على خلاف حالة الترقب والتأهب التي تعيشها مدينة الحسيمة، عاصمة الريف المغربي التي تبعد 400 كيلومتر شمال الرباط، يجلس الخمسيني عمر إمسكون هادئا على كرسي خشبي متهالك، يحتسي شاي الصباح أمام متجره، ويستمع إلى أخبار إذاعة الحسيمة الجهوية، مستغربا "تجاهل" الإعلام الرسمي، لما يجري في مدينته، من احتجاجات لم تتوقف منذ حادثة وفاة بائع السمك محسن فكري طحناً داخل شاحنة لجمع القمامة في 28 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي. لا يفقه عمر في السياسة وشؤونها كما يقول، قبل أن يستطرد، "اللهم ما حدثني عنه ابني البكر، المواظب على متابعة ما تقوله الصحافة الإسبانية عن منطقتنا"، ولا يخفي عمر خوفه مما ستؤول له الاحتجاجات، قائلا في كلام مقتضب: "ما يجري في الريف هذه الأيام، يذكرني بعام 1984، وقتها خرج أبناء عمومتي وأصدقائي للتظاهر في الشارع للمطالبة بالشغل ونبذ الإقصاء والتهميش.. بعضهم مات وبعضهم اختفى في السجون.. نسأل الله اللطف". هدوء عمر وتروّيه يعكسان ما عاينه "العربي الجديد" من حالة السكون الذي يسود المدينة، لكنه "هدوء يسبق العاصفة"، كما يرى هشام الساليمي، الناشط الحقوقي المحلي، وأحد الفاعلين في حراك الريف، وهو ما يبدو في وسط المدينة، وفق ما عاينه معد التحقيق، إذ تنتشر سيارات الأمن والشرطة في الشوارع العامة "ما تسبب في حالة من القلق بين التجار وزوار المدينة كما يقول" حسن بونعضاض، مالك متجر لبيع المواد الغذائية في الحسيمة، والذي ترابط سيارات الشرطة بالقرب من محله، منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي. لماذا الحسيمة؟ تعدّ مدينة الحسيمة، عاصمة الريف المغربي، وتقع على الساحل المتوسطي، وتضم 399654 ألف نسمة، حسب نتائج آخر إحصاء عام للسكان والسكنى لسنة 2014 (تجرى المملكة إحصاءا للسكان كل عشر سنوات)، ويتحدث سكان الحسيمية الأمازيغية – الريفية، وأيضا الدارجة، والعربية الفصحى، بحسب ما قاله حسن أسند، الباحث في تاريخ الريف. وشهدت الحسيمة ونواحيها الممتدة إلى بني بوعياش وإمزورن، حراكا احتجاجيا ضد التهميش في عامي 1958 و1959، فيما اشتعل الحراك مرة ثانية في عام 1984، زمن الملك الراحل الحسن الثاني احتجاجا على البطالة والفقر، وهو ما جابهته قوات الأمن بقوة، فيما تحسنت الأحوال في عهد الملك محمد السادس، الذي زار المنطقة أكثر من مرة كما تم تدشين مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، في أكتوبر/تشرين الأول 2015، لتنمية الإقليم، وتطوير البنية الصحية وبناء منطقة صناعية، ومشاريع اجتماعية لفائدة الشباب والفئات الهشة في أجل زمني ينتهي في عام 2019، ، كما روى أسند ل"العربي الجديد". لكن ما سر الاحتجاجات المتوالية في المنطقة؟ يجيب خالد الغلبزوري، أحد نشطاء حراك الريف، ممن التقاهم "العربي الجديد"، بأن ما يربط ظاهرة الاحتجاج تاريخيا في المنطقة، هو "التهميش وقلة العمل وانعدام شروط العيش الكريم". وتابع موضحاً: "السبب الذي يجعل منطقة الريف تعرف احتجاجات أكثر من المناطق الأخرى، وبالخصوص مدينة الحسيمة، هو كون هذه المنطقة مهمشة أكثر من المناطق الأخرى، فمثلاً مدينة الحسيمة، لا يوجد فيها معامل للشغل، وأغلب الناس فيها عاطلون عن العمل، فضلا عن غياب الخدمات الصحية والاجتماعية الضرورية.. نحن شعب له تاريخ عظيم في الكفاح والمقاومة ولا نقبل الظلم ولا نرضى به". ويؤيد ما يقوله الغلبزوري، تسجيل الحسيمة معدل بطالة بنسبة 21 في المائة، حسب آخر تقرير رسمي أعده "المجلس الاقتصادي والاجتماعي" (حكومي) في يونيو/حزيران 2016، وهي النسبة التي ترتفع ب11 نقطة عن المعدل الوطني للبطالة في المغرب (10.1 في المائة). مدن الحراك يؤكد نشطاء ميدانيون في حراك الريف، توافد المتظاهرين والنشطاء من أربع مدن أخرى، فضلا عن قرى وأرياف مجاورة للحسيمة، وبحسب نبيل أحمجيق، أحد قادة حراك الريف في الحسيمة، فإن نشطاء ينتمون إلى خمس مدن رئيسة، وهي : الناظور، تاركيست، بني بوعياش، إمزورن، وبركان، علاوة على قرى مجاورة مثل إمزورن، رواضي، بني بونصر، وأخرى تابعة لإقليمالحسيمة يشاركون في الحراك المتصاعد. ورداً على اتساع حجم الاحتجاجات في قلب عاصمة الريف، سارعت الأحزاب الستة المشكلة للحكومة المغربية، إلى عقد اجتماع طارئ، ختم بإصدار بلاغ مشترك، مؤرخ بيوم الإثنين 15 مايو /أيار الجاري، يلوم نشطاء حراك الريف، وذهب وزير في الحكومة إلى حد وصفهم ب"الانفصاليين". كن إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب "الاتحاد الاشتراكي"، قال ل"العربي الجديد"، إن بلاغ أحزاب الأغلبية، "لم يتهم أحدا بالانفصال وتلقي الدعم من الخارج، بل حث الجميع على احترام القانون والاحتجاج السلمي، وحذر من تخريب الممتلكات العامة". غير أن الناشط أحمجيق، أحد قادة الحراك، وصف البلاغ ب "حبة فيتامين" زادت حماسة النشطاء، ووسعت من حملة التعبئة لتظاهرات قادمة، وصلت حد قرى بعيدة عن إقليمالحسيمة، قائلا "أغلب ساكنة الأرياف تفاعلت بشكل غير مسبوق مع دعوات التظاهر في الحسيمة، بعد أن علمت رد أحزاب الحكومة، على مطالب النشطاء". مطالب بلا مفاوض يؤكد نور الدين مضيان، النائب البرلماني في جهة طنجةالحسيمة، عن حزب "الاستقلال"(معارضة)، أن نشطاء الحراك، بدون مُحاور (مفاوض) ولا لجنة تحاور السلطات أو المنتخبين، باسمهم. أفاد البرلماني أيضا "العربي الجديد" بأن المحاور الوحيد، الذي تستمع منه السلطات إلى المطالب هو "فيسبوك". في إشارة إلى وسائل الإعلام، وهو ما يطابق ما لمسه معد التحقيق من نأي أغلب قادة الحراك عن تحمل مسؤولية الحديث إلى الصحافة باسم جميع نشطاء الحراك، مفضلين الحديث على مسؤوليتهم الشخصية فقط. وجهة نظر مضيان، أيدها مسؤول أمني في الحسيمة، طلب عدم عدم ذكر اسمه، قال ان السلطات تسعى لمباشرة الحوار مع قادة الحراك، غير أنه لا أحد يرغب في الأمر، بمبرر "عدم توفره على شرعية التمثيل والتحدث باسم النشطاء". نفي تهمتي "الانفصال والدعم الأجنبي" سارعت وزارة الداخلية عبر أعوانها (مقدمين وشيوخ)، إلى تحذير الساكنة في الحسيمة، وفي 36 قرية مجاورة للإقليم، من "مغبة المشاركة" في حراك الحسيمة، بحسب ما أكده مسؤول كبير في جهة "طنجةالحسيمة"، آثر عدم ذكر اسمه لكونه غير مخول بالحديث للإعلام، ولم ينفِها أيضا من جانبه، البرلماني عن المنطقة، نور الدين مضيان، الذي كشف ل"العربي الجديد"، عن تحركات مكثفة لوزارة الداخلية في المنطقة، لا، بل وأقر أنه كان ضمن المشاركين فيها، بغية "تهدئة الأوضاع، حتى لا تنزلق إلى منحدر غير محمود"، بحسب مضيان. ومن ضمن الاتهامات التي لوح بها البلاغ المثير للجدل الصادر عن أحزاب الحكومة المغربية حول ما يجري في الحسيمة، تهمة وجود "دعم أجنبي" لحراك الريف، إشارة إلى وجود أياد أجنبية معادية للمغرب، تحرك الاحتجاجات باتجاه "الانفصال". وهي التهم التي لم تصدر عن الدولة المغربية رسميا، وصدرت فقط عبر أحزاب الائتلاف الحكومي. وأثار مضمون بلاغ أحزاب الحكومة المشترك، صخبا وسجالا على مواقع التواصل الاجتماعي، وظلت شبهة "الانفصال" مجال حرب كلامية إعلامية بين نشطاء الحراك، الذي ينفون توصيف "الانفصال"، وقيادات أحزاب الحكومة، التي تدفع بحقيقة الوصف وتشكك في حسن نوايا الحراك برمته. ويعود الناشط خالد الغلبزوري، إلى مطالبة أحزاب الأغلبية الحكومية، بنشر "الدليل"، الذي يثبت أن الحراك ذو نزعات انفصالية، وله علاقة بأيد خارجية. وحاول "العربي الجديد" طيلة يوم الأربعاء 17 مايو /أيار الجاري، لقاء والي طنجة–الحسيمة، محمد اليعقوبي، بصفته المسؤول الأمني الأول في المنطقة، لأخذ وجهة نظره إزاء تفاصيل التهم الموجهة إلى نشطاء الحراك، إلا أنه رفض التصريح، قبل أن ينهي اجتماعاً له، ليعود معد التحقيق من جديد إلى محاولة لقائه، ولكن من دون جدوى. رحلة البحث عن وجهة النظر الرسمية، اتجهت صوب كل من رئيس بلدية الحسيمة، محمد بودرا، ورئيس الجهة، إلياس العماري، إلا أن هواتفهما ظلت مقفلة طيلة ما يقارب 40 ساعة. ووسط الصمت المطبق للمسؤولين في المنطقة، حول الموضوع، استقت "العربي الجديد"، معطيات جديدة، من مصدر أمني مسؤول في المدينة، آثر عدم ذكر اسمه، تفيد بأن حادث حراك الريف، "ملف حساس لا يمكن حتى لوزير الداخلية، التصريح حوله في الوقت الراهن"، وهو الكلام الذي يبرر به المسؤول الأبواب الموصدة أمام السائلين عن حقيقة تهم أحزاب الحكومة لنشطاء الحراك. المسؤول الأمني أصر أيضا في حديث مقتضب ل"العربي الجديد"، على "وجود جهات خارج البلاد، تحرك خيوط الحراك، حتى بدون علم النشطاء أنفسهم بالأمر..". وبين إصرار السلطات على أخذ مطالب حراك الريف بعين الريبة والشك، من جهة، وتشبث نشطاء الحراك، ورفضهم لتهم "الانفصال"، من جهة أخرى، تظل الحقيقة أولى الضحايا في حرب الكلام والبلاغات عبر وسائل الإعلام بين الاثنين، ما يجعل المنطقة مفتوحة أمام احتمالات الشد والجذب بين الدولة الراغبة في ضبط المجال، ونشطاء حراك الريف الساعين لتحقيق مطالبهم.