01 غشت, 2017 - 12:17:00 يفيدنا التاريخ السياسي الحديث للمغرب أن الدين كان حاضرا في مسار تطور الحركات الاحتجاجية، فقد انطلقت أول شرارة للنضال الوطني ضد " الظهير البربري" الصادر في 16 ماي 1930من المسجد الأعظم بسلا، حيث ردد الوطنيون المغاربة دعاء "اللطيف" الذي لازال المغاربة يرددونه إلى الآن عند اشتداد النكبات والابتلاءات، ودبر الصلوات في فترة الجفاف بالصيغة الشهيرة " اللهم يا لطيف نسألك اللطف بما جرت به المقادير، لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر"، كما امتزج الخطاب الديني ضمن الاحتجاج السياسي للعلماء على السلطة في نماذج متنوعة من معارضتهم وهو مسلك جليّ في تجربة الشيخ محمد بلعربي العلوي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي في معارضتهما لدستور1962 وبعدهما في مواقف الشيوخ الصديقيين بطنجة، والشيخ الزيتوني بفاس والشيخ عبد السلام ياسين في رسالتيه الشهيرتين " الإسلام أو الطوفان" و " مذكرة لمن يهمه الأمر". كما أدت حدة الصراع بين السلطة السياسية و الفاعلين الدينيين على أحقية الكلام في الدين إلى بروز عدة توترات واحتجاجات مست مؤسسة المسجد وحولته من فضاء تعمّه السكينة والطمأنينة في رحاب الوعظ والإرشاد والتزكية،إلى مجال للصراع والتوتر والهيمنة والمعارضة، وفي هذا المضمار نستحضر احتجاجات المصلين بفاس على إعفاء الخطيب أبياط، وتمرد قبيلة أولاد الشيخ في اقليمقلعة السراغنة علىإعفاء إمامها الشيخ السعيد الصديقي، كما صار الأسبوع الأخير من رمضان في السنوات الأخيرة محطة لاحتجاج أنصار جماعة العدل والإحسان في الجهة الشرقية للمملكة ضد قرارات السلطات في منع الاعتكاف في المساجد. لكن كيف حضر الدين في حراك الريف؟ وهل اختلف سياق توظيفه من قبل النظام السياسي عن مرحلة حراك عشرين فبراير؟ وكيف تم استحضار البعد الديني في ثنايا الخطاب العفوي المباشر لزعيم الحراك وأيقونته ناصر الزفزافي؟ وكيف أججت واقعة خطبة الجمعة الشهيرة بمسجد محمد الخامس بالحسيمة والاحتجاجعلى مضامينها الوضع الأمني بالمنطقة؟ ولماذا أثار الاحتجاج على خطيب الجمعة حفيظة السلطة للتدخل بمقاربة أمنية قاسية؟ وكيف وظف العقل الديني والأمني للدولة مفهوم و براديغم " الفتنة" الديني لأهداف سياسية تروم تشويه و إضعاف حراك مدني واجتماعي محلي؟ وكيف اختلفت رهانات الفاعلين الدينين إزاء الحراك؟ كل هذه الأسئلة تروم هذه الورقة المقتضبة محاولة مقاربتها في سياق مقارن بشكل عام مع حراك عشرين فبراير للكشف هل بإزاء استمرارية أم قطيعة مع أثر الحراك الفبرايري وخصائصه؟ ثم لإبراز طبيعة حضور الدين ضمن هذه الثنائية أي الاستمرارية والقطيعة؟ كما ننشد من هذه الورقة محاولة إثارة عقل القارئ وفضوله المعرفي للبحث في السبل الفضلى لتحديد موقع الدين في الفضاء العام بما يخدم الانتقال الحقيقي من أسر السلطوية إلى سعة الدولة الديمقراطية المتصالحة مع هوية الشعب ومطالبه في الحرية والكرامة والديمقراطية. كشف الحراك الاجتماعي والمدني بمنطقة الريف الغطاء عن عدة تحولات مجتمعية عميقة مسّت في الصميم طبيعة علاقة المواطن المغربي اليوم بالدولة والدين والأحزاب السياسية، وأبرزت معطياته عن تجاوز الاحتجاجات السلمية في كامل منطقة الريف للعديد من المسلمات السياسية والاجتماعية المغربية في تجلياتهاالمرتبطة بمحددات التنظيم السياسي، والزعامة والتسليم للسلطة الدينية "للفقيه"، وفي التمثل الجمعي لخصوصية المنطقة الريفية التي شكلتالطبيعة المحافظة والتحررية لتدينها إحدى معالم تميزها، من خلال تميز الفرد الريفي تاريخيابتمثلهالمعياري للدين قوامه" المحافظة الاجتماعية" ومركزية قيم العدل والمساواة والحرية لديه، باعتبارها قيم دينية إنسانية أساسية طبعت التدين الريفي في سلوكه الاجتماعي والسياسي سواء في مساره الجهادي التحرري في مواجهة المستعمر الإسباني أو في الممانعة والمعارضة للتوجهات السياسية المركزية لنظام الملك الحسن الثاني. كما تتغيّ هذه المقالة كذلك تسليط الضوء عن حراك الريف في علاقته بالحقل الديني بمختلف مكوناته سواء في تطور حضور الخطاب الديني لزعيم الحراك ناصر الزفزافي في الفضاء العام منذ بداية الاحتجاجات في مدينة الحسيمة في أكتوبر 2016 بعد حادث المقتل المأساوي للشاب محسن فكري، أوفي رهان الدولة على مؤسسة المسجد وخطبة الجمعة لضبط وإضعاف منسوب الاحتجاج الريفي، وما نتج عن ذلك من تجلي بارز لتوتر رمزي بين تدين احتجاجي وتدين رسمي مهادن عن أحقية الكلام في الدين في فضاء المسجد وتوجيه المؤمنين في فهم السياسة ومنعرجاتها، وما تبعه من تطورات سياسية وقانونية زادت من تعقيد الوضع في المنطقة بعد خطبة الفتنة المشهورة التي أعادت إحياء النقاش العمومي حول موقع ووظيفة المسجد في الدولة الوطنية؟ وعن ضوابط وحدود علاقة خطبة الجمعة بتوجهات النظام السياسي؟ كما أسهمت هذه الواقعة الدينية والسياسية المنقولة عبر تقنية "المباشر" في الموقع الاجتماعي الفايسبوك في تمايز الحراك الريفي عن حراك عشرين في فبراير في معطى التمرد على السلطة الدينية الرسمية زادها عنفوانا وانتشارا استعمال تقنية " اللايف"ووجود زعيم محلي يمتلك ثقافة دينية وفصاحة تمتح من معين الخطاب الديني نفسه، وهما ميزتان أي حضور الخطاب الديني ووجود الزعامة افتقدهما الحراك الفبرايري في سنة2011، لكن هذا لا ينفيتملك الحراك الريفي في تراكم نضالي طبيعي لخصائص حركة عشرين فبراير على مستوى قوة شعاراتها السياسية الذي لخصه الشعار المركزي" عاش الشعب" أو على صعيد استمرارية صيغة التنظيم من خلال نموذج التنسيقيات المحلية والجموع العامة ، كما شكلت هيمنة فئات الشباب فيريادة و تأطير حراك الريف قاسما مشتركا مع الفعل السياسي لحركةعشرين فبراير، وهذاعامل قوةوليس بسّبة كما رأى البعض لارتباط المطالب التغييرية للشعوب بطموح وأحلام الشباب التي لا يستطيع أن يجاريها بإصلاحيتهموواقعياتهم الكثير من المنتفعين عضويابمنظومة الفساد السائدة. ومن ثمة فنحن بإزاء استمرار حركية الأثر السياسي والرمزي لحركة عشرين فبراير على مسار حراك الريف، فمعظم رموز حراك الريف مروا بالتجربة النضالية للحركة، وخبروا الفعل السياسي الجماهيري في تجمعاتها ومسيراتها التي امتدت طيلة سنة 2011وقد كان لهلاك الشبان الخمسة حرقا بوكالة بنكية إبّان الحركية الاحتجاجية السياسية لشباب الحركة ، وبعدها الوفاة المثيرة للشاب الاتحادي كريم لشقر سنة 2014،وما راج عنها إعلاميا وقتئذ من أنها كانت نتيجة للتعذيب في مخفر الشرطة،ثم المقتل الدراماتيكي للشاب السماك محسن فكري في حاوية شاحنة أزبال في الشارع العام، الأثر النفسي الكبير والعميقفي إثارة وحفز شباب الحسيمة على الصمود في نضال مستميت بشوارع المدينة وساحتها لمدة تسعة أشهر، رغم هول التضييق و وشناعة التهم الموجهة لهم من قبل السلطة وإعلامها ومثقفيها(الانفصال، التشيع،السلفية الجهادية، تلقي أموال من الخارج) كما أن تراكم خبرتهم النضالية جعلتهم يصوغون ملفا مطلبيا متنوعا يتداخل فيه الاقتصادي بالاجتماعي بالثقافي والأمني( مطلب إلغاء ظهير العسكرة) في حين نجد الخطاب الديني كان حاضرا في ثنايا الحراك بشكل عفوي وانسيابي في المتن الحجاجي والسلوك الاحتجاجي لزعيم الحراك ناصر الزفزافي. نحت حراك الريف تميّزه عن الحراك السياسي لشباب عشرين فبراير على مستوى الزعامة والقيادة الكاريزمية في شخصية الزفزافي الذي أصبح بين عشية وضحاها حديث الناس وشغلهم في كل النوادي، وصار أشهر من نار على علم. بينما نجد أن عنصر الزعامة غاب عن مسار حركة 20 فبراير نتيجة لرؤية سياسية مقصودة من قبل شبابها والقوى السياسية المساندةلهم، اختلاف الحراك الريفي كذلك عن سلفه الفبرايري تبلور في استثمار نشطاء الريف للموروث الثقافي المحلي مثل رمزية ذكرى أنوال ، وانتفاضة1958، وصور المجاهد الخطابي، وعلم الجمهورية الريفية في سبيل تقوية الشعور بوجود مطالب محلية مهضومة من قبل السلطة المركزية، وقد تبدّى هذا الاستحضار "الأنثربولولجي" في تصريحات قادة الحراك وشعارات جماهيره المتجافية عن مزاعم الانفصال. نحت حراك الريف تميّزه عن الحراك السياسي لشباب عشرين فبراير على مستوى الزعامة والقيادة الكاريزمية في شخصية الزفزافي الذي أصبح بين عشية وضحاها حديث الناس وشغلهم في كل النوادي، وصار أشهر من نار على علم. طبيعة الخطاب العفوي المباشر للزفزافي الذي استعمل لغة دينية واضحة تحيل على نمط"التدين المعارض والاحتجاجي" أو "لاهوت التحرير"في نسخته المغربية، كان كذلك مغايرالأسس الخطاب السياسي لحركة20فبرايرالذي اتصفبنوع من "العلمنة"أملتها في نظري اكراهات وضرورات التحالف السياسي الموضوعي بين العدل والإحسان والنهج الديمقراطي وأطياف فيدرالية اليسار، وفرضتها طبيعة التصور الفكري والخطاب السياسي لجماعة العدل والإحسان، الذي يجعلمن النضال من أجل العدالة الاجتماعية ونصرة"المستضعفين" بنية التقرب إلى الله من أهم مداميك التدين الراشد الموصل لمقامالعرفان والإحسان،لكنطبيعة هذه"العلمنة الإرادية" لم تمنع شباب حركة عشرين فبراير وبالأخص في المدن الصغرى كالفنيدق والمضيق وشفشاون من استثمار رمزية المسجد والتوقيت الإيماني للصلاة في التعبئة والحشد الجماهيري للمسيرات والتظاهرات، في حين أحدثت حينئذ بعض شعارات و سلوكيات أنصار التيار السلفي الحركي جدلا وتشويشا باسم "الدين" في مدينة طنجة( احتجاجهم على استعمال الموسيقى في إحدى مهرجانات الحركة) لكنها لم تؤثر على تناغم وانسجام المسار العام للتنظيم الشبابي، خاصة في هذه المدينة التي صاغت أبرز الملاحم النضالية للحركة، لانسجام شبابها ورموزها من مختلف المكونات في فعل سياسي صار مضرب الأمثال في جرأته وإبداعه، لولا ضغط التحولات السياسية الذاتيةوالموضوعية التي حكمت على أحلام الشباب الفبرايري بالإجهاض. الزفزافي ابن بيئته، يتميز المجتمع الريفي في المجمل بالمحافظة الاجتماعية التي صبغت تدين أهل الريف بالنزوع نحو تقديس قيم الصدق والوفاء بالكلمة والعهود والشجاعة وجعلها في قمة هرم القيم الدينية، في تساوق وانسجاممع الحفظ الشديد لمكانة المرأة إلى درجة الغيرة عليها بشكل مبالغ يتجاوز أحيانا ضوابط الشرع الإسلامي إلى حد المبالغة والغلو بفعل رسوخ الأعراف المحلية، ولا يوازيهذه المعادلة المعروفة لدى أهل الريف إلا سمو قيمة "المعقول" في الميدان المعاملات التعاقدية الشخصية والتجارية، وقوة نشدان قيمة العدل في مجال الحكم والسياسة. الشخصية والخطاب، أثارت شخصية المعتقل ناصر الزفزافي إعجاب الكثيرين لقوة شخصيته وفصاحة منطقه منذ ليلة الوفاة المأساوية للشاب محسن فكري، إذ سطع نجمه في تلك الليلية الاستثنائية بمدينة الحسيمة من خلال رفضه لدعوات التهدئة الرسمية الموجهة للمحتجين من قبل عامل الإقليم والوكيل العام للملك بها، كما عرّض منتقدوه بتواضع مساره الدراسي النظامي، واتخذوه ذريعة لتسفيه الحراك وتبخيسه. لكن مما لا يختلف حوله اثنان هو أننا أمام ظاهرة سياسية ونضالية وتواصلية تستحق التوقف لدراسة حيثيات نشأتها وسر تميزها حتىجعلتثلة من الباحثين يصفونها ب" الظاهرة الزفزافية" التي هي في نظري نتاج لتراكم وتناغم التجربة النضالية بحركة عشرين فبراير رفقة مناضلين متمرسين من أمثال جلول والمجاوي وأمحجيق وغيرهم، مع التكوين الديني لناصر في معهد الإمام مالك للتعليم الأصيل بالحسيمة بعد تعثر دراسته في شعبة الآداب العصرية بثانوية مولاي علي الشريف بنفس المدينة، ثم هي كذلك تجلي لخصائص شخصية صقلتها الجينات والوقائع بالجرأة والإقدام والشجاعة. ففي الكثير من خطبه القوية والتي مكنت من انتشارها الواسع منصات ومواقع التواصل الاجتماعي وبالأخص تقنية "المباشر" في الفايسبوك التي صعبت إستراتجية الأنظمة السياسية في التعتيم والتضليل الإعلامي1، نلحظ بأن الزفزافي استشهد بكل سلاسة وانسيابية بآيات قرآنية وأحاديث نبوية ومواقف من سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، كما وصف في غير ما مرة الحراك بأنه "مبارك و"مقدس" وعند ذكرهللمجاهد محمد بن عبد الكريم كان لا يذكره إلى بالترضي عنه "برضي الله عنه وأرضاه" وهذه الصيغة المناقبية لا يتصورها العامة إلا في حق الصحابة وكبار التابعين، بينما لا تحضر في اللغة المخزنية إلا في ذكر مناقب السلاطين والملوك والترحم عليهم. وعلى مستوى شخصية ناصر الزفزافي يظهر أثر التكوين الديني الذي تلقاه في معهد الإمام مالك للتعليم الأصيل بارزا في مخبره ومنطقه، فطيلة شهر رمضان كان ناصر يخطب بعد التروايح في "المباشر" بالقميص أو " القندورة" وهو لباس تقليدي يرتبط لدى المغاربة بالسمت الحسن استعدادا للصلاة أو للتراويح في رمضان، كما أن هيئة الزفزافي بلحيته السوداء وخطابه الممتح من الثقافة الدينية تذكرنا برموز الخطابة الدينية والسياسية المنبثقة من خضم التيار الإسلامي الحركي في العالم العربي، لكن هذا الترابط السيميائي بين شخصية الزفزافي والرمزية الدينية الحركية، تفنده وتضعف من توظيفه السياسوي و الأمني شخصية العادية للرجل المستحضرة للدين بشكل عفوي و" فطري" في ثنايا الخطاب والحجاج مثله مثل معظم المغاربة، فاللغة الدينية التي توسل بها ناصر جاءت في سياق المنافحة عن مطالب الحراك وفي توظيف تحرري للدين هو أقرب للقيم المعيارية السياسية في الإسلام المرتبطة بالعدل والمساواة والكرامة وكره التسلط والظلم، من ثم لم تفلح التسريبات الإعلامية المبثوثة لخدش استقامة شخصية الزفزافي ومروءته سواء تلك المأخوذة خلسة من أرشيفه الخاص وهو في صورة بريئة مع "الشيخات" في أحد الأعراس أو بصحبة فتيات بلباس البحر في الشاطئ،من مكانة زعيم الحراك لدى أنصاره لأننا بإزاء شاب عادي اختار طريق النضال ولم يتزيّ بعمامة أو بلباس أهل العلم والفتوى، كما أن هذه التسريبات الممنهجة أتت بنتائج عكسية لرغبات أصحابها من خلال تعاظم تعاطف الناس مع زعيم الحراك، لتنامي وعيّهم بقدسية الحياة الخاصة للإنسان سواء من منطلق الإسلام أومن شرعة حقوق الإنسان. قوة حضور الدين والإيمان تجلت بوضوح أكبر أيضا في رسالة الزفزافي من سجن عكاشة بالدارالبيضاء إلى عموم أنصار الحراك، والتي افتتحها بالاستشهاد بالقرآن الكريم في قوله تعالى " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" واختتمها كذلك بآية قرآنية في الحث على الصبر والصمود "ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" كما ذكر الزفزافي في مقدمة الرسالة الشهيرة بأن نضاله وباقي رفاقه المعتقلين راجع لإيمانهم بالوفاء" لجدنا الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رضي الله عنه وأرضاه، وعملا بوصاياه الخالدة، وسيرا على نهج أحرار الريف العزيز مند الأزل، من المجاهدين في سبيل استقلال الوطن وكرامة أبناءه" فالرسالة تبيّنمن مبناها العمق الديني المشكّل لشخصية الشاب المتعلم في سلك التعليم الأصيل بإزاء القرآن الكريم والحديث الشريف، كما أن رمزية الخطابي حاضرة في الرسالة باعتباره جدا حاز قوة الإيمان ومشروعية الجهاد وقيادته انطلاقا من قبيلة الزفزافي نفسها "بني ورياغل" فالرسالة التي انتشرت انتشار النار في الهشيم في موقع التواصل الاجتماعي الفايسبوك والمواقع الالكترونية تساعدنا في فهم خلفيات الطعن بالانحراف الديني لزعيم الحراك الصادرة من بعض مثقفي السلطة ووعاظها مثل " التشيع" و عدم "مساندته من قبل العلماء" أو تعاطفه مع " السلفية الجهادية" فكل هذه المطاعن المزعومة تريد النيل من كاريزما الشاب – الظاهرة الذي بنى مصداقية نضاله من خطابه السياسي القوي والبسيط في الآن، مع حسن توظيفه للثقافة الدينية الإسلامية، وللموروث الريفي المحلي في سبيل الانتصارلمطالب ساكنة الحسيمة، متوسلا في ذلك بلغة عربية فصيحة وتارة أخرى باستعمال اللهجة الريفية، وقد أدى به مسلكه المعارض لتوجهات الدولة إلى درجة التمرد على السلطة الدينية للخطيب في واقعة الجمعة الشهيرة، فكان أن استثمرت السلطة ذلك لترويج تهمة الانحراف الديني عن حراك الريف ورمزه الزفزافي، وفاء منها لعادتها القديمةفي التضييق على المعارضين بدعاوى المروق في الدين وإثارة الفتنة والزندقة أو الإفطار في رمضان أو الشذوذ الجنسي وهي تهم وجهت كلّها لشباب حركة عشرين فبراير في بحر 2011. فما أشبه اليوم بالبارحة؟ خطبة الفتنة أماطت واقعة خطبة الجمعة 26 ماي 2017بمسجد محمد الخامس بحي ديور الملك بالحسيمة اللثام عن واقع الصراع الخفيّ في الحقل الديني المغربي بين نمط رسمي للدين ونمط تحرري يسعى لأن يؤدي المسجد أدواره التربوية والعلمية في منأى عن التوجهات السياسوية للسلطة، ففي هذا السياق المتوتر لا ينفصل تصور المسلمين للمسجد بوصفه مؤسسة عبادية عن الانفصام النظري الحاصل بين الإسلام المعياري والإسلام الاجتماعي،أو بين الإسلام المعيش وبين الإسلام الأصلي المرجعي، إذ بقدر ما يتصور المسجد معياريا مؤسسة لتكريس الوحدة ونبذ الفرقة والتعصب والتمايزات، بقدر ما يجسد واقعيا حالة التشتت والتنازع وإعلان التميز وانسداد أفق اللقاء والتحاور2. فبالاطلاع على نص الخطبة نجد أنها مستفزة لجمهور المصلين في مدينة تعرف حراكا شعبيا لما يزيد عن سبعة أشهر، ويكفي أن نقتطف هذه الفقرة من الخطبة لكي ندرك حجم الخطأ الجسيم الذي ارتكبته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في شخص خطيبها في تعميق الأزمة بالريف، في تجاوز للضوابط الشرعية والقانونية التي تجعل من المسجد فضاء للسكينة الروحية يربأ به أن يسقط في مهاوي الحسابات السياسية الضيقة والأجندة السلطوية الظرفية والاستخدام الإيديولوجي المغرض للنص الديني 3، فورد في الخطبة " بأن التحريض على العصيان والاضطراب بالكذب والتدليس والبهتان وتسخير وسائل الإعلام لأغراض غير نبيلة وأهداف غير شريفة أمر منهي عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" كما حذر المصلين من الفتنة التي قال عنها" أنها إذا أقبلت عرفها العلماء، فإذا أدبرت عرفها العامة لكن بعد فوات الأوان" كما استشهد في اقتباس مقصود بقول سهل بن عبد الله" لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وآخرتهم" فنحن أمام استغلال قدسية الزمان والمكان لممارسة الضبط الاجتماعي وترسيخ إيديولوجية الدولة كحكم ديني مرجعي في تصور السياسة وتحولاتها، ومن هذا المنطلق " الديني المهادن" تصير المطالبة بالحقوق والنضال من أجلها بالمسيرات السلمية " فتنة" تستحق الخزي في الدنيا والآخرة.لكن عملية السطو هذه على خطبة الجمعة التي سبق أن فكّك بنيتها وسياقها في تفصيل رائع الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم في كتابه الشهير" الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟ لم تمر دون احتجاج مدّوي لناصر الذي صرخ ملء فيه " هل المسجد لله أم للمخزن؟" كما انتقد تخويف الخطيب المصلين من خلال نعت الحراك بالفتنة التي اعتبرها ناصر هي :" البطالة والعري على قنوات الدولة التي تحسب نفسها إسلامية" كما اعتبر الحراك " بأنه عظيم ومقدس ومبارك لأننا نطالب بأبسط حقوق العيش الكريم" وحذر من شيوخ البلاط وعلماء الذل والعار، مستشهدا بما اعتبره حديثا " إذا وجدتم على أبواب السلطان فاعلموا أنه لص" وفي رد على استشهاد الخطيب بحديث دعاة على أبواب جهنم في إشارة لزعماء الحراك، ذكر الزفزافي في إشارة للإمام حديث" أخوف ما أخاف على أمتي أئمة مضلين" وختم احتجاجه في المسجد بأنه" لا يخاف في الله لومة لائم" وأنه على نهج أمير المؤمنين عمر القائل" إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموني". معركة التأويل وأحقية الكلام في الدين المنقولة في إبّانها إلى العالم عبر تقنية " المباشر" أعطى للحادثة جاذبيتها ونقل حرارتها وأرخّ لخطورتها وانفلاتها. واقعة الخطبة البتراء-وإن ابتدأت بالبسملة- لشرودها المقاصدي والسياسي مثل سوابقها التاريخية في عهد حكام بني أمية وغيرهم كثير في تاريخ المسلمين، لم تنتهفي فضاء الجامع، بل تحولت إلى معركة أمنية وقانونية وقضائية تزعمتها السلطة بكل جبروتها لإخضاع شاب أعزل أخطأ في لحظة رد فعل وانفعال عاطفي، على خطيئة منهجية مقصودة لتسييس خطبة الجمعة، الذي هو في الحقيقة ديدن السلطة السياسية في اللحظات السياسية المفصلية والحرجة، ففي عزّ حراك عشرين فبراير، روجّت وزارة الأوقاف في كل مساجد المملكة خطبة موحدة اعتبرت التصويت بنعم على دستور فاتح يوليوز 2011 واجبا شرعيا وطاعة لولي الأمر وعربون عن البيعة لإمارة المؤمنين، في زجّ واضح بحرمة المسجد وقدسيته في قضية تحتمل الأخذ والرد والجدل والمعارضة بمنطق السياسة و قاموسها وحساباتها. تداعيات واقعة "خطبة الفتنة" تتابعت ومهدت لتضييق الخناق الأمني على أبناء حراك الريف واعتقال رموزه بعد اعتبار وزارة الأوقاف في بلاغ متلفز على أن الاحتجاج " يعد إخلالا بالتقدير والوقار الواجبين لبيوت الله ... مما أفسد الجمعة وأساء إلى الجماعة" كما أن الوكيل العام للمك بالحسيمة أصدر بلاغا بعد الحادثة كيّف فيه رد فعل الزفزافي جنحيا باعتباره" عرقلة لحرية العبادات وتعطيلها أثناء صلاة الجمعة، حيث أقدم على منع الإمام من إكمال خطبته وألقى داخل المسجد خطابا تحريضيا أهان فيه الإمام، و أحدث اضطرابا أخل بهدوء العبادة ووقارها وقدسيتها، وفوت بذلك على المصلين صلاة آخر جمعة من شهر شعبان". واقعة الخطبة أكدت على عدم اكتراث وزارة الأوقاف بمقتضيات القوانين التي قامت بصوغها هي نفسها، فالظهير المنظم لعمل القيمين الدينيين في مادته السابعة جاء واضحا في منع الخطباء من اتخاذ مواقف سياسية فورد فيه" يتعين على كل قيم ديني، في جميع الأحوال وطيلة مدة مزاولته مهامه، التحلي بصفات الوقار والاستقامة والمروءة التي تقتضيها المهام الموكولة إليه. ويمنع عليه، خلال هذه المدة، ممارسة أي نشاط سياسي أو نقابي، أو اتخاذ أي موقف يكتسي صبغة سياسية أونقابية،أو القيام بأي عمل من شأنه وقف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية، أو الإخلال بشروط الطمأنينة والسكينة والتسامح والإخاء، الواجب توافرها في الأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي" ومن ثمة يعكس هذا الخرق القانوني للوزارة طبعها السيادي المنغلق الساهر على تسييد تصور نكوصي جامد للدين باسم الخصوصية الفقهية المالكية، التي أضحت مع الوزير أحمد التوفيق مرادفة للتقليد الفقهي المالكي في صوره التاريخية في عصور الانحطاط والتخلف الحضاري. اختلفت رهانات الفاعلين السياسيين إزاء مخرجات وتداعيات خطبة الجمعة وتوظيف الدولة لبراديغم "الفتنة" المخيف في مخيال عامة الناس وخاصتهم لارتباطه الوثيق بتاريخ الفتن الدموية في الإسلام المبكر بلغة هشام جعيط، وبزمن السيبة البئيس في التاريخ المحلي للبلادفي فترات مظلمة قبل الحقبة الاستعمارية بقليل، بين موقف مندد بتوظيف المسجد من قبل السلطة لتمرير خطاباتها السياسية، تبنته فئات واسعة من الشخصيات الحقوقية واليسارية وجماعة العدل والإحسان التي وصفت تسييس الخطبة في بيان لفرعها بالحسيمة بأنه " سلوك مقيت مخل بالآداب الشرعية المعلومة في وظائف المسجد الجامعة لأمر الأمة والداعية للوحدة والرحمة والبعيدة عن كل اصطفاف سياسي " كما اعتبرت بأن استغلال المساجد وتوظيف الخطباء يؤسس لزرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد. ومن ثم كان إحياء مفهوم الفتنة لتشويه الحراك فرصة لتشريح المفهوم وتفكيكه وفق قراءات مختلفة " للفتنة" والتي هي باستقراء النصوص التأسيسية في الحقل الدلالي السياسي الإسلامي مرادفة للفوضى ولحرب الكل ضد الكل بلغة توماس هوبز، أي أن الفتنة سياسيا هي غياب لسلطة الدولة وما تعنيه من حيرة واضطراب. لذا كان توظيف مفهوم الفتنة و استعمال "البلطجية" والتغاضي المكشوف عن تهديدهم لسلامة المحتجين من أكبر أخطاء السلطة اتجاه حراك مدني سلمي يعد حلقة ضمن صيرورة عادية للحركات الاحتجاجية المغربية المتسمة بنزعاتها الاجتماعية والاقتصادية وظرفية زمنها الانتفاضي4. وفي سبيل وأد "الفتنة" سارع سلفيو مراكش إلى جنب القوات الأمنية والبلطجية في قمع وقفة التضامن مع حراك الريف، بينما بقيت حركة التوحيد والإصلاح وفية لعقيدتها السياسية و لموقعها في المنزلة بين المنزلتين كما هو حال موقفها السابق من حركة عشرين فبراير،فاكتفت بتأييد الحراك على احتشام في بياناتها مع رفضها الانخراط الفعلي في دعمه ومساندته ، وهو ما تبدى في غيابها وباقي شركائها في السياسة والنقابة والشباب عن المشاركة في مسيرة 11 يونيو بالرباط التي كانت بحق من أقوى المخرجات السياسية لحراك الريف من خلال رسالتها الواضحة في رفض المقاربة الأمنية وتأكيدها على نجاعة الديمقراطية كمدخل لإرساء المصالحة بين السلطة والمجتمع في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب. المراجع: 1- شاهينار وزير، مباشر في زمن الانحسار، مجلة الدوحة العدد يونيو 2017 ص 52 2-سعيد جليل، المؤسسات الدينية العبادية مجالا للصراع الأيديولوجي، المساجد أنموذجا، ضمن الكتاب الجماعي المسألة الدينية ومسارات التحول السياسية والاجتماعية في الدول المغاربية، 2017 ص 147 3- الشريف حمدي، الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي 2016 ص 7 4 -عزيز خمليش، زمن ومجال الانتفاضات المغربية، مجلة وجهة نظر 2003.