«تعيط على طبيب يجيك مائة تعيط على معلم يجيك ألف تعيط على سارح ما يجيك حتى واحد» بهذه العبارة تحدث سي المهدي وهو فلاح وصاحب شركة للمحاسبة في العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، عن أزمة الرعاة وقلتهم في المنطقة التي ينتمي إليها بجهة الشاوية، فبسبب شركته التي أسسها وبسبب المسؤوليات الكثيرة الملقاة على عاتقه فهو متزوج ورب لأسرة مكونة من أربعة أطفال مطالب بتوفير معيشة جيدة لهم، -يقول- لم يجد الوقت الكافي للاعتناء بأرض الأبوين. سي المهدي لديه أخوة ولكل واحد منهم مسؤوليته أيضا، بحكم المنصب الذي يشغلونه، فهم ازدادوا في البادية، لكن شغف التعليم والدراسة مكنهم من الحصول على مناصب جيدة في المدينة، لكن للأسف يضيف المتحدث، كان تفوقهم على حساب الأرض التي عاشوا فيها، فلا أحد استطاع البقاء وسط الحقول والأبقار والأغنام التي يجد صعوبة في توفير راعي يرعاها ويسهر على متطلباتها، وقد ازداد الوضع سوءا مع الجفاف، فرغم كل الإغراءات التي يقدمها للرعاة أغلبهم يهربون، ويقول إنه في قرارة نفسه يشعر بتأنيب الضمير، خاصة وأن نظرات الأم والأب تتحسر على خيرات الأرض التي بسبب «قلة الصحة» جعلتهما لا يستطيعان الاعتناء بها وهم يرونها تبور أمام أعينهم. الجفاف وأزمة «السارح» سي المهدي، حدثنا عن أزمة حقيقية وظاهرة وطنية أطلق عليه اسم « أزمة سارح»، فرعي الغنم في نظره مهنة انقرضت في عصر العولمة والإنترنت وأن البحث عن راعي للغنم شبيه بالبحث عن إبرة وسط كومة قش، وفي ذاكرته قصص كثيرة لأبطال في رعي الغنم استقدمهم من مناطق مختلفة، ووفر لهم كل المتطلبات الأساسية التي تتمثل في مبلغ مالي يحصلون عليه كل شهر، متحملا مصاريف أكلهم وسكنهم، بغية الاطمئنان على قطعان الأبقار والماشية التي تحتاج رعاية خاصة من لدن شباب من نوع خاص، لكن أمله كان يخيب في كل مرة يستقدم فيها راع للغنم، يقضي مع الأسرة فترة قصيرة من الوقت ثم يرحل إما بإرادته أو إرادة الأسرة. قصص كثيرة سردها على مسامعنا في ذلك اليوم الذي زرنا فيه القرية للاضطلاع على حال الكسابة مع «الجفاف» الذي يضرب المغرب هذه السنة وموجة غلاء العلف، فالوضع لا يحسدون عليه وقطيع الأغنام والأبقار مهدد بسبب غياب الكلأ وإيجاد الفلاحين صعوبة في توفيره في ظل غياب الدعم المادي من لدن وزارة الفلاحة رغم كل التصريحات «الرنانة» التي يضيف المهدي» لا تسمن ولا تغني من جوع» فالفلاحين في قرية أولاد عبو بسطات مستاءون رافعين أكفهم للخالق، آملين في قطرات تسقي الحرث وتحيي النسل . فالجفاف هذه السنة يقول كان جد قاسي وإن جميع الفلاحين يعيشون على مخزون السنة الماضية، مشيرا إلى أن ما تبقى من رؤوس الأبقار والأغنام يصارع من أجل البقاء بسبب قلة العلف الذي أضحى هم توفيره هو حلم كل فلاح في القرية. عند تجولنا وسط مساحات الأراضي المغروسة بنبتة «الفصة» التي يخصص محصولها لإطعام الماشية، التيقنا سعيد (اسم مستعار) وهو راعي غنم كان جالسا تحت شجرة يتظلل بأوراقها الجافة لعلها تقيه أشعة شمس فبراير الحارقة، جو لم يعتده وهو الذي يعمل في ضيعة سي المهدي لما يقارب ست سنوات، تحدث في البداية عن أضرار الجفاف قائلا «ما يفرح ليه غير الكلاب»، فبعد أن تجوع الماشية، تصبح عرضة للأمراض ومهددة بالموت في أي لحظة وتضحى فريسة سهلة للكلاب الضالة. لم يندم سعيد يوما على مزاولة مهنة «سارح» فهو لا يعرف سواها، فحياته كلها قضاها وسط القطيع ورائحة الروث التي – يضيف- تعطي لحياته البسيطة معنى برفقة زوجته وأولاده، «هاد الحرفة تتبغي الصبر ومولاها إلى عطاها تتعطيه». فرعي الغنم وإن كان البعض يشمئز منه وينظر إليه نظرة احتقارية فإن البعض الآخر اغتنى منه ومن راعي فقير أصبح «كسابا» كبيرا وفي القرية قصص كثيرة رواها سعيد عن رعاة تحولوا إلى تجار يضرب بهم المثل ويحسب لهم ألف حساب. وعن وضعه الاجتماعي يقول بأن العائلة التي يشتغل عندها توفر له المأكل والمسكن وفي كل عام يكون له نصيب من عدد رؤوس الأغنام التي يقوم برعيها بحيث يحصل على الربع، وإن كان سعيد لا يفكر في فراق العائلة التي احتضنته واحتضنت أولاده، فإن رعاة آخرين كان لهم رأي آخر واختاروا الرحيل بعدما تسببوا في مشاكل لا حصر لها . بلاوي وكوارث المشكل الذي قد يواجهه أي مالك لضيعة فلاحية، لا يتوفر على اليد العاملة التي تسهر على حراسة ممتلكاته من رؤوس الأغنام والأبقار التي يستثمر فيها أموالا طائلة كل سنة، هو أن يستفيق يوما ولا يجد من يرعى غنمه خاصة إن كان يملك أراض مخصصة لذلك، فوقع ذلك على نفسه شبيه ب»الكارثة» يقول أحد الفلاحين، خاصة وأن بعض الرعاة –يضيف- لا تهمهم النتيجة فقد يسمح في القطيع في آخر لحظة ويعود من حيث جاء ولا أحد يمكن أن يحاسبه، لذلك فهو يؤكد بأن معظم الفلاحين أصبحوا يتعاقدون مع رعاة أجرتهم لا تكون شهرية ولا أسبوعية، لكنها تكون باقتسام ثلث أو ربع القطيع الذي يقوم الراعي بالاهتمام به، مع تعهد «مول شي» بتوفير المسكن والمأكل له وأداء فاتورة الماء والكهرباء، وإقراضه المال في حالة إذا احتاجه للتبضع أسبوعيا بنية إرجاعه في آخر العام، عندما يتم اقتسام رؤوس الأغنام. ومع كل هذه الظروف، فالكسابة الذين تحدثت إليهم» المساء» رووا «بلاوي وكوارث» تسبب فيها مجموعة من الرعاة وكبدوا أصحابها خسائر بالملايين، ومن تلك القصص حكاية «مول الطربوش» الذي يرويها أحد الفلاحين بحرقة، فهو يقول بأنه تعاقد مع أحد الرعاة كان متزوجا، لم يمض على مدة اشتغاله في الضيعة إلا بضعة أسابيع، و في أحد الأيام، وهم مجتمعون في القرية، جاءهم خبر ولادة زوجة أخيهم لمولود ذكر، فهموا ليباركوا وتركوا وراءهم «السارح» وزوجته، حيث وصلوا عصرا إلى أحد المستشفيات الخاصة بمدينة الدارالبيضاء، وبعد سويعات قليلة، تفاجأو بالراعي وزوجته، بعدما قطعا مسافة طويلة من مدينة سطات إلى البيضاء، حيث قال الراعي وهو يضحك « مالنا احنا مانزروش»، وبحكم المسافة اضطر الراعي إلى المبيت في العاصمة برفقة زوجته حيث عاد إلى القرية في اليوم الموالي، في هذا الوقت، يضيف المتحدث إن الشعور بالجوع دفع القطيع إلى كسر باب الإسطبل والخروج، وكان هذا القطيع مكونا من 80 رأسا من الخرفان الذين وجدوا أمامهم أكواما من محصول «الفرينة»، فظل الكل يأكل، حتى وصل أحد الإخوة وقام برفقة شباب القرية بالتغلب على الأغنام وإدخالها إلى الإسطبل، خوفا عليها من شرب الماء لأن ذلك سيؤدي إلى موتها. وبعد لحظات وصل الراعي من الدارالبيضاء وأراد إن يثبت للأسرة بأنه مهتم بالخرفان وأن أمرها يهمه، فقام بإخراجها في غفلة من الحاضرين وتقديم الماء إليها فإذا برؤوس الخرفان والنعاج بدأت تتساقط تباعا، حيث نفق حوالي 56 خروفا. قصة أخرى يرويها الفلاح نفسه تتعلق براعي آخر اشتهر بطيبوبته وأخلاقه، لكنه كان ضعيف الخبرة بمجال رعي الأغنام، جاء أيضا للمنطقة برفقة زوجته التي يشاع أنها كانت تتحكم فيه، وذات صباح طلبت منه إعداد الشاي للإفطار فيما هي قامت بإخراج القطيع من الإسطبل، وبعدما غفلت أعينها عليها حيث تركتها تتحرك بدون حراسة، هاجمتها «سربة « من الكلاب تتكون من 40 كلبا، أكلوا حوالي سبعة خرفان. ومن المشاكل التي قد يتسبب فيها بعض الرعاة هي تورطهم في عمليات السرقة بحيث أن بعضهم تغريه تلك الأعداد الكبيرة من الأغنام فيظن أن سرقة وبيع بضعها لن يلاحظه صاحب الضيعة، وهو ما وقع لأحد الرعاة بمنطقة حد ولا وفرج بالجديدة، فبعد أن قام الراعي ببيع مجموعة من رؤوس الأغنام، كانت برفقتها «خروفة» كان أولاد صاحب الضيعة يلعبون معها بعدما أن أطلقوا عليها اسما، وفي اليوم الموالي لم يعثروا عليها لأن الراعي قام ببيعها مع باقي الخرفان، فافتضح أمره يضيف أحد الفلاحين، وبعدما قام صاحب الضيعة بمراجعة عدد خرفانه لاحظ الفرق فتم اقتياد الراعي لقسم الشرطة وقد اعترف بالمنسوب إليه وتم إدخاله إلى السجن. استغلال القاصرين يتم استقدام الرعاة المغاربة من مناطق مختلفة من المغرب، فبحسب الشهادات المستقاة فإن أغلبهم يتم المجيء به من مناطق الرحامنة وجبال الأطلس كإملشيل وانفكوا ومن مدن أكادير وتارودانت… ، و يتدخل في عملية الاستقدام «سماسرة» يتوفرون على خبرة ودراية في المجال، أو تكون عملية البحث عن طريق الأسواق بحيث أن بعض الآباء في الأطلس يستقدمون أبناءهم القاصرين معهم لمجموعة من الأسواق كأغبالة والريش وبني ملال وتونفيت … من أجل الاتفاق مع الباحثين عن الرعاة حول الثمن الذي يشتغل به هؤلاء، والبحث عن راعي للغنم ليس بالأمر السهل، فيقتضي في الشخص أن تتوفر فيه الخبرة والتجربة في التعامل مع القطيع. عبد الكبير، وهو راعي للغنم بمنطقة حد ولا فرج بالجديدة، قال في اتصال هاتفي إنه لا يقبل أن يرعى غنما إلا إن كان تعدادها يتجاوز 300 رأس، لأنه يقتسم الحصة مع صاحباها في نهاية العام بحسب ما تم الاتفاق عليه سواء بالحصول على الثلث أو الربع بعد ازدياد عدد الخرفان والنعاج. موضحا أن الأجرة الشهرية يتلقاها الرعاة المبتدئون وأغلبهم قاصرين يتم المجيء بهم لظروف اجتماعية عدة وفي بعض الأحيان يتم استغلالهم بثمن زهيد لأن هؤلاء يكون همهم هو السكن وإنقاذهم من التشرد، كما أن هناك بعض الأسر تقوم بالاعتماد على خدمات كبار السن تخلى عنهم ذويهم همهم فقط توفير المسكن والمأكل. من جهته أوضح مصطفى علاوي وهو فاعل جمعوي بمنطقة تقاجوين التابعة لإقليم ميدلت، أن الرعاة يتكبدون مهام صعبة بأثمنة زهيدة فبعضهم يشتغل ب700 درهم شهريا، في أوضاع مزرية، الشيء الذي يجعل الكثير من الشباب يعزفون عن رعي الغنم وإن كان القطيع ملكا لهم، ويفضلون الهجرة إلى المدن للاشتغال، بحثا عن حياة أفضل، وقال بأن أكثرية الرعاة يغترون بالمظاهر، فعودة أحد شباب القرية من المدينة وهو يرتدي ثوبا نقيا تجعلهم ينظرون إلى العمل الذي يقومون به نظرة احتقارية تفسر ظاهرة قلة الرعاة في المغرب. التعالي والتحكم المشكل الذي يواجه معظم الكسابة في ظل ظاهرة قلة الرعاة، هو الابتزاز الذي يتعرض له بعضهم من طرف السماسرة ومن طرف الرعاة ذوي التجربة في المجال «الحريفية» الذين بمجرد أن يشعروا بأهميتهم حتى تنتابهم موجة من التعالي والتحكم، يقول أحد الفلاحين أنه بمجرد تمكن الراعي وإحكام قبضته على القطيع يصبح هو الكل في الكل، فالمشغل في كثير من الأحيان لا يستطيع أن يقترب حتى من الآليات التي يملكها، خاصة إذا كان للراعي زوجة وأولاد يسكنون معه، فعلى المشغل أن يتجنب إدخال الشكوك إلى نفس الراعي فلا يقترب من المكان الذي تتواجد به عائلته في غيابه درءا للشبهات.وأوضح بأن السماسرة يكون لهم نصيب مادي في عملية البحث عن الرعاة بحيث يصل المبلغ الذي يحصلون عليه إلى 1500 درهم، وفي الحالة التي يترك فيها الراعي الضيعة من تلقاء نفسه ليس هناك من يعوض «مول الغنم»، مشيرا إلى أنهم يلجؤون في الكثير من الأحيان إلى تحكيم أعيان القبيلة الذين يقومون بفض النزاع القائم بين الطرفين. ومن القصص التي سردت على مسامعنا والتي تظهر مدى التعالي والتحكم الذي ينتاب بعض الرعاة، قصة راعي غنم تم استقدامه مرفوقا ببناته الثلاث اللواتي قام بإخراجهن من صفوف الدراسة لمساعدته في العمل بضيعة سي المهدي في سطات، وبعدما تفرغ الأخ الأصغر لإتمام عملية تنقيل وتسجيل بنات الراعي في مدرسة قريبة بمدينة سطات لعدم تقبل فكرة حرمانهم من التمدرس وهن لا زلن قاصرات، تم تمتيع الأب بالمسكن بعد إصلاحه وتوفير جميع الاحتياجات الضرورية، زيادة على منحه مبلغ 200 درهم أسبوعيا من أجل التبضع من السوق وكل طلبات الراعي يقول المهدي كانت مجابة، غير أنه بعدما استحكم في الرعي وشعر بأهميته في الضيعة أصبح يدخل في منازعات مع الأخ الأصغر الذي كان يسهر على الضيعة واحتياجاتها ويراقب عمال البناء الذين كانوا يدخلون بعض الإصلاحات على الإسطبل، وفي يوم صادف نهاية الأسبوع، زار سي المهدي الضيعة برفقة أولاده ودخل في حديث مع الراعي أخبره أن أحد العمال أخبره عن المشاجرات التي تكون في غيابه بينه وبين أخيه الأصغر فإذا بالراعي يتابع سي المهدي، رافعا صوته في وجهه قائلا « يا أنا يا خوك هنا» وبطبيعة الحال فضل المهدي أخاه وحل الراعي وبناته إلى حال سبيلهم وبحوزته 7000 درهم. رحلة إلى امنتانوت مول الغنم مدلول، قالتها «فاطنة» أم سي المهدي، دلالة على الشروط التي يفرضها الرعاة على «مول الغنم» ويدعن لها هؤلاء مكرهين، خاصة إذا كانوا يتوفرون على أعداد كبيرة من رؤوس الأغنام والأبقار التي تحتاج إلى الرعاية والخبرة، أما إذا كان عددها قليل فإن ذلك لا يستدعي البحث عن الخبرة فأي راعي يفي بالغرض، البحث عن الخبرة والتجربة و»المعقول» استدعت من الأسرة البحث عن راعي في منطقة امنتانوت نواحي أكادير، بحيث قطع الأخ الأصغر مسافة طويلة من أجل جلبه للاشتغال في ضيعتهم التابعة لإقليم سطات، وفعلا حط رحاله بالمنطقة وبدأ عمله وفي يوم من الأيام طلب من الأسرة العودة لإمنتانوت لرؤية والدته والمجيء بها لأنها أرادت أن تزور ابنتها متزوجة بالمنطقة نفسها، فاضطر الأخ الأصغر من جديد إلى معاودة الرحلة إلى المنطقة البعيدة والمجيء بالأم، إرضاء للراعي حتى يتمم عمله على أحسن وجه، وقد استمر اشتغاله مدة من الزمن حتى طلب من الأسرة في يوم من الأيام زيارة أخته القريبة منه حيث ذهب ولم يعد. وفي سؤالي للسيدة فاطنة عن سبب قطع مسافات كثيرة للبحث عن راعي للغنم، قالت بأن أبناء المنطقة لا يقبلون الاشتغال «سراح» فهي في نظرهم مهنة دونية، وحكت عن قصة ابن الجيران الذي كان يرعى غنمه مدة من الزمن وبعد موت القطيع بسبب مرض ألم به أضحى وحيدا، فطلب منه ابنها بأن يقوم برعي غنمهم مقابل أجرة مهمة مع الاستفادة من المسكن والمأكل، فقال له بالحرف» انتوما لي جيتو غير البارح أنا نسرح عندكم « ورفض، وبلغ إلى علمهم أنه يشتغل بمبلغ أقل في ضيعة أخرى بعيدة عنهم. قصة أخرى لراعي قادم من منطقة امنتانوت، مفادها أنه منذ بداية عمله بالضيعة لم يصبر طويلا، فكل مرة كان يفاجئ الأسرة بمحاولته الهرب والعودة من حيث جاء، وسط تخوفات من إصابته بمرض عقلي، حيث قالت الأم فاطنة إنها كانت لا تفقه له حديثا، وأنه كان يضحك لوحده في خلوته وهو ما أدخل الشكوك إلى ذهنها وأصبح الراعي مصدر قلق بالنسبة لها والكل متخوف ومتوجس منه، أخيرا تضيف فاطنة رحل إلى حال سبيله بعدما قال لأحد الصبية «العز لامنتانوت» ولما سأله الصبي الذي لا يتجاوز عمره 10 سنوات عن ما يميز المنطقة عنهم أوضح له أن منطقتهم لا تتوفر على «تافروخت» أي البنات. «هم» الدعم بسبب موجة الجفاف التي تضرب عدة مناطق في المغرب، فإن تربية الماشية أصبحت صعبة والحفاظ على بقائها وعدم إصابتها بالأمراض أصبح أصعب، وقد ازداد الوضع سوءا بسبب غلاء الأعلاف التي وصلت أرقاما قياسية فاقت طاقة الكسابة، مما أثر على أسعار الماشية في الأسواق وأدى إلى تدني أسعار اللحوم الحمراء، ولتجاوز الأزمة والتخفيف من آثار الجفاف على الفلاحين والكسابة «الصغار»، نجد بأن الحكومة ابتكرت خطة عاجلة خصصت من خلالها غلافا ماليا بقيمة 4،5 ملايير درهم لمكافحة تأثيرات الجفاف، فضلا عن تعويضات بقيمة 1،25 مليار درهم لتأمين المحصول الزراعي، وتم الإعلان وبشكل رسمي عن ثمن دعم الشعير بدرهمين للكيلو غرام الواحد، إضافة إلى دعم العلف المركب بقيمة 35 % بالنسبة للتعاونيات والجمعيات المهنية وبقيمة 30 % للفلاح الفردي. انفتاح الرعاة على القنوات الفضائية والهواتف الذكية ولد لديهم شعورا بالحكرة والانحطاط «السيكوباتي» في نظرك ما هي الأسباب التي أثرت على مهنة رعي الغنم في المغرب وجعلتها على حافة الاندثار، بحيث أن معظم الفلاحين يشتكون من ندرة الرعاة ذوي الخبرة في المجال؟ كما هو معلوم فإن مهنة رعي الغنم من أقدم المهن التاريخية، بل قد نقول من أولها، لارتباطها بوجود الإنسان واستمرارايته لكونها تلبي حاجياته البيولوجية والفيسيولوجية، ولقيمة هذه المهنة تحولت عند بعد الأنبياء والرسل إلى جزء من مهمتهم الرسالية لما تلعبه من دور في زرع الحس الإنساني وتنمية قدرة التأمل في الكون وموجوداته وتعميق الإيمان بخالق الوجود، إلا مع تطور الحضارات وانتقال المجتمعات الحديثة نحو الصناعة والتكنولوجيا خاصة في المجال الفلاحي بدأ يخبو وهج هذه العملية، بظهور شركات تجميع وتعليف الماشية في أماكن محددة دون الاعتماد على تسريحها في السهول والمراعي والجبال، مما أثر على قيمة الراعي ودوره في العملية. والمغرب ليس مستثنى من هذه التداعيات، فتراجعها قد يعود لبعض الأسباب الموضوعية والذاتية: من أهمها: تحول النظرة المجتمعية من الاحترامية إلى الدونية لراعي الغنم ويتمثل في ذلك ببعض الأمثال الشعبية والتوظيف الانحطاطي لاسم الراعي في كل منازعات المجتمع، حيث أن كل من أراد أن يهين شخصا آخر ويذمه أن يقارنه (بالسارح)، والذي أمام هذا الإحساس بالاحتقارية سيتم التخلي عنها بالضرورة الاجتماعية أو النفسية، ناهيك عن بعض الحوادث المرتبطة بهذه المهنة خصوصا الاغتصاب وبعض الجرائم الأخرى التي ارتبطت بها، مما زاد من تخوف المجتمع من الاقتراب من هذه الفئات أو مدحها كما كان في السابق. اختفاء بعض القرى والزحف الإسمنتي على مناطق الرعي والتصحر والجفاف، ساهم بشكل كبير في انحسار مهنة الرعي وأدى إلى ارتفاع معدلات الهجرة من البوادي إلى المدن. انتشار القنب الهندي وزراعة الكيف وتناوله أدى بشباب القرى إلى أن ينحو منحى الاتكالية والكسل والبحث عن الربح السريع في بيع المخدرات رغم ما فيه من مخاطر أفضل بالنسبة إليهم من التبكير في تربية الماشية. غياب سياسة حكومية للحفاظ على هذا النوع من الوظائف الهامة والجميلة في القرى ودعمها، للتقليل من الهجرة إلى المدينة ولحماية مهنة الرعي من الاندثار. غياب أي مبادرات من المجتمع المدني بل وانعدامها بالمرة، بزيارات للرعاة وتقديم جوائز تشجيعية لأحسن راعي وغيرها من الأنشطة التي يمكن أن تساهم في استقرار هذه المهنة. لماذا أصبح الكثير من الشباب في القرى يرفضون رعي الغنم والاعتناء بالأرض ويفضلون الهجرة إلى المدينة والاشتغال في مهن حتى وإن كانت حاطة من كرامتهم؟ الشباب يحاول تبادل الأدوار الاجتماعية والوظائف مع شباب المدينة، فأمام انفتاحه على القنوات الفضائية والهواتف الذكية كالآخرين في المدينة ولد لديه شعور ( بالحكرة الاجتماعية والانحطاط السيكوباتي)، مما دفعه حسب هذا الشعور بضرورة التخلص من عقدة الارتباط الحيواني الترابي إلى الارتباط الإنساني الحضاري، وذلك في تحد للقدر، أي أنه ليس من قدره الضعف والتخلف وتغذية البهائم واستمراره في حالة البؤس واللباس الوسخ والشعر المغبر، بل لا بد أن يحدث ثورة في عالمه الذاتي ويتحول في الشكل والمظهر، ولكن للأسف عندما ينخرط في ويلات المدينة واختناقاتها ونفاقها ووحشيتها ينتقل إلى مرحل أعقد من الأولى حين لن يستطيع العودة إلى ما كان عليه أو الاستمرار إلى ما هو عليه، وهي مرحلة اضطراب وقلق ومن ثم اكتئاب تقود في الأخير إلى الانتحار أو التعاطي لأخبث أنواع المخدرات أو الانخراط في عالم الجريمة. هل هناك سبيل لتقنين هذه المهنة في المغرب وإشعار أصحابها بالأهمية التي تكتسيها؟ طبعا تقنين هذه المهنة ليس بالأمر السهل لأن الموضوع لم يتداول لا سياسيا ولا مجتمعيا ولا ثقافيا ولا تعيره أي جهة الاهتمام رغم خطورته لارتباطه بأهم قطاع اقتصادي يعتمده المغرب ويراهن عليه في الرفع من معدلات النمو والتنمية، وقد تكون جريدة «المساء» سباقة إلى فتح هذا الملف غير المنظور ولكن آثاره خطيرة فلاحيا وتشغيليا وإجراميا. لذا، فنحن نرى أن يفتح هذا الملف للنقاش العام ولكن بمنظور استراتيجي، وأن تنخرط الدولة في إيلاء هذه الفئة الاهتمام على الأقل أن يتم تسجيلها في صندوق الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية، وتقديم حوافز وجوائز لأفضل راعي غنم حافظ على الماشية من الناحية الصحية والتكاثر، مما يدخل في تنمية وتطوير الغنم وهكذا في ظل استمرار هذه العناية المدروسة إلى أن تفرض هذه المهنة نفسها من جديد بقوة وعليه سيكون وضع التشريعات المنظمة والمهيكلة لها مجديا ومفيدا.