من كان يتصوّر أن المغرب سينضاف إلى لائحة طويلة من أسماء الدول التي تعرف اضطرابات اجتماعية داخلية وهو الذي كان إلى وقت قريب جدا آخر جزيرة آمنة مطمئنة في العالم العربي الإسلامي والإفريقي. سيقول الطيّبون إنها عين قد أصابته، ويقول العقلاء أنها نتيجة حتمية لجشع النخب السياسية ولتدبير حكومي فاشل. كان الجميع يعتقدون أن دستور 2011 هو الأرضية الصحيحة والثابتة لانطلاقة جديدة نحو ديمقراطية تمكّن من العيش الكريم ومن التعبير الحرّ. صدّقنا ذلك حينما أحسسنا بإرادة ملكية صادقة في التغيير، وانخرط الجميع في المسلسل الديمقراطي، وأجريت الانتخابات التشريعية التي أفرزت حزبا إسلاميّا قاد الحكومة لخمس سنوات. ساهم المغاربة في هذا المسلسل الديمقراطي آملين في غد أفضل. وانتهت التجربة الحكومية الأولى بحلوها ومرّها، وظن الجميع أن المغرب قد وُضع على السكة الصحيحة، وانطلقت التجربة الثانية في 07 أكتوبر 2016، ولكن قواعد اللعبة هذه المرّة قد تغيّرت، عفوا ! لم تتغيّر قواعد اللعبة بل رمي بها جانبا وعادت حليمة إلى عادتها القديمة وعاد السوس إلى عقول السياسيين من جديد وطمع الصغار في الكعكة قبل الكبار توقّف المسلسل الديمقراطي أو بالأحرى مسرحية المسلسل الديمقراطي لمدة سبعة أشهر. نعم سبعة أشهر من المخاض العسير لينتهي الأمر بحمل كاذب. مفاوضات عقيمة بين بارونات الأحزاب لم يستطع خلالها رئيس الحكومة المكلّف آنذاك تشكيل فريقه الحكومي. علّق الحجّام وجيء بطبيب نفساني علّه يفك عقدة الحكومة المريضة. تم تسجيل الكعكة باسم الحزب الفائز بالانتخابات وأخذها غيره ليلتهمها مع رهطه بطريقته الخاصة رضي الحزب الفائز في الانتخابات بفتات الكعكة وسعِد بكرسي الرئاسة. تشكّلت الحكومة بقدرة قادر بين عشيّة وضحاها وأخذت صورة جماعية لأعضائها وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامة ودّ وصفاء وكأن شيئا لم يكن حتى أعتى خبراء التيرسي عجزوا عن فك شفرة التشكيلة الحكومية. أخذ الجميع صورة تذكارية وكأن شيئا لم يكن كذلك ظن الزعماء السياسيون ولكن الحقيقة أن هناك أشياء وأشياء من الخطورة بمكان وقعت في فترة البلوكاج الحكومي وهل هناك أخطر من أن يكتشف الشعب أن انتخابات 07 أكتوبر لم تكن إلا عرضا هزليّا سمجا وخدعة كبرى لسرقة أحلام الناخبين وطموحاتهم، وهل هناك أخطر من أن يصل الشعب إلى حقيقة صادمة وهي أن الأحزاب السياسية العريقة التي طالما روّجت للوطنية والدفاع عن مصالح الوطن أصبحت مجرّد دمى تحرّكها في الخفاء أصابع الرأسمالية المتوحّشة كيفما تشاء ؟ وهل هناك أخطر من أن يخرج الناس إلى الشارع ولشهور متتالية مطالبين بأبسط حقوق المواطنة وهي حقهم في الشغل والتعليم والصحة والسكن. كتبت الكثير من الأقلام المحلّية والأجنبية عن الحراك الاجتماعي في إقليمالحسيمة وغضّت الطرف عن الحراك الاجتماعي في باقي الأقاليم والمدن الأخرى كتونات وخريبكة والناظور وتطوان وطنجة والرباط والبيضاء وغيرها من مدن المغرب كلها إقليمالحسيمة هتافات وشعارات واحدة وموحدة تدعو إلى العدالة الاجتماعية ولم تخرج مسيرة واحدة تطالب بالانفصال أو حتى بمطالب سياسية كما كان الأمر في مسيرة 20 فبراير 2011، لأن المغاربة أذكى من ذلك بكثير، وحسهم الوطني أرقى من أن ينزل إلى مثل تلك المطالبات ولو كان زعماء الأغلبية الحكومية بمثل ذلك الذكاء، وذلك الحس الوطني، لاكتشفوا هول ما أجرموه في حقّ المغاربة ولقدّموا اعتذارا يليق بعظمة هذا الشعب، بدل أن يخرجوا إلى وسائل إعلام ببيان مضلّل وجائر يتهمون فيه سكان الريف في وطنيّتهم وانتمائهم. إن زعماء الأحزاب قد فقدوا كل مصداقية في نظر الشعب الذي صوّت عليهم في الانتخابات الأخيرة. ونفس هذا الشعب أصدر ضدهم حكما بالطلاق الذي لا رجعة فيه. اختلع الشعب من ساسته وفسخ ذلك العهد الذي كان يربطه بهم وكان البادئ أظلم. فمن المسؤول يا ترى عن كل هذا؟ إنها الكعكة التي أسالت لعاب الزعماء السياسيين. بالأمس كانوا يتنازعون عن تقسيم الكعكة. أما اليوم فقد تطوّرت الأمور إلى أن أصبحوا يقرّرون في من يحق له المشاركة في تقسيم الكعكة : يقبلون هذا ويمنعون ذاك وكأن المغرب ملك لهم ورثوه عن آبائهم وأجدادهم الذين استلموه من المعمّر الأجنبي. يضحكون على الذقون حين يقولون أن بلوكاج سبعة أشهر مسألة طبيعية للديمقراطيات ويقدّمون أمثلة من دول أوربا كاليونان وإيطاليا وإسبانيا. هل نقارن أنفسنا نحن بتلك الدول العريقة في الديمقراطية ونحن لم نعرفها إلا حديثا وقبيل تولي صاحب الجلالة العرش؟ ولكن من هؤلاء الذين أصبحوا يقررون في مصائر الحكومات؟ كيف تتشكّل؟ وممن تتكوّن؟ إنها طبقة من السياسيين الجدد الذين لا يربطهم بالسياسة إلا الاسم : مقاولون كبار وإقطاعيون وأباطرة الريع وأما السياسيون التقليديون الذين تربوا في الشبيبة الحزبية وتدرجوا في مسؤوليات داخل الأحزاب فلم تعد لهم قيمة أو اعتبار ولولا عشقهم الكبير لكراسي الوزارة وتشبثهم بفُتات الكعكة لما فكروا أصلا في الدخول إلى الحكومة. هذه الطبقة الجديدة من السياسيين أو ما يطلق عليهم (بأصحاب الشكارة) هم الذين خرّبوا الحقل السياسي في المغرب وذلك بقلبهم لكل المفاهيم السياسية والحزبية المتعارف عليها. فالسياسة عندهم هي وسيلة ناجعة من وسائل الماركيتينغ التي تساعد على تسويق المشاريع المالية والاقتصادية. والأحزاب ما هي إلا مكاتب تسويق يعمل موظّفوها على تمرير تلك المشاريع بين مؤسسات الدولة وأجهزتها التشريعية. تغلغلت هذه الطبقة الجديدة من السياسيين داخل الأحزاب التقليدية وحوّلتها من أحزاب وجدت أصلا لخدمة مصالح المواطنين والدفاع عن حقوقهم إلى مقاولات نفعية تضع الربح المادي في أولوياتها، وظهرت قيادات جديدة لا علاقة لها بالحزب ومبادئه وتوجهاته ودانت لهذه القيادات الجديدة الرقاب، ولكن سريعا ما اشتعلت الصراعات والفتن بين تلك القيادات الجديدة وباقي أطر الحزب لأنها كانت قيادات تنقصها التجربة والحنكة السياسية والكريزما التي تمكّنها من الزعامة. أفسدت الطبقة السياسية الجديدة الأحزاب وفجّرتها من الداخل وجعلتها تبتعد عن هموم الشعب وانشغالاته فلا تفكّر إلا في الطريقة التي تمكّنها من الحفاظ على مصالحها النفعية. تُرك المواطن لنفسه وتدهورت أحواله نتيجة سياسة حكومية فاشلة أغفلت الشق الاجتماعي ولهثت وراء محاولة خفض العجز وعدل الميزانية وأحلام الاستثمارات. توقّف التشغيل وجمّدت أجور الموظفين وتمت مراجعة صندوق المقاصة فرفع الدعم عن المحروقات مما أدى إلى اشتعال الأسعار. استطاعت الطبقة الجديدة من السياسيين أن توجّه اهتمام الحكومة نحو سياسة اقتصادية لا تأخذ في الحسبان الجانب الاجتماعي إلا أن المواطن البسيط لا يفهم إلا شيئا واحدا وهو أن يعيش عيشا كريما في وطنه من خلال توفير الشغل والصحة والتعليم والسكن، أصبح الشعب في واد والحكومة بأحزابها في واد آخر واتسعت الهوّة بينهما. هذا الوضع الذي وصلنا إليه يذكرنا بوضع تونس الشقيقة قبيْل الثورة حيث كانت الطبقة السياسية فيها أرباب مقاولات وأصحاب ريع لا يهتمون إلا بالاغتناء من خلال دعم رأسمالية متوحّشة وإهمال متعمّد للطبقات الكادحة من الشعب، والوضع نفسه عرفته مصر التي عشّشت فيها طبقة من السياسيين الفراعنة الذين اغتنوا اغتناء فاحشا على حساب شعب مصر العظيم. أطلق البوعزيزي الشرارة الأولى التي كادت أن تحرق البلاد وتعصف بمستقبلها، وتقهقرت مصر لعشرات السنين إلى الوراء بفعل الثورة المضادة. وكاد أن يكون مصير بلدنا شبيها بالشقيقتين مصر وتونس – لولا لطف الله – وذلك حين رمى محسن فكري بنفسه في شاحنة النفايات شهيد الظلم والحكرة. لا يختلف اثنان في أن للريف خصوصيته شعبا وتاريخا، ولا يجادل عاقلان في أنه يجب معالجة مشاكل تلك المنطقة بالحكمة والتبصّر وليس بالعنف والعنف المضاد لقد أحس سكان الريف بالإهانة وإهمال المسؤولين لهم حين أخلفوا الوعد وخانوا العهد. خرجت جماهير الريف عن بكرة أبيها إلى الشارع للتعبير عن سخطهم واستيائهم من النخبة السياسية الحاكمة وخرجت معهم جماهير باقي المدن والأقاليم الأخرى، لأننا جميعا شعب واحد موحّد إذا اشتكى منه إقليم تداعت له باقي الأقاليم الأخرى بالنصرة والتأييد. لقد تعرّت النخبة السياسية الحاكمة أمام الملك والشعب وافتضحت أساليبها المعوجّة وحيلها الميكيافيلية وجاء وقت الحساب والعقاب وعد صادق قدّمه صاحب الجلالة برد الاعتبار إلى سكان الريف والاقتصاص ممن عرّضوا البلاد والعباد لخطر الفتنة وما بقي على سكان الريف إلا أن يعوا أنهم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن لهم ما لجميع المواطنين المغاربة من حقوق وعليهم ما لجميع المواطنين المغاربة من واجبات، وأن حماية الوطن مسؤولية الجميع بلا استثناء. إن للدولة مؤسسات يجب أن تحترم ومنها القضاء الذي سيقول كلمته في أحداث الريف الأخيرة. ولا أظن أن القضاء الذي قدّم كل الضمانات لمحاكمة عادلة وشفافة للمرتزقة المجرمين الذين اعتدوا على رجال الأمن في مخيّم إكديم إزيك، سيمنعها عن المواطنين الشرفاء الذين خرجوا إلى الشوارع في الحسيمة واشتبكوا مع رجال الأمن الذين تركوا وحدهم في مواجهة غضب الجماهير. لم يكن هدف المحتجّين إحداث الفوضى والفتنة وإنما إبلاغ أعلى سلطة في البلاد عن مدى الحكرة والتهميش الذي لحقهم، سلاحهم في ذلك أصوات حناجرهم التي لا تزال تصدح إلى اليوم وإذا كان لأحداث الحسيمة فضل يحسب لها هو أنها استطاعت كسر شوكة طبقة السياسيين الجدد أصحاب الشكارة الذين اعتبروا البلاد ملكا لهم وكعكة شهية دسمة يقتسمونها فيما بينهم، لِيعْلم هؤلاء أن المغرب إنما هو كعكة مسمومة في بطون تلك الطبقة من الاستغلاليين المفسدين. وإذا كان لأحداث الحسيمة فضل يذكر إنما هو توجيه صدمة كهربائية صاعقة إلى عقول السياسيين التقليديين وإلى قلوبهم علّهم يستفيقون من غيبوبتهم ويعودون إلى رشدهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.