لم أكن محتاجا كمواطن مغربي وأنا اتابع مايجري في تونس ومصر لتقرير قناة "فوكس نيوز" حول "الاستثناء المغربي"، وملكيته العريقة وتجدرها التاريخي في النسيج الثقافي والاجتماعي المغربي، فأنا مقتنع بذلك ومعتز به ، وأعرفه من قرائتي للتاريخ والحاضر وأعيه جيدا . لم أكن محتاجا لتصريح وزيرة الشؤون الخارجية والتعاون الاسبانية ترينيداد خيمينيث، وقولها ان المغرب ليس هو مصر او تونس، واعترافها أن المغرب "حقق تقدما في مجال الحريات الأساسية وحقوق الإنسان". لم أكن محتاجا لتقرير المخابرات الاميركية حول الاستقرار السياسي بالمغرب واستبعاد ان يحدث فيه ماحدث بمصر وتونس. لم أكن محتاجا لتوقع مؤسسة "فيتش ريتينغ" للتصنيفات الائتمانية بأن يظل الوضع بالمغرب مستقران ولست محتاجا لغيرها من الشهادات، لأنني مؤمن بقوة بان المغرب مختلف تماما عن مجمل الدول العربية سواء من حيث تاريخه وتاريخ الدولة المغربية الضارب في عمق التاريخ، وعراقة النظام الملكي المغربي ووطنيته، أو من حيث محاربته للحزب الوحيد وفتحه الباب للتعددية السياسية منذ الاستقلال. لم أكن محتاجا لتلك الشهادات، لأني أعرف أن الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله رفض منطق الاقصاء ضد قوى لها حضور في المجتمع كما حصل في الجزائروتونس، و فتح قبل وفاته بسنوات مسلسل المصالحة بالافراج عن المعتقلين السياسيين وعدد من الخطوات الايجابية في مجال حقوق الانسان، وحرية التعبير والصحافة، وقبل بإدماج الاسلاميين في العملية السياسية، تمهيدا لما يعرف بمرحلة الانتقال الديمقراطي من تعديل الدستور سنة 1996 إلى تشكيل حكومة التناوب وقيادتها من المعارضة السابقة، واكمل خلفه الملك محمد السادس المسيرة وزادها قوة بفتح صفحات الماضي أو مايعرف في الاعلام بسنوات الرصاص للنقد والمسائلة على الملأ وللإعلام بكل انواعه في إطار مايعرف بالعدالة الانتقالية وضمن مسلسل الانصاف والمصحالة، وتعويض المتضررين ماليا وماإلى ذلك . لم أكن محتاجا لتلك الشهادات ، لأن المغرب ظلم من الإعلام الدولي بعدم تسليط الضوء الكافي على تجربته الرائدة في العالم الاسلامي والعربي في ملف المصالحة، لأن ذلك يحرج نظام بن علي ونظام مبارك الذي كان يسوق للعالم على انهما النموذج المطلوب والمرغوب للغرب، فسكت ذلك الاعلام عن ظلمهما حتى حصل ماحصل، بل على العكس جزء من ذلك الإعلام شاكس وعاكس أو تواطئ بالسكوت على حق المغرب في صحرائه ، ولذلك فهو (المغرب) ليس محتاجا اليوم لشهادات ولا لدروس من الخارج. لم أكن محتاجا لتلك الشهادات لأني مؤمن بأن المغاربة بكل جهاتهم وفئاتهم الاجتماعية وألوانهم السياسية والفكرية والثقافية إلا حالات شاذة – والشاذ لاحكم له- متفقون ومقتنعون بان الملكية رمز لوحدتهم وتماسكهم قوتهم، وهذا لايعني عدم وجود نقاش حول طبيعة الملكية ، ووجود من يطالب بملكية برلمانية أو ملكية تنفيذية بمواصفات معينة ومإلى ذلك من النقاشات التي طرحت على صفحات الجرائد المغربية وفي موائد نقاش ومحاضرات في قاعات عمومية بكل حرية، لكن الجميع مقتنع بها وبأهميتها وبان اي اصلاح يجب ان يكون بالتوافق معها، وهو مايعني في المحصلة ، أن من يقول باحتمال انتقال ماحصل بتونس ومصر للمغرب والمنازعة في طبيعة النظام السياسي واستقراره، مصاب بالحول في فكره وتحليله قبل نظره. لكن ماسبق لايعني أن المغرب في وضع مثالي، بل هناك مخاطر على خصوصيته ومكتسباته في السنوات الأخيرة تتمثل في الآتي: -وجود بوادر للانقلاب على منطق التعددية السياسية الحقيقية و إدماج الإسلاميين في العمل السياسي والمؤسساتي لصالح تعددية شكلية ومنطق التهميش والإقصاء لصالح حزب متنفذ، وهي البوادر التي بدأت تلوح بعد أحداث 16 ماي الارهابية، وتحولت لسلوكات عملية بعد انتخابات 2007 التشريعية، وتأكدت بعد حصول حزب الأصالة والمعاصرة قبل ثمانية شهور تقريبا من ولادته على المرتبة الاولى في الانتخابات الجماعية الاخيرة ،وخاصة في تشكيل المجالس المسيرة للمدن وماتلاها من مسلسل إقصاء حزب العدالة والتنمية من مجلس وجدة وطنجة وغيرها من المدن ومازال المسلسل متواصلا، مماجعل بعض المتتبعين يستحضرون تجربة الفديك ، وآخرون يستحضرون تجربة الحزب الوحيد بتونس( التجمع الدستوري ومصر (الحزب الوطني). ويعتقد البعض بناء على عدد من المؤشرات على ان هذا الحزب بحكم قرب زعيمه وصداقته للملك، له نفوذ كبير في الدولة حيث خبر دواليبها وادار فيها ملفات حساسة ، مما جعل الاحزاب الاخرى وخاصة منها التي توصف بالإدارية، تتعامل معه بخوف فتسارع لتلبية طلباته خاصة بعدما دخل زعيمه البرلمان بثلاثة مقاعد فشكل بسرعة البرق فريقا برلمانيا يتجاوز عدد اعضائه الخمسين ، وحصل على رئاسة الغرفة الثانية رغم تصنيف نفسه في خانة المعارضة، واستمرار هذا المسلسل بهذا الشكل يهدد التعددية السياسية المغربية في ظل أحزاب سياسية خانعة اعتاد جزء كبير منها التحرك بلغة التعليمات و الإشارة والضوء الأخضر والضوء الأحمر. -تبخيس عمل الأحزاب لصالح عمل المجتمع المدني، مما انعكس جليا في نفور الشباب من العمل السياسي والمشاركة الانتخابية. -وجود أحزاب فشلت في القيام بدورها التاطيري والتمثيلي، وتحولت لمجرد دكاكين انتخابية تستقطب أصحاب المال والنفوذ، عاجزة على أن تقدم للمؤسسات التمثيلية طاقات وكفاءات حقيقية قادرة على خدمة الشأن العام وتطوير تلك المؤسسات والرفع من أدائها، وعاجزة عن القيام بدور الوساطة كما ينبغي، فلا يعقل أن يكون حزب يشارك في الحكومة بمناصب مهمة كمنصب وزير المالية، ويخرج بيانا على هامش احتجاجات المصريين، يدعو باستهبال واستخفاف للعقول الحكومة ل"تسريع وتيرة أدائها، وخصوصا في مجالات محاربة الفقروالهشاشة والعمل على إدماج كل فئات الشعب المغربي، وتمتيعها بثمار الجهد التنموي" فماذا كان يصنع في الحكومة إذا لم يكن هذا همه الاول؟ وعجز الأحزاب عن القيام بدورها جعلها في قاعة انتظار تتفرج على المعركة بين حزب الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية، معتقدة ان كسر الجرار زجاج المصباح سيمنحها حقها في الكعكة (هامشا اكبر في المشهد السياسي والبرلماني) بعد ازاحة منافس من الطرق، متناسية ومتجاهلة ان الجرار وهو يحرث الحياة السياسية المغربية سيرمي الوردة جانبا ويشق الميزان ويخلخله ويدوس على الكتاب ويطفأ الشموع وماجوارها، بعدما افرغ السنبلة وروض الحصان وجعل الحمامة تطير وراءه . - هيمنة المؤسسة التنفيذية (الحكومة) على المؤسسة التشريعية (البرلمان) مما حول هذا الأخيرة لمجرد فضاء لطرح الاسئلة والمناوشات الكلامية في ظل عجزه من حيث مكوناتها السياسية والقوانين التي تحكم عملها على ممارسة الدور التشريعي والرقابي على عمل الحكومة ومحاسبتها بشكل حقيقي وفعال تجعل له هيبة وقيمة لدى المغاربة. - عدم تفعيل توصيات هيئة الانصاف والمصالحة وخاصة فيما يتعلق بالحكامة الأمنية - إهمال تقرير الخمسينية وخلاصاته وعدم استحضارها بوضوح في العمل الحكومي - وجود تراجعات في مجال حرية الصحافة والتعبير (محاكمة صحافيين وإغلاق صحف) وفي مجال حقوق الانسان. إن الأحزاب السياسية الحقيقية ذات الرصيد الشعبي والنضالي ، ومؤسسات المجتمع المدني والنخبة الفكرية والثقافية تتحمل مسؤولية كبيرة وتاريخية لتفادي هذه المخاطر وتجنبها، وهي قادرة إن خرجب من قاعة انتظار الإشارات، فالملك ملك كل المغاربة ، ولاينبغي السماح لحزب سياسي أن يزعم بانه يترجم مشروع الملك، ويهدد ويرعب من يخالفه بأنه يخالف مشروع الملك، ولم نسمع ولم نقرأ يوما خطابا فوض فيه الملك لمقرب منه لتشكيل حزب يتحدث باسمه، فالمؤسسة الملكية فوق الأحزاب وخلافاتهم وصراعاتهم . يجب على النخبة السياسية أن تعي بأن محاصرة شعبية العدالة والتنمية المتنامية لن تتم بالتفرج على معركته ضد تغول حزب الاصالة والمعاصرة في الحياة السياسية ، بل إن ذلك يقوي رصيد اصحاب بنكيران وحزبه لدى الشعب، ويصوره على انه ضحية جرأته وتصديه للجرار، بينما يزيدها (النخبة ) والاحزاب السياسية وخاصة منها الوطنية والتاريخية ضعفا ويجعلها في صورة الجبانة والانتهازية في نظر المغاربة. لقد آن الأوان للنخبة السياسية والفكرية والجمعوية، ان تخرج من جحر صمتها بعد السقوط المريع للنموذج التونسي والمصري، وتتحمل مسؤوليتها في الحفاظ على النموذج المغربي والدفاع على مكتسب التعددية السياسية الحقيقية بإيقاف الجرار عند حدوده.