خرجت مع انقشاع أولى خيوط الصباح، تدحرجت في العتمة راجلة نحو أول نقطة مواصلات تبعد عن كوخها القصديري بأكثر من كيلومترين، تتقلبها الكوابيس في نوم لا يشبه النوم وتفتح عينيها على صباح لا يشبه الصباح..كوابيس الذهاب والإياب من يوم عمل بأجر لا يكاد يبين..تخرج بعد أن تضع مفتاح البيت على صدر ابنها ذي الثماني سنوات وتكرر ورد التوصيات والتعليمات والتحذيرات..تخرج كأنها ذاهبة إلى الحرب..الخوف والترقب بكل المرارات والمذاقات.. آخر مرة حذرها قطاع طرق اعترضوا سبيلها من مغبة الخروج دون "فلوس" أو "هاتف نقال" من النوع الذكي. خلال رحلة الطريق ظلت تفكر في طفلها، فقد أرسلت المدرسة في طلبها لأنه كثير الغياب، شديد الإهمال لواجباته المدرسية، حسب ما وصلها من رسائل الجيران؛ المرة الأخيرة اضطرت للتغيب عن عملها مع تحمل مغبة هذا الأمر وعواقبه الوخيمة، أدناها اقتطاع أجرة يوم كامل، وحضرت إلى المدرسة حيث أخبرتها الأستاذة أن طفلها، الذي يتحمل مسؤولية نفسه يوما كاملا طيلة غيابها، "تلميذ شديد الغباء وفي كلام مانع جامع".. قررت أنه لن يتعلم شيئا...كلما تذكرت هذا الأمر ازداد اضطرابها وحبست دموعا لا تجد سبيلا لتنهمر. يبتلعها الحي الصناعي الكبير بالمدينةالبيضاء..حي كبير ومتعب، موحش ومتوحش بزمانه ومكانه، لا شيء فيه يبعث على الاطمئنان، رغم صخبه وكتله البشرية من كل الأصناف، باعة متجولون يبيعون كل شيء، مطاعم في الهواء الطلق تتصاعد منها روائح القلي والشواء؛ رائحة الشاي وحدها قد تبعث على الأمان وتمنح الزبون شعورا زائفا بأنه لن يتعرض لتسمم مفاجئ كما حدث لها ولزميلاتها أكثر من مرة نساء من كل الأعمار يفترشن الحصى والتراب لالتهام وجبة الغداء على جنبات الشارع المحاذي للمصانع في الحر كما في القر وتحت المطر...أصبح لديها اليقين بأنه رغم نظراتهم الأنيقة وكلماتهم المدبجة المنتقاة، إلا أنهم لا يملكون رقيا أو تحضرا كما يملكون الأشياء..حي صناعي ينتج الثروة لا يستطيع مالكوه أن يزهروا جنباته وواجهاته وشوارعه ليستظل من هم في وضعيتها وينعم بدقائق من المتعة كما في أحيائهم الجميلة هناك..بعض الوحدات الصناعية فقط تسبح بصعوبة ضد تيار مازال يعتبر العمال تهديدا مستمرا لمصالحه ويفترض عداوة مبدئية بينه وبينهم، ربما يكون تاريخ العبيد في مزارع القهوة وقصب السكر شبحا يسكن الرأسمال إلى الأبد !!! ليست أمية، وسبق لها أن قرأت عن قصص الأشرار الذين كانوا يحتجزون الأطفال ليشغلونهم في ضيعتاهم بعد سرقتهم من أمهاتهم..تذكرت أستاذتها الرائعة في القرية، والتي كانت تخلق معهم نهايات سعيدة لقصص تبدأ مخيفة، كانت تعلمهم في حصة التعبير كيف يغيرون مجرى الحكايات إلى ما يرونه أجمل في طفولتهم..طفا طيف المعلمة رقيقا عذبا وسط سياط تجلد يومياتها في المدينة الخشنة الأطراف..نالت شهادة الدروس الابتدائية، كانت متفوقة وذكية لكن توفق مسارها التعليمي في نقطة من المفترض أن تكون البداية نحو الحلم الجميل الذي نسجته في حضرة معلمتها تلك التي كانت تزرع الثقة لديهن بأن المستقبل أجمل وتوصيهن بمتابعة الدراسة وتؤكد لهن أن الدولة تشيد لهن دار الطالبة لهذا الهدف..لم تفتح دار الطالبة أبوابها كما كان متوقعا بداية ذلك الموسم الدراسي المشؤوم، واستوطنت حجراتها العناكب والقطط الشاردة لأسباب مجهولة على الأقل من طرف طفلة مثلها...عندما تم تدشينها بعد سنوات كان الأوان قد فات بالنسبة لها ولرفيقاتها.. بقيت تعيش على إيقاع هذه القصة المؤلمة التي صادرت جزءا من أحلامها وعجزت إلى حد الآن أن ترسم لمأساتها نهاية مغايرة ربما أسعد من تلك التي تعيشها اليوم..الجاني فيها مجهول معروف..قيل لها إن المدير الكبير هو سبب عدم افتتاح دار الطالبة. وجدت نفسها قبل العشرين متزوجة بشاب يشتغل بالمدينة..استقرت معه في غرفة مع الجيران وسرعان ما اكتشفت أنه مدمن على المخدرات.. تحملت عنفه من أجل رغيف الخبز الحافي، لكنه غادر إلى وجهة غير معلومة وتركها مع طفلها ذي الثماني سنوات...وكان عليها أن تعيل طفلها ونفسها.. لم يعد هناك خيار. رحلت إلى كوخ اكترته من حجرة واحدة ومرحاض مشترك بين عشرات الأسر وكثير من الغرباء، قال لها السمسار إنها محظوظة إذ حصلت على هذا السكن..يا له من حظ في المدينة الذكية !!!.السماسرة الذين تاجروا بمستقبلها داخل القرية ولم يفتحوا دار الطالبة في موعده هم أنفسهم في صورة مغايرة ينتشرون في المدينة كالفطر الفاسد القاتل من وراء حجاب... من خارجها يبدو العالم جميلا..كلام كثير عنها ربورتاجات وتصريحات: النهوض بأوضاع الفتاة القروية، المرأة المطلقة والحماية القانونية، مدونة الأسرة، المرأة العاملة ومدونة الشغل...الخ. كلما جابهت ذاتها وجدت نفسها وحيدة تصارع في معارك غير متكافئة، هل هي من كوكب آخر؟ هل هي خارجة عن القانون أم القانون خارج عنها؟..في المدينة صارت أنوثتها وشبابها وأمومتها عبئا عليها، مدينة غير صديقة للنساء والأطفال..مدينة الإسمنت المسلح بالقسوة..مدينة الفوارق والوساطة.. حتى في البؤس تحتاج لمن يتوسط لك..وساطة من شهادة الميلاد لشهادة الوفاة، ومرورا بكل الدروب، تحتاج وسيطا مرتزقا في السياسة أو الإدارة..حتى المتسكعون احترفوا الوساطة وصار لبعضهم نفوذ في إدارات فخمة لكنها حتما آيلة للسقوط مهما طال الأمد..السماسرة الذين كانوا وراء إغلاق دار الطالبة هناك تجدهم هنا في المدينة يستبيحون القانون ويتلاعبون بأحلام البسطاء ويصنعون مدينة من ورق تتهاوى وتنهار عند أول إعصار... كلما ازداد ذكاء المدينة ازدادت غربة البسطاء فيها..تسير المدينة الذكية بسرعتين متفاوتتين ويصبح الفارق بؤسا وتسلطا وهشاشة...تذكرت عندما سلمها المدير الكبير في مقر شغلها هاتفيا ذكيا وحاول إرغامها على قبول هدية مسمومة محاولا إقناعها بفائدة الهواتف الذكية، وتحمس ليشرح لها السعادة التي ستطالها باستعمال جهازه الذكي..فهمت أنه يتحدث عن سعادته هو، وأدركت أنه يريد أن يصل استغلال النهار بالليل..بعد فترة طردها من المصنع..هكذا هو سوق الشغل لمثيلاتها في الأحياء الصناعية الكبيرة للمدن التي يزداد ذكاؤها كما تزداد ضراوتها. ذكاء المدينة الكبيرة لا يتسع لها..رغم عقلها التكنولوجي تصبح المدن قبيحة وبشعة نتنة وعدوانية، لا تتسع إلا للصوص وقطاع الطرق ومصاصي الدماء والنصابين والقادرين على خوض كل الحروب القذرة...التعايش والتآزر هنا يفقد كل يوم مواقعه. الساعة تشير إلى الخامسة بعد الظهر، وعليها أن تغادر لتلحق ابنها التي ينتظر عودتها ويمضي الوقت لاعبا في قارعة الطريق..قطع حبل تفكيرها المضني صوت المسؤول عن الوحدة الإنتاجية: اليوم لا خروج إلا بعد التاسعة ليلا. لدينا طلبية مستعجلة..أخبرته بطفلها الصغير لكنه شرح لها أنه مسؤول فقط عن استكمال الطلبية في الوقت المناسب، وأن المدير الكبير لن يرحمه وعليها أن تمكث أمام آلتها...تذكرت طفلها وما حكاه لها من تحرش أحد المنحرفين به عندما تأخرت ذات يوم لنفس السبب...خرجت من المعمل دون أن تكلم أحدا، تعرف أنها لن تعود فالمدير الكبير يسرح من فعل فعلتها كما "يسرح" ربطة عنقه الفاخرة...اشتعلت غضبا وألما، إلى متى تظل تحت رحمة المدير الكبير الذي تهرب منه هناك لتجده هنا..هي مجرد يد عاملة وكفى.. عليها أن تنتج الثروة على أنقاض أمومتها، وأن تستجيب لسوق الشغل دون شرط أو قيد، ضدا على القانون..إنها من الطبقة العاملة الملعونة في كل الأحياء الصناعية الكبيرة. تذكرت قريتها الهادئة ودروس معلمتها التي كانت تصر على صناعة نهايات سعيدة لقصص حزينة..دوارها رغم الفقر لا يوجد به مدير كبير يتربص بها..ستمضي يومها في رعي بقرات الأسرة وستشتغل طيلة النهار كأمها في الحقل والمنزل، لكن ستنام ملء جفنيها مع غروب الشمس آمنة على نفسها وطفلها..فللدوار حضن يضمهما رغم شظف العيش، عنف المدينة الكبيرة أشد فتكا..وتمييزها ضد النساء عميق ترعاه مؤسسات صناعية كبرى تنتج الظلم للآخرين والثروة لنفسها. لو كتب لهذه المرأة أن تتكلم بكلمات مناسبة تشفي غليلها لقالت لمن يهمهم الأمر: "نحتاج إلى قلب مدينة محتضنة، ولا نحتاج إلى ذكائها المشبوه..للتنمية الحضرية أولوياتها ومرتكزاتها الاجتماعية، القطب المالي والصناعي لا ينمو ويزدهر في غفلة عن حقوق هذه المرأة وطفلها، سواء في قريتها هناك أو في المصنع بالمدينة...في انتظار ذلك رجاء دعوني أحمل أكوام الحطب فوق ظهري لطالما غنينا نحن نساء الدوار وزغردنا ورقصنا فوق الربوة، دعوني أرابط أمام أفران الخبز في مدشري. أليست هذه صورتي المعولمة التي تملأ الجرائد والمجلات والمواقع وتزين هوامش التقارير؟، رجاء لا تتحدثوا عن عملي بدون أجر في حقل الأسرة وحكايات المجتمع الأبوي والتمييز في اقتسام الثروة؟ حدثوني عن ثروة قريتي التي تهرب كل ليلة في جنح الظلام..أخبروني عمن عطل افتتاح دار الطالبة ولم أتابع دراستي، أخبروني عمن يستطيع محاسبة المدير الكبير في المدينة الذكية الذي كان يطردني دون أن يسدد أجرتي الزهيدة ويتركني للمجهول: أي مقاربة للنوع هاته في مدينتكم العدوانية؟..لولا أسرتي البسيطة لكنت أنا وطفلي في عداد المفقودين... هذه القصة تتكرر فصولها كل يوم في مدننا التي توسعت وتمددت قبل سنوات بعيدا عن هوية الحاضرة وروحها. ورغم مرحلة التعافي الذي دخلت فيه بعض المدن إلا أن الإصابات كانت بليغة وتحتاج إلى عقد اجتماعي جديد عموده الفقري ربط المسؤولية بالمحاسبة. كل عام ومدننا صديقة للنساء...