منذ الوهلة الأولى اكتملت الصورة في خاطري...تصورت أن عصابة من قطاع الطريق اختطفتنا من منازلنا ونزعتنا من ذوينا وجاءت بنا إلى فضاء مظلم منسي، ركح الإذلال والتحطيم واغتيال الصفة الإنسانية..شعرت بريح عفنة تهب في هذا المكان الغريب. كلما تذكرت أيام ضيافتي بدرب مولاي الشريف، يتخيل إلي أن مصائب هذا الكون بأسره بالكاد تساوي قضاء ليلة واحدة بالدرب، ومهما دونت ووصفت، ومهما اجتهدت فلن أستطيع عطاء صورة حقيقية بمأساة الإنسان بدرب مولاي الشريف. كان الولوج إلى هذا الدرب بمثابة الدخول إلى غابة متوحشة مليئة بالحيوانات المفترسة المتعطشة للدماء الآدمية....لكنها حيوانات ليست كالحيوانات، لأن هذه الأخيرة خلافا للأولى، لا تفترس إلا بمقدار وللضرورة مع احترام قواعد معلومة مجبولة عليها. أما حيوانات درب مولاي الشريف فخلت قلوبها من الرحمة ولو من اختلاجة منها، ولا مكان فيها لذرة من الشفقة، إنها آلات عذاب وتعذيب...كذبوا أمثالي على امتداد سنة أو أكثر..مخلوقات كانت ترهب الناس خوفا من استيقاظهم...مخلوقات كالتنينات تخرج من أفواههم نار تقضي على كل ما هو طيب وجميل في نفس الإنسان المغربي. بعد الاستقبال وتقييد الأسماء..خلعنا ملابسنا ومنحونا قميصا وسروالا كاكيين...أعادوا تكبيلنا بالأصفاد ما دامت العيون ظلت معصبة " ببانضة " محكمة العقدة...بعد أن جردونا من النقود والساعات اليدوية والأقلام والسجائر رموا بنا بين أيدي جماعة من " الحجاج" ( وهم سجانو درب مولاي الشريف)..صففونا صفا واحدا ووجوهنا إلى الحائط..وكان الصراخ يرتفع من كل مكان ومن كل زاوية...يستمر الصراخ في التصاعد ليتحول إلى لحن جنائزي..لحن استقبال أحياء أموات في فضاء هتك الصفة الإنسانية، فضاء يقبع فيه أناس يواجهون مصيرا مجهولا بين جدران صماء موروثة عن الاستعمار المستبد...فضاء لا مكان فيه للأمل ولا للأمنية...لم يكن أمامنا إلا الصبر والصمود. و " الحجاج" يهمون بوضع كل واحد بمكانه انطلق صوت رخيم رفيع وحاذ: الصمود الصمود يا رفاق القنيطرة. وعرفت بعد شهور أنه صوت عبد الله زعزع الذي حوكم بالمؤبد، قالها متحديا الجلادين، وأظن أنه ما زال يذكر ذلك جيدا. كان الحاج يمنعنا من وضع الأقدام على جدار القبور نتعمد استفزازه لكي يعاقبنا بالوقوف على رجل واحدة لمدة ساعة أو ساعتين. أودعونا في سرادب تحت أرضي ضيق كانت تفوح منه رائحة نتنة كأنها لب الصديد، وكانت التعليمات تقضي بعدم صدور أي صوت وإلا فالصفع والركل والضرب والتنكيل...كل حركة وبطلب رخصة من " حاج" من " الحجاج" وما أكثرهم بدرب مولاي الشريف، أدخلونا في ذلك السرداب في جو من الفزع والخوف..فتساقطنا الواحد فوق الآخر قبل أن يجمدنا أحد " الحجاج" كل في مكانه تحت سيل من التهديدات والوعيد والتنكيل...ظل الفرد منا في مكانه يجتر أفكاره وآلامه ومحنته في صمت رهيب. كنت أشعر بجوع شديد ، لكن ما الجوع بجانب الرعب والخوف العارم الذي كان يخلخل الصدور في ذلك الفضاء بدون علم أحد وراء شمس الوجود. ولا داعي للتأكيد بأنه لم يذق أحد منا طعم النوم في تلك الليلة وربما حتى في الليالي الموالية. كانت الآلام التي تواجهنا ونعايشها تشغلنا عن التفكير في التحقيق الذي ينتظرنا والذي ربما يستدعي إليه بعضنا في أية لحظات من لحظات الليل أو النهار. في تلك الليلة الأولى سمعت صوتا يصرخ وصدى فرقعات سوط تولول..أتصوره سوطا يهوي على جسد نحيف..صوت شخص مريض تسكنه بحة ..كان السبب هو أن أحد " الحجاج" ضبطه يتكلم مع أحد ضيوف الدرب الكثيرين آنذاك..بعد مدة علمت أن الصوت كان للملاخ الذي قام بطبع، رفقة العلوي، رسالة الشيخ عبد السلام ياسين " الإسلام أو الطوفان"، قبل المشاركة في توزيعها..شعرت أنني في كابوس مزعج لدرجة أنني حاولت جاهدا عدم التفكير فيما يجري ويدور حولي، علما أنني لم أكن أدري كيف سينتهي الحلم المزعج..في كل وقت كنت أحسب ألف حساب لكل لحظة قادمة، ولم يكن أمامي إلا الاستسلام في مواجهة الأحداث مع الحرص الشديد على محاولة إبعاد التذمر والانهيار..لم أقو على النوم رغم التعب والإرهاق...تذكرت أمالي وأحنبيلا:لبهجة التي كنت أشعر بها عندما كنت أناضل ( بين التلاميذ والطلاب، في التجمعات والمظاهرات..) لأن هدفي كان نبيلا : تحرير الإنسان من الظلم والاستغلال والذل لتمكينه من شروط العيش كإنسان بكرامة لا أقل ولا أكثر ...بدأت تساؤلات تتزاحم بدماغي...أين هو القانون كما هو سار به العمل عندنا على علته ونواقصه؟ أين الحضارة ؟ أين التحديث والتقدم اللذان يطبلون له ويغيطون في مختلف وسائل الإعلام آنذاك؟ ...وضاعت صورة العدل والعدالة بين التساؤلات في مخيلتي وانتابني غثيان وشعرت برغبة جارفة للتقيؤ على التو...كل هذا وأنا أجهل ما كان ينتظرني ...وإلى أي مصير أنا مقتاد بمعية الرفاق الممدودين بجانبي، وفي كل ركن من أركان فضاءات هذا الدرب اللعين. في صباح اليوم الموالي ساقنا أحد " الحجاج" إلى غرفة بها " حاج" آخر بيده آلة حلاقة، كان يمسكها ويحركها بطريقة مخيفة، كأنه جزار ينتظر الأكباش للبطش بها..وكلما جلس أحدنا أمامه هم به كأنه سيفترسه...جاء دوري وانتهت المجزرة تحت عاصفة من الشتائم لم اسمع مثلها من قبل. كنت مع مجموعة القنيطرة في ذلك القبو الذي لا يتجاوز عرضه المتر ونيف، وكنا مستلقين على ظهورنا ليس في اتجاه طوله وإنما في اتجاه عرضه، الشيء الذي حرمنا من مدر أرجلنا، لاسيما أصحاب القامات الطويلة منا، فكانوا يتعذبون ويعانون أكثر مني، أنا القصير القامة خصوصا وأن " الحاج" كان يمنع منعا كليا رفع الأقدام ووضعها على الجدار...كنا ملزمين بالاحتفاظ بالرجلين مطويتين، وهذا كان يسبب آلاما لا تطاق...لذا كان الواحد منا يتعمد استفزاز " الحجاج" لكي يعاقبه بالوقوف على رجل واحدة لمدة ساعة أو ساعتين مع الضرب المبرح... معتقل درب مولاي الشريف فضاء التعذيب والتعسف والموت البطيء، والذاكرة لا تنسى الآلام والمحن، فهناك في قلب ذلك الفضاء استشهد من استشهد، وفقد من فقد وخبل من خبل...درب مولاي الشريف مفارقة غريبة، لعب ذلك الفضاء دورا في النضال ضد المستعمر، كما أنه كان فضاء لاغتيال الأمل....إنه مرتع أناس ارتبطت أسماؤهم بالفترات المظلمة...قضيت به ما يناهز ثمانية شهور، وهناك في أكثر من ركن من أركانه صادفت رائحة محمود عرشان والحمياني واليوسفي قدوري وغيرهم...هناك كانت بأيديهم سلطة الحياة أو الموت على ضيوفهم...كانوا يفعلون بهم ما يريدون وما يحلو لهم دون حسيب ولا رقيب ولا مسائلة. ومن بين السماء والوجوه التي ظلت عالقة بالذهن، رغم أنني كنت معصوب العينين منذ ولوجي عتبة الدرب: اليوسفي قدوري رئيس الغرفة الوطنية للشرطة القضائية وعبد اللطيف بطاش و " الديب " رئيس " الحجاج"، صورهم ما تزال عالقة بذهني.