، كما كان لشباب التنظيمات السياسية أثر بارز في قيادة الحركة وتنسيق فعالياتها والتعبئة لها في مختلف المدن، حيث تَشكَّل العمود الفقري لمسيرات هذه الحركة من أعضاء جماعة العدل والاحسان والتنظيمات اليسارية والحركة الثقافية الأمازيغية في بعض المدن، ويسري الأمر ذاته على الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني. أما الحراك الشعبي في الريف فكان عبارة عن كتلة بشرية مندمجة ومنصهرة في جسم واحد، وليس تشكيلا لمكونات سياسية متفرقة تجمعها أهداف مشتركة. فرغم أن شباب التنظيمات السياسية والمدنية كانوا حاضرين في حراك الريف، لكنهم لم يظهروا بصفتهم الحزبية أو الجمعوية. وقد حافظ الحراك على استقلاله عن مختلف التنظيمات السياسية، بل كان خطاب قادة الحراك معاديا إلى حد كبير للأحزاب السياسية التي تشارك في العملية الانتحابية. لوحظ في البداية أن قادة الحراك كانوا يضعون الأحزاب السياسية (يصفونها بالدكاكين السياسية) والجمعيات المدنية (يصفونها الجمعيات الارزتزاقية) في خانة واحدة، لكن مع مرور الأيام وبروز دور مناضلي بعض التنظيمات المدنية ومشاركتهم المكثفة في الحراك مثل نقابة الاتحاد المغربي للشغل UMT التي اعتقل أربعة من مناضليها على ذمة المشاركة في الحراك، جعل قادة الحراك يُليِّنون موقفهم من الجمعيات والنقايات، أو على الأقل لا يثيرونها في خطاباتهم عكس الأحزاب التي ظلت باستمرار موضع انتقاد وهجوم محميلن لها جزءا كبيرا من مسؤولية ما آل إليه الوضع في الريف. وهكذا سيتحول هذا الحراك إلى حركة شعبية عابرة لحدود الانتماءات السياسية والفكرية والطبقات الاجتماعية، حيث انصهرت فيها مختلف الأطياف السياسية والفكرية والاجتماعية، وكادت تتحول إلى تنظيم جماهري عفوي، حيث أصبح يطلق على ناصر الزفزافي من قبل الكثير من شباب الحراك (أمغار)، ولعل ظهوره في مسيرة 18 ماي 2017 محاطا بمجموعة من الحراس الشخصيين، واستمرار شباب الحراك في الاستشهاد بأقوله ونصائحه حتى بعد اعتقاله، والاهتمام الكبير برسالته من السجن تحمل كلها دلالات كثيرة على تطور الحراك ورمزية قيادته. ووعيا من خطورة مأسسة الحراك لاسيما من الناحية الأمنية، جعل قادة الحراك يرفضونلأي شكل من أشكال التنسيق ووحدة التنظيم مع اللجان المحلية للحراك بالقرى والبلدات. وما يميز الحراك الحالي في الريف أيضا عن باقي الحركات الاحتجاجية في المغرب أنه استطاع أن يستوعب بخطابه أبناء الريف في الداخل والخارج، بغض النظر عن موقعهم الاعتباري، ولم يكن مجرد حراك المناضلين والناشطين المدنيين والملتزمين سياسيا. لقد تحول فعلا إلى حركة شعبية حقيقية، في كل مدن الريف وقراه، واستطاع كما سأشير لاحقا أن يعبأ أبناء الريف في الشتات في مختلف بقاع العالم. لقد تداعت كل قرى الريف لاسيما في إقليمالحسيمة، والكثير من قرى إقليميالناظور ودرويش، للمشاركة في هذا الحراك. فقد شهدت بعض القرى الصغيرة لأول مرة في تاريخها مسيرات ووقفات احتجاجية، تُذكر هذه الهبة بأحداث 58-59 التي كانت حركة شعبية عمت أغلب قبائل الريف. وقد ظهر هذا المستوى من التآزر -الذي يكاد يصل إلى مستوى الإجماع- جليا في الاستجابة الواسعة للاضراب العام لمدة 3 أيام متتابعة في بداية شهر يونيو 2017، الشيئ الذي لم تستطع فعله كل النقابات والاحزاب والجمعيات مجتمعة. وحتى النخبة الريفية في الداخل وإن لم يعبر الكثير منها عن رأيهم بشكل صريح، لكنهم كانوا متضامنين مع الحراك ومطالبه، ويظهر هذا في ما يتبادلونه فيما بينهم من تسجيلات وأخبار الحراك ورسائل التضامن عبر الدردشات الخاصة على وسائل الاتصال الجديدة، وخاصة أولئك الذين يشغلون مناصب المسؤولية في الإدارة العامة، ويمنعهم وضعهم الاعتباري من البوح بمواقفهم. ويمكن اعتبار هذه الفئة جند احتياطي للحراك، وإذا حدث أي تطور دراماتكي لهذه الأزمة فسنشهد موجة ثانية للحراك بامتداه النوعي تنخرط فيه هذه الفئة. القدرة على الاستمرار وإبداع أشكال احتجاجية غير مسبوقة أبان حراك الريف عن قدرة كبيرة على الاستمرار، وهذا ما ميزه إلى حد ما عن حركة 20 فبراير. فقد راهنت الدولة على عامل الزمن ظنا منها أن الحراك سيخبو مع مرور الوقت. ولعل هذا الاعتقاد الخاطئ للدولة هو الذي جعلها لا تفتح حوارا مباشرا مع قادة الحراك، مستهينة بقدرتهم على التعبئة والحشد. ويعود استمرار الحراك في الريف بوهج متصاعد كميا ونوعيا لمدة أكثر من ثمانية أشهر دون أن يحظى بدعم مالي أو لوجيستيكي من جهة معينة إلى قدرة شباب الحراك في التعبئة وتجديدهم في أشكال الاحتجاج، وتفاعلهم السريع مع كل المستجدات سواء تعلق الأمر بتصريحات رموز الدولة ومبادراتها، أو مبادرات بعض الفاعلين المدنيين. كما استطاع قادة الحراك أن يستغلوا كل أخطاء الدولة في التعامل مع الأزمة وجعلها فرصة لبث روح جديدة في الحراك. ومن بين الأخطاء التي ارتكبتها الدولة ووظفها شباب الحراك لمزيد من الحشد والتعبئة، أذكر على سبيل المثال، أولا استعمال الدولة للقوة في ساحة المعارض الذي أعطى للحراك دفعا جديدا، وثانيا سوء تنظيم خروج جمهور الوداد من ملعب الحسيمة عكس ما جرت عليه العادة من قبل، رغم أن عدد الجمهور في تلك المباراة كان أكثر مما اعتادته المدينة، وثالثا اتهام بعض زعماء الأحزاب الأغلبية الحكومية للحراك بالانفصال، ورابعا موجة الاعتقالات التي زادت من تضامن الساكنة مع الحراك. ويعد غياب الحوار أو بالأحرى رفض الدولة الاعتراف بقادة الحراك والجلوس معهم على طاولة الحوار لاسيما خلال الأسابيع الأولى قبل أن يحتقن الوضع أكثر ويصل الطرفان إلى القطيعة من أهم العوامل التي أبقت على الأزمة وزاد من تفاقمها. وتجدر الإشارة إلى أن انطلاق الحراك أول مرة مباشرة بعد وفاة محسن فكري اتسم بالحوار حيث حضر عامل الإقليم ونائب الوكيل العام للملك إلى عين المكان على الساعة الثالثة صباحا وتحاورا مع السكان الذين شاركوا في الوقفة العفوية التي تلت الحدث الأليم، والذي شهد الظهور الأول لناصر الزفزافي في هذا الحراك من خلال تنظيمه للنقاش. مع الأسف راهنت الدولة على عامل الزمن ليمتص السكان الصدمة النفسية التي تسبب فيها موت محسن فكري، وعمدت إلى اعتقال بعض الأشخاص المتهمين في الحدث كأكباش فداء للتخفيف من هذا الوضع، بدل محاكمة الفساد في الميناء والمسؤولين على المضاربات غير القانونية والصيد الجائر، بالإضافة إلى أن الحكومة -أو على الأقل القطاعات الوزارية ذات الصلة- كان عليها أن تتحمل مسؤوليتها السياسية. ومن أبرز علامات قوة الحراك مقاومته لبعض المناورات التي كانت تهدف في نظر قادته إلى نسف حركتهم الاحتجاجية، جاعلين من وسائل التواصل الاجتماعي فضاء عاما افتراضيا للتعبئة. فقد استطاعوا مثلا الالتفاف على محاولات والي الجهة للتواصل المباشر مع الساكنة، والاعتماد على بعض الجمعيات، وقاطعوا مناظرة طنجة التي لم تفض إلى أي نتائج عملية. ومن جهة أخرى، أبان شباب الحراك في الريف على قدرة كبيرة في إبداع أشكال احتجاجية مثيرة وغير مسبوقة على الأقل في المغرب، بقصد تفادي تدخل قوات الأمن لقمع الاحتجاج والاعتقال. وتتمثل أبرز هذه الأشكال الاحتجاجية، التي لا يقتصر المحتجون على التعبير من خلالها عن مواقفهم ومطالبهم، بل أظهروا أيضا الحسيمة باعتباره إقليما محاصرا، في تنظيم مسيرات ووقفات داخل مياه البحر وعلى الشواطئ، وإطفاء الأضواء وقرع الأواني المنزلية من على السطوح. ومن بين التكتيكات التي اعتمدها شباب الحراك أيضا اختراق صفوف الجبهة المناهضة لهم، مثل استدراجهم لأحد الأشخاص المتهمين بالتعاون مع السلطات المحلية للتشويش على الحراك، وتسجيل مكالماته وإذاعتها على الانترنيت. وقد كشفت هذه التسجيلات وجود محاولات لتجنيد بعض الشباب وإغرائهم بالمال لنسف الحراك أو على الأقل التشويش عليه. مشاركة المرأة تحدث الفارق: هل هي مؤشر على تحول سيوسيوثقافي في الريف؟ تعد مشاركة المرأة الريفية في الحراك نقلة نوعية كبيرة في انخراط المرأة الريفية في الشأن العام لاسيما في مناطق عرفت بغياب المرأة عن الفضاء العام، وبالأحرى المشاركة في المظاهرات أو تنظيم مسيرات نسائية خالصة كما ما حدث في إمزورن. والأهم في هذه المشاركة أنها لم تقتصر على تأثيث المسيرات والوقفات، بل كانت في الصفوف الأولى وقد اعتلت بعضهن المنصات وقُدن المسيرات في مدينة الحسيمة، وتوجد إحدى قيادات الحراك ضمن المعتقلين. ساهمت عوامل كثيرة في هذا التطور، ولعل أهمها المشاركة المتنامية للمرأة الريفية في الشأن العام خلال العقد الأخير والذي ظهر في الجمعيات المدنية ومختلف مستويات الانتخابات وتسيير الشأن المحلي، وارتفاع عدد الإناث الحاصلات على الشواهد الجامعية وغير ذلك… وهناك عامل آخر مهم كان له أثر بدون شك في المشاركة الملفتة للمرأة في الحراك ويتمثل في ثقة الأسر الريفية في قادة الحراك الذين أظهروا في سلوكهم وخطابهم أنهم أهل للثقة. وهذا ما يفسر أن تَهِتف امرأة ريفية متزوجة باسم رجل آخر في التظاهرات، أو تحمل صورته، أو تلبس قميصا يحمل صورة أحد قادتها في مجتمع معروف بالغيرة الشديدة. نعم هناك تطور ثاقافي واجتماعي مهم، وإن لم يرقى بعد إلى اعتباره تحول سيوسيوثقافي بمعنى الكلمة، لكن أيضا كارزمية قادة الحراك التي تجاوزت الاعتبارات الشخصية كان لها الأثر البارز في هذا الانخراط المثير للاهتمام للمرأة الريفية في هذا الحراك والذي سيكون موضوع دراسات علمية كثيرة في المستقبل القريب. رغم أن مشاركة المرأة في الحركات الاحتجاجية أصبحت ظاهرة عامة في المغرب متجاوزة القيود التقليدية التي كانت تعيق من قبل انخراطها عمليا في الشأن العام، وقد ظهر هذا جليا من قبل في كل من الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني وحركة 20 فبراير، لكن الحراك في الريف كان أكثر تطورا بدفع بعض الفتيات إلى صفوف القيادة، بل أنه بعد اعتقال ناصر الزفزافي أشيع أنه ستخلفه فتاة على قيادة الحراك دون أن يثير ذلك أي تحفظ. مناعة الحراك من الاختراق رغم ما أصبحت تتعرض لها الحركات الاجتماعية من اختراقات خارجية في عالم تسعى فيه الدول إلى الإضرار بالدول المنافسة لها وتعزيز نفوذها السياسي فيها، وقد عايشنا ذلك بوضوح خلال انتفضات ”الربيع العربي“، ولا زالت بعض هذه التجارب تعاني من تبعات التدخل الخارجي بصرف النظر ما إذا كانت مقاصده نبيلة أم لا، فإن الحراك الشعبي في الريف لم يترك أي فرصة للاختراق سواء من القوى الخارجية، أو من بعض الأفكار التي يتبناها بعض أبناء المنطقة لاسيما في الشتات من قبيل الحكم الذاتي أو حتى الانفصال. كان قادة الحراك واعين بخطوره مثل هذا الاختراق، لذلك عملوا أولا على استبعاد بعض الأشخاص الذين تحوم حولهم شكوك تبني هذه الأفكار من مواقع القيادة، وثانيا استنكار بعض تصريحات أعضاء لجان الدعم في أوروبا ودعوتهم بجعل المطالب الاجتماعية والاقتصادية هي سقف الحراك، وثالثا التصريح في مناسبات كثيرة بتشبثهم بالوحدة الترابية للمغرب واعتبار أعضاء جبهة البوليساريو مجرد مرتزقة… ينبغي التفريق بين البعد العالمي أو العابر للحدود الذي يظهر في اهتمام وسائل الاعلام ومنظمات حقوق الانسان، وتدويل القضية الذي يمكن أن يتجسد في تبني حكومات دولة معينة أو مناقشة مطالب الحراك وطرحها في أجندة منظمات دولية حكومية مثل منظمة الأممالمتحدة وغيرها. فإذا كان البعد العالمي للحراك أمرا عاديا نظرا لما أصبحت تكتسيه حقوق الانسان منذ منذ عقود كثيرة من اهتمام عالمي يتجاوز الحدود الإقليمية للدولة، فإن البعد الدولي الذي قد يظهر في تبني حكومات دول أجنبية لأهداف الحراك ومناقشتها في منظمات دولية حكومية سيكون محط نظر، وقد ظل الحراك محصنا منه حتى الآن. وقد استطاع قادة الحراك امتصاص مشاعر التذمر العميقة لدى بعض الشباب الذين كانوا يطالبون أحيانا بشحن الحراك بشعارات قد توحي بمطالب انفصالية، في ظل حملات القمع والاعتقال التي كانت تقوم بها السلطات. وقد حذر الكثير من الغيورين السلطات المغربية من مغبة تكرار تجربة الصحراء، حيث ولدت الفكرة الانفصالية من رحم القمع وعدم الاعتراف بالآخر. ويعد رفض تنظيم مسيرة يوم 30 يوليو 2017 الذي يتزامن مع عيد العرش دليلا قاطعا على نضج الحراك وحصانته، رغم أن هذا الرفض جاء تلقائيا من نشطاء الحراك والمتعاطفين معه في ظل غياب القيادة التي توجد في السجن. كما أن تعبير بعض الأكاديميين والمثقفين والصحفيين والحقوقيين المنحدرين من الريف -رغم قلتهم- على تأييدهم وتعاطفهم مع الحراك ساهم، ليس فقط في الدفاع عن مطالبه المشروعة، بل أيضا في تحصين الحراك من أي إمكانية لاختراقه. تفاعل أبناء الريف في الشتات مع الحراك: ارتباط مصيري أم نزعة قبلية؟ حظي الحراك بالريف بدعم واسع من لدن أبناء المنطقة في الشتات لاسيما في الديار الأوروبية منذ انطلاقته الأولى، وذلك من خلال إنشاء لجان دعم وتنظيم المسيرات والوقفات في العديد من العواصم الأوروبية والتفاعل المباشر مع الحراك عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أظهر هذا الحراك الارباط الكبير لأبناء الريف في الشتات مع بلدهم، ولم تضعف سنوات الغربة الطويلة هذه العلاقة العاطفية العميقة. وبدون شك فقد عززت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الارتباط ووخففت إلى حد كبير الشعور بالاغتراب عن الوطن. لا يجد هذا التضامن أساسه فقط في عدالة مطالب الحراك، بل يستمد قوته أكثر بانتمائهم إلى هذه المنطقة الجغرافية وشعورهم بوحدة المصير، وهذا ما يفسر لنا أيضا ضعف، وربما الأصح غياب، تفاعل المهاجرين المغاربة المنحدرين من مناطق أخرى مع هذا الحراك. ويشبه حراك الريف في هذا البعد مع الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني التي كان فيها البعد القبلي حاضرا بقوة في خطابات قادتها، ويمكن أن يلاحظ ذلك بسهولة بالعودة إلى مداخلاتهم المسجلة، حيث نجد تردد عبارات من قبيل: انتفاضة أيت باعمران، التاريخ الباعمراني، وتحية باعمرانية، والمرأة الباعمرانية وغيرها….. ورغم هذه المساهمة الفعالة لأبناء الجالية الذي أعطى للحراك بعدا عابرا للحدود من حيث الدعم والمساندة، ومنحه إشعاعا عالميا، لكنه ظل عصيا عن الاختراق من أي جهة أجنبية رغم وجود الإغراءات، وحافظ على مناعته رغم محاولات بعض النشطاء تدويل الحراك الأمر الذي كان سيعقد الأزمة أكثر ويوصلها إلى النفق المسدود. خاتمة يبدو من خلال هذا العرض التحليلي أن الحراك في الريف أقرب في مضمونه وشكله إلى الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني 2005-2008، ويمكن اعتباره نسخة متطورة له، كما يتقاطع أيضا في الكثير من المميزات مع انتفاضة الريف في 1958-1959 من حيث انخراط عموم سكان المنطقة. يمكن استخلاص ثلاثة عوامل أساسية لاندلاع حراك الريف، ويمكن أن يتجدد في أي منطقة من المغرب وحتى خارجه إذا توفرت هذه العناصر الثلاثة والمتمثلة في: أولا احتقان اجتماعي واقتصادي؛ وثانيا الوعي بوجود ظلم جماعي وتاريخي مسنود بتضامن قبَلي و\أو جغراقي؛ وثالثا ضعف الوسائط بين الشعب والدولة من أحزاب سياسية وجمعيات مدنية وأعيان تقليديين. إذا توفر هذا الثالوث فلن نحتاج إلا إلى حدث مأساوي لينفجر الوضع. ويبدو أن المدن ذات الكثافة الأماريغية هي المرشحة أكثر لمثل هذه الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية المحلية. وفي الأخير يُطرح تساؤل مهم حول المسار السياسي الذي سيسلكه قادة الحراك في الريف إذا حدث انفراج قريبا. هل سيعيدون تجربة بعض قادة الحركة الاحتجاجية بسيدي إفني الذين انخرطوا في الانتخابات، ويترأس أحدهم الآن المجلس الجماعي، لكن يظل هذا الاخيار مستبعا بالنظر إلى مواقف وخطاب كل قادة الحراك التي عبروا عنها طيلة الحراك الشعبي. أم سينهجون خيارا ثالثا، أم سينسحبون من الحياة السياسية. في جميع الأحوال سواء انخرطوا في العمل السياسي أم واصلوا حياتهم العادية كما كانوا قبل انطلاق الحراك، فقد دخلوا التاريخ مبكرا، وصمودهم خلال الشهور الماضية داخل السجون وخارجها كفيل بأن يدخلهم سجل تاريخ الحركات الاحتجاجية، بل والتاريخ السياسي للمغرب. والأهم هو أن تنأى الدولة بنفسها عن نهج مقاربة انتقامية ضد هؤلاء الشباب في المستقبل. سعيد الصديقي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة العين بأبوظبي وجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس