عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان العودة إلى المغرب والاختطاف بأمزميز بقينا لمدة طويلة بتل الأشعري أصبت خلالها رجلاي بالتهاب « الكزيما » بسبب الأحذية العسكرية التي كنا نلبسها لوقت طويل . بلغت درجة الألم جدا لم أعد أستطيع معه الوقوف أو الحركة فنقلوني إلى مستشفى درعه لتلقي العلاجات اللازمة . كان العديد من الفدائيين يزرونني هناك مما لفت انتباه الأطباء الذين أخذوا يستفسرون عن هويتي .. فأخبروا بأنني فدائي مغربي . وفي أحد الأيام جاءني الى غرفتي طبيبان عضوان بحزب البعث .. جلسا قرب السرير رحبوا بي أولا ثم سألني أحدهم: ما هو نوع الاشتراكية الذي تتبناه؟ وهل تقرأ مراجع وكتب تمكنك من توسيع آفاقك السياسية والمعرفية؟ حينها لم تكن لي ثقافة رصينة تمكنني من الإجابة على أسئلته بدقة فقلت له بأنني أطالع بعض الكتيبات والمجلات والجرائد فاحتج مبتسما : هذا غير كاف كان ينتظر أن أقول له بأنني قرأت الرأسمال والأيديولوجية الألمانية والنظريات المرسخة للمفهوم المادي للتاريخ... فسألني مرة أخرى: اذن ماهي الاشتراكية التي تتبناها وتعتبرها نموذجية وقابلة للتحقق؟ أجبته: الاشتراكية المطبقة في الصين فاستدار جهة زميله قائلا: والله صحيح من أجل هذا حملت البندقية بعدما شفيت عدت إلى المعسكر ولم نقم بأية عملية أخرى بعد عملية مستعمرة جبين واكتفينا بالمرافبة والرصد . في بداية نونبر أخبرنا خالد علي و هو الاسم المستعار للسي ابراهيم التيزنيتي بسوريا بأن مهمتنا في صفوف الفدائيين الفلسطنيين قد أوشكت على نهايتها ولكل واحد الحق في اختيار الوجهة التي يريد التوجه اليها: دمشق ، الجزائر أو أي مكان آخر.. وبالفعل بحكم توقف العمليات العسكرية ضد العدو والاكتفاء بالرصد هيمن علينا احساس بالملل والروتين وتبديد طاقاتنا في الفراغ .. أطلعت السي إبراهيم التيزنيتي على نيتي في العودة إلى المغرب وبعد إخبار قيادة الصاعقة بانتهاء مهمتنا في صفوف الفدائيين انتقلنا إلى دمشق وهناك التقينا بالفقيه الفكيكي .. حذرني بأن العودة إلى المغرب محفوفة بالمخاطر ولا تخلو من مجازفة ومغامرة وأن أجهزة المخابرات المغربية تتربص بنا . اعتذرت له مؤكدا بأن مسألة العودة بالنسبة لي هي مسألة تحدي سأرفعه متحملا كامل مسئوليتي.. طلبت من خالد علي بأن يساعدني بالدخول إلى المغرب وبعدها سأتدبر أموري بنفسي لم أكن جاهلا بمسؤولية العودة وعواقبها وذلك أولا لأنني كنت متابعا في قضية شيخ العرب ولأنني كنت لاجئا بالجزائر ولأنني قاتلت في صفوف الفدائيين الفلسطينيين إضافة إلى يقيني التام بأن المخابرات « الأفقيرية » كانت لها روابط وثيقة بالموساد الإسرائيلي و c.i.a الأمريكية وهو ما يفرض علي اتخاذ أقصى درجات الاحتياط والحذر سافرت بجواز سفر سوري إلى مدريد رفقة السي إبراهيم التيزنيتي وأحد اللاجئين المغاربة الذي كان يحمل اسما مستعارا أعتقد أنه توفي عقب 1973 أقمنا في بونسيون وأخبرنا السي إبراهيم التيزنيتي بأن الفقيه البصري يوجد بمدريد وأنه يمكن أن يجعلنا نلتقيه إذا ما نحن رغبنا في ذلك .. وبالفعل التقيناه في إحدى حدائق المدينة . تحدثنا معه في مواضيع مختلفة وفي مسألة عودتنا إلى المغرب فحذرني الفقيه البصري قائلا: اذا كنت ترغب في العودة إلى المغرب فيجب أن تتحمل مسؤولية ذلك لأن المخابرات المغربية تعرف كل شيء عن تحركاتنا بالخارج وعن كل ما نقوم به في الجزائر أو في سوريا أو في صفوف الفدائيين الفلسطينيين إذن يجب أن تأخذ كل الاحتياطات اللازمة عند دخولك إلي المغرب... في اليوم الموالي للقائي بالفقيه البصري استقلت القطار في اتجاه مالكا.. عندما وصلت وجدت السيء ابراهيم التيزيني في انتظاري بالمحطة ولست أدري إلى الآن بأي وسيلة وصل إلى هناك هل بواسطة السيارة أم كان راكبا معي في القطار كان الاحتياط ضروريا لذلك ربما لم نسافر معا تفاديا لأي كمين قد تنصبه لنا المخابرات .. نزلنا في بنسيون رفقة عائلة إسبانية .. قضينا فيه النهار كله وفي الغد خرجت في اتجاه مطعم لتناول الطعام .. المطر يتساقط بغزارة وفي الطريق التقيت بالفقيه البصري يحمل مظلة تبادلنا التحية سألني عن ابراهيم التيزنيتي ثم افترقنا .. في الساعة الثامنة صباحا من اليوم الموالي اتجهنا الى الميناء ركبت الباخرة في اتجاه مليلية أخبرني السي لابراهيم بأن شخصا يدعى الميد هو الذي سيستقبلني هناك وهو رجل أعمال وصاحب شركة حافلات النقل الحضري بوجدة وكان يدعى بأنه يتعاطف مع اللاجئين .. بعد أزيد من ثماني ساعات قضيناها في البحر وصلت الى ميناء مليلية حيث وجدت الشخص ينتظرني ركبنا في سيارته التي كانت من نوع مرسيدس وذهبنا إلى الدارالبيضاء سلمته جواز السفر السوري الذي دخلت به إلى المغرب .. قصدنا منزل السي بالمنصور الذي كان معنا بالجزائر ووجدنا لديه شخص من مراكش يدعى الحاج آيت الموذن فطلب منه أن يصحبني معه الى مدينة مراكش حتى أتمكن من زيارة عائلتي أقمت في منزل الحاج آيت المودن المتواجد بحي الدوديات بمراكش . اخبرني بان الظروف السياسية والأمنية بالمغرب جد محرجة بفعل وشاية شخص يدعى اوراضي يعمل كأستاذ بسلا بمجوعة من المناضلين لدى السلطات التي ألقت عليهم القبض . وكان هذا الشخص مقربا جدا من عمر دهكون وهو صاحب كتاب الأغلبية المخدوعة ، وبسبب تداعيات هذا الحدث أصبحت المراقبة الأمنية جد مشددة وأجهزة الاستخبارات مستنفرة , فاقترح علي الحاج ايت المودن بان أقيم عند أحد المناضلين الاتحاديين كما يزعم ذلك بامزميز يدعى ابراهيم الموناضي . انخرط في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الستينات وله علاقة وثيقة ببعض المناضلين الاتحاديين خاصة الحبيب الفرقاني وآيت المودن.. بقيت عنده لمدة عشرين يوما كان خلالها يتغيب مرة أو مرتين في الأسبوع مبررا ذلك بأنه يقوم بلقاءات مع مناضلين حزبيين . في يوم الأربعاء 17 دجنبر 1969 على الساعة الثانية عشرة زوالا كنت جالسا مع الموناضي في إسطبل (الروا ) الذي يفصله عن البيت حائط قصير . تحدثنا عن أثمنة الأغنام وعن الفلاحة والتجارة ومواضيع أخرى . فجأة داهمني مشهد لم يسبق لي أن رأيت مثله في حياتي كلها حتى في جبهات الحرب مع العدو الصهيوني عندما كنت في صفوف الفدائيين الفلسطينيين . حيث بدأ البشر يتقاطر من السماء كقطع التبر وري البرد أو كقطرات المطر. لم استطع أن أتتبين ما الذي وقع حتى وجدت نفسي مطروحا على الأرض تحت ركام من الأشخاص المجهولين ، بعضهم يمسك بأطرافي ليشل حركتها والآخرون ينهالون علي بكل أشكال الضرب وفي كل مناطق جسمي . التبس علي الأمر . لم اعد اعرف إن كانوا آدميين فعلا أم كلاب مسعورة في هيئة بشرية . لا يمكنني نسيان ذلك المشهد بكل تفاصيله : الأشخاص ، الأشياء المحيطة ، خليط الأصوات التي اسمعها وهم يضعون العصابة على عيني ، اهتياجهم المسعور في ضبط تحركاتي ، الجلباب الذي ارتديته ، الألم الذي أحسه وهم يقيدون يدي إلى الخلف ، الوحشية التي دحرجوني بها إلى السيارة ، آخر مشاهد الحرية قبل الاختطاف ... كل هذ ما يزال يعيش معي إلى اليوم . لم اعرف حينها أنها عتبة مرحلة جديدة من حياتي تتشكل. ساهمت غي عملية اعتقالي فرق من الدرك الملكي وفرقة من التدخل السريع والفرقة الاحتياطية والقوات المساعدة وأعوان السلطة المحلية إضافة إلى عناصر الاستخبارات التي كانت مكلفة بتسيير عملية الاعتقال والإشراف عليها. بالنسبة لإبراهيم الموناضي الذي كان معي قبل المداهمة اختفى بسرعة البرق . ولم أخمن حينها أن له دور في نسج كل هذه الأحداث. عندما زجوا بي في السيارة , جلس أحدهم إلى يميني وآخر إلى يساري . ضغطوا بقوة على رقبتي حتى انحنيت إلى اسفل . وانزلوا \\\"قب الجلابة التي كنت ارتديها على رأسي . تحركت السيارة . صمت مريب يخيم على المكان . حاولت أن أتحسس بسمعي صورة المشهد . لا حركة ولا صوت سوى هدير المحرك وصوت خفيف يحدثه احتكاك الوسطى بالإبهام بين الفينة والأخرى ، اعتقد أنها إشارة للتواصل فيما بينهم. خفت سرعة السيارة قليلا . تغير إيقاع سيرها . تعالى ضجيج حركة السير. فعرفت أننا دخلنا منطقة حضرية . وربما كانت مدينة مراكش باعتبارها الأقرب إلي قرية أمزميز . توقفت السيارة في مكان يطبق عليه صمت رهيب . نباح كلب ينبعث من مكان بعيد كما لو تحت الأرض . سمعت صوتا يشي بانفتاح بوابة حديدية . تحركت السيارة مرة ثانية . أنزلوني منها . قال لي بحدهم : احذر الأدراج . الكلب يواصل نباحه . اقتادوني إلى ممر ثم أدخلوني إلى مكان آخر . ضغط أحدهم على كتفي بوحشية إلى أن انبطحت أرضا . لم اكن اعرف بالضبط أين أوجد : هل في غرفة أم في مكتب أم سجن .. عيناي معصوبتين . ويداي مقيدتين . وقب الجلابة يغطي رأسي ووجهي بكامله . الشخص الذي يحرسني بين الفينة والأخرى ينزل القب على الوجه لكي يحد من احتمال الرؤية من خلف العصابة. بعد مدة قليلة سمعت وقع الأقدام وتزحزح الكراسي . خمنت ربما توجد هناك مكاتب . رائحة الطعام ملأت المكان . قال أحدهم بفم مملوء : أعط شي حاجة لها داك يكلها فرد عليه آخر بنغمة عنيفة : هاداك غادي يأكل السم ... عندما فرغوا من الآكل غادروا قليلا ثم عادوا . من أي منطقة أنت ؟ كان أول سؤال طرحوه علي . أجبتهم : اصلي من نتيفة وكبرت بآسفي ... طلبوا معلومات عادية أخرى عن حياتي كتاريخ الازدياد وعدد الاخوة ثم انصرفوا ... بعد حوالي نصف ساعة عادوا مقتادين الأخ الحبيب الفرقاني معهم . ستتطور الأحداث لأعرف فيما بعد بأن ابراهيم الموناضي قد قدم إلي الأجهزة الاستخبارية ثلاثة أسماء هي : أيت المودن والفقيه الفرقاني وعبد ربه . فاعتقلوا الفرقاني أولا ثم اعتقلوني بعده أما أيت المودن فقد وصله خبر الاعتقال ففر إلى الدارالبيضاء.. سألوا الحبيب الفرقاني : هل تعرف عبد الرحمان شوجار ؟ . أجابهم بالنفي . سألوني بدوري إن كنت اعرفه . فنفيت ذلك . وهذا صحيح لأنه رغم شهرته كمناضل حزبي لم يسبق لي أن التقيت به من قبل. النزول ضيفا على دار المقري أمضيت النهار كله في ذلك المكان المجهول بمراكش ، لم ينزعوا العصابة عن عيني، لم يستجوبوني مرة أخرى . في الليل سحبوني بنفس الطريقة وأخرجوني . الكلب ينبح دائما .. أركبوني السيارة .. تحركت .. بدأت أحس بيدي شبه مقطوعتين بسبب القيد الذي بقي في يدي منذ اعتقالي بامزميز . كان ضيقا جدا لأنه من النوع الفرنسي . طالت مدة سير السيارة فادركت أننا مسافرون الى مكان بعيد قد يكون منتهاه هو الموت ومن يدري ؟ . تيقنت أنني دخلت دائرة المجهول ..الكلاب الضالة تتربص بالحرية .. والذين يحرسون الشمس بأحلامهم مطاردون..انبعثت صورة الرفاق الثوار الفلسطيين .. حماسنا في مواجهة العدو الصهيوني .. حلمهم بمكان تحت الشمس تحتضنه الارض وحلمي بوطن حر.. كل هذا تراءى لي وأنا مد فون في سيارة مجهولة وسط ثعا بين لا تجيد سوىا للسع واجهاض الاحلام. كلما خفت سرعتها وكثرت الضوضاء اعرف أننا دخلنا منطقة حضرية. لم أكن أعرف نوع السيارة ولا من كان معي فيها . أزداد الألم في يدي وكتفي . لم اشعر بالجوع أو العطش رغم أنني لم آكل اليوم كله بدأت أحس بالاختناق لان أجسامهم كانت تحاصرني من جميع الاتجاهات . توقفت ا لسيارة قليلا.. ا انفتحت البوابة .. دخلت..أنزلوني إلى مكان مجهول. بعد المحاكمة سأعرف انه المعتقل الذائع الصيت دار المقري الذي يبعد ب <?xml:namespace prefix = st1 ns = \\\"urn:schemas-microsoft-comffice:smarttags\\\" />10 كيلومترات عن الرباط في اتجاه زعير. الجو بارد جدا وشهر دجنبر يوقع ببرودته الحلول الرسمي لفصل شتاء قارس.. أقعدوني الأرض - الدص – كالصقيع . تركوني هناك اليوم كله . لم يكلموني و لم ينزعوا عني القيد إلا عندما ذهبوا بي إلي المرحاض و أعادوه عندما خرجت منه. في الليل لست ادري في أية ساعة بالضبط . سمعت صخبا كبيرا . إيقاع غير عادي لوقع الأقدام . ضجيج اصطكاك الأبواب . بالطبع كان ذلك من اجل إرهابي . كنت أعرف جيدا ما الذي ينتظرني خاصة وأن الصراع مع الاستخبارات دام لعدة سنوات مند أحداث شيخ العرب. سألوني أين كنت وماذا افعل حاليا بالمغرب . أخبرتهم أنني كنت لاجئا بالجزائر والتحقت بقواعد الفدائيين الفلسطينيين . والآن عدت لأرى عائلتي . استمعوا لي جيدا ثم طلبوا مني أن أحدثهم عن حياتي منذ الطفولة . بالمدرسة ، والمستوى الدراسي الخ .. لما عرفوا مني هذه المعلومات انصرفوا . بعد مدة قليلة عاد واحد منهم فقادني إلى الأسفل . أصوات بلا اوجه . ظلمة احملها في عيني المقفلتين . أحسست بان سقف هذا المكان قريب جدا من أرضه . الصوت جد مكتوم مهما أرتفع لن يستطيع مغادرة جدران هذا المكان . رائحة نتنة تزكم الأنف . نزعوا القيد أولا من يدي ثم بعده الجلابة . مددوني فوق لوح خشبي . شدوني إليه بقوة بواسطة حبل التفت على جسمي من الرجلين وحتى الصدر والكتفين . قربوا إناء كبيرا برميل تنبعث منه رائحة كريهة . عيناي مازالتا معصوبتين . وبدون مقدمات بدءوا يضربونني بوحشية . الضربات تتوالى على القدمين بعنف وأنا أردد اسم الجلالة الله ... الله .... الله بشكل مفاجئ يتوقفون ويقلبون اللوح الخشبي الذي شدوني إليه فيغطسون رأسي في البرميل لمدة معينة . تنقطع أنفاسي . يتباطأ نبض قلبي . افقد الوعي تدريجيا . أكاد أموت اختناقا تحت المياه النتنة التي امتلأ فمي ورئتاي بها . يخرجونني من البرميل فيسألوني : قل لماذا أتيت إلى المغرب ؟ هل من أجل تدريب السكان على حمل الأسلحة والخطط الحربية ؟ أصرخ لا ،لا ، هذا غير صحيح كنت في الثورة الفلسطينية قاومت إلى جانب الفدائيين وحاربت معهم العدو الصهيوني والآن أعود فقط لرؤية عائلتي ... فيستأنفون الضرب بشكل هستيري إلى أن اصبح على مشارف الموت ثم يغطسونني في المياه النتنة التي تنبعث منها روائح البول والخ.. والكريزي .. وكل أصناف البشاعة والقرف التي يمكن أن يتصورها الذهن البشري. ظلمة العينين المعصوبتين .. ظلمة الاختناق .. أوجاع تقطع الجسم إربا إربا .. وهم كالأشباح لا يرون يمارسون عملهم بإتقان كبير يكشف عن موهبة خارقة في التعذيب والتلذذ بآلام الضحية كانوا يكررون نفس الأسئلة . فكرت حينها أن الموت واحد ومهما كان الثمن يجب أن أصمد . لم يستطيعوا ذلك اليوم أن ينتزعوا مني أية معلومة . في الأخير استسلموا ففكوا الحبال التي كانت تربطني باللوح الخشبي . ألبسوني الجلابة . أسدلوا القب على الرأس وقيدوا يدي لكن هذه المرة إلى الأمام لأنهم يعرفون أن قواي انهارت ولن أقدر على الهروب حتى ولو فتحوا الباب وجردوني من القيد . تورمت قدماي وانتفخت . الآلام شديدة لم اعد أقوى معها على المشي . جاء أحدهم فوضع حقيبة على مقربة مني وبدأ يغرس حقنة في قدمي قصد إزاحة القيح والدم الذي تجمع فيها . سأعرف فيما بعد عقب التحاقي بالسجن واحتكاكي بالمعتقلين السياسيين السابقين بأنه الممرض حسون الذي خدر المهدي بن بركة في فرنسا وهو الوحيد الذي يسمح له بالدخول إلى معتقلات التعذيب كدار المقري ومعتقل درب مولاي الشريف. تورمت قدماي وانتفخت . الآلام شديدة ، لم اعد أقوى معها على المشي . جاء أحدهم . وضع حقيبة صغيرة بقربي وبدا يغرس حقنة في قدمي قصد إزاحة القيح والدم الذي تجمع فيها . سأعرف فيما بعد عقب التحاقي بالسجن واحتكاكي بالمعتقلين السياسيين بأنه الممرض حسون الذي خدر الشهيد بن بركة اثر اختطافه بفرنسا . وهو الوحيد الذي كان يسمح له بالدخول إلى معتقلات التعذيب كدار المقري ومعتقل درب مولاي الشريف وغيرها من الأماكن التي تؤسس للذاكرة السوداء للمغرب المعاصر . عزلوني وحدي . سمعت حركة غير عادية في الخارج . وقع الأقدام كطابور جيش . الأبواب تنفتح وتنغلق . حدست انهم احضروا مجموعة أخرى من المعتقلين . وبالفعل فقد اعتقلوا مجموعة أخرى قرب وجدة عند الحدود . وكان المناضي قد كشف كل الأسماء المتعاملة مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بامزميز وأعضاء جيش التحرير . بعد ذلك احضروا مجموعة أخرى من دمنات . ثم احضروا سعيد بونعيلات واحمد بن جلون بعد اختطافهما من أسبانيا . ثم احضروا المجموعة التي وشى بها اوالراضي بسلا بمعنى أخر بدأت دار المقري تكتظ . وكان أسلوب الاعتقال يخضع لمنطق الجار والمجرور وكل ما يتعلق بهما . من الأحداث العالقة في ذهني في تلك المرحلة والتي تنتصب في ذاكرتي كمعجزة خارقة يصعب تصديقها ، ما وقع لي ذات يوم بدار المقري . إذ القوا بي في غرفة تشبه المطبخ وكنت معصوم العينين ومكبل اليدين . كان أحد الهولنديين الذي اعتقل في إطار قضية مرتبطة بالتجسس هو المكلف بإطعام المعتقلين . وقد اختاره المسؤولون عن أجهزة الاستخبارات والقمع للقيام بهذه المهمة لانه لا يفقه شيئا في اللغة العربية وليست له معرفة بأي واحد منا ومن ثمة يستحيل عليه التواصل معنا . فتح الباب وسمعت أحد الجلادين يتحدث مع الهولندي بلغته . بعدها ادخلوا شخصا إلى الغرفة فأغلقوها . انتابني إحساس غامض بان هناك حضور غير عادي . فبادرت إلى رفع يدي إلى وجهي وأزحت العصابة عن عيني قليلا . كان الشخص الذي أمامي مكبلا لابسا جلبابا اسودا . سادلا ‘'قب ‘' الجلابة على رأسه ووجهه . انتابني شعور رهيب تمتزج فيه الرهبة والحيرة والدهشة . هل يمكن أن يكون هو ؟ إنها كارثة إن اعتقلوه . كارثة عظمى لن تحل بنا فقط كمناضلين وانما كذلك بمصير حلمنا الذي ناضلنا وضحينا من اجله . صمت رهيب . الكلام يعلن إفلاسه . الكلمات تغدو بكماء ولا هدير إلا لضوضاء الهواجس . تسيل الأسئلة في ذهني وتتناثر الاستفهامات . فجأة وكما لو أراد أن ينهي حيرتي وبحركة سريعة أزاح ‘'قب ‘' جلبابه عن رأسه . يا الهي . انه بالفعل سيدي حمو عبد العليم . تقاطعت نظراتنا . لم يكن معصوب العينين . تعرفنا على بعضنا . قلت له : - ما شفتيني ما شفتك . بمعنى أنني لم اخبرهم عنك ولا تقل لهم أي شيء عني . كانت هذه الكلمات هي ما جمعنا في هذاالظرف الملتبس . أحسست بهول الموقف . لان الشخص لم يكن عاديا . بل كان نواة متحركة تنعقد حولها شبكة اللاجئين بالجزائر .وكانت له علاقات واسعة بالمناضلين في كل أنحاء المغرب وإلقاء القبض عليه يعني إلقاء القبض على جميع المناضلين واللاجئين . ولو كتبت سيرة هذا الرجل لظهر في حجم أبطال مثل حمو الزياني لان الأدوار التي كان يقوم بها سواء في صفوف المقاومة أو في صفوف الحركة التقدمية كانت حاسمة . تضاعفت همومي . ولم اعد أفكر في وجبات التعذيب التي تنتظرني طيلة مقامي بدار المقري . بقدر ما صرت أفكر في ماذا سأقول عندما سيسألوني عنه . وما ذا سيجيبهم هو عندما سيسألونه عني . فمعرفتنا ببعضنا وثيقة جدا . أقمنا معا في منزل واحد بالجزائر رفقة عبد الله المالكي الذي يشتغل حاليا بالدار المغربية للنشر والسي علي والسي عبد الرحمن واخوه الفقيه ... بقي معي في هذه الغرفة زهاء ساعتين فقط . ثم اقتادوه . بمجرد إغلاق الباب ومواجهتي للفراغ الذي تركه غياب سيد ي حمو استبدت بي الهواجس والوساوس وتفاقم إحساسي بوقوع الكارثة . وانتظرت تداعيات هذا الاعتقال ...لكن وبشكل مفاجئ وغريب لم يسألوني عنه ولم يسألوه عني بل اكثر من ذلك سرحوه للتو . وعاد إلى الجزائر لممارسة نشاطه . فكانت قصة سيدي حمو مع معتقل دار المقري كمن ابتلعه أسد في فمه وأغلقه عليه ومع ذلك استطاع الإفلات والخروج منه . لم يعلم أحد من المعتقلين بهذه الواقعة سواي إلا عندما رويتها لهم بعد التحاقنا بالسجن العسكري بالقنيطرة . كلما تذكرت هذا الحدث ازداد ايقانا بان هناك معجزات تقع في قلب المآزق الأكثر تأزما . مثلما أتذكر الثبات والرزانة التي كان سيدي حمو رحمه الله يتمتع بها في أعتى اللحظات إضافة إلى ملامح الصدق التي ترتسم على محياه وهو يتحدث لتجعل الخصم يعتقد انه صادق في كل ما يقول . تواترت وجبات التعذيب داخل دار المقري . تنوعت وصفاتها . واجتهد الجلادون في التفنين في ترويع المعتقلين والاستمتاع بعذابهم . ورغم كل شيء كنت أحس بأننا نحن الذين نعذبهم بأيماننا بمبادئنا وقناعتنا وصمودنا . لأننا بذلك كنا نقيم لفرق الشاسع الذي لا يمكن اختزاله بين الإنسان الذي يسكننا وبين الوحش الذي كانوه . لم اكن اعتقد انهم يقومون بواجبهم فقط أي بما يلزمهم رؤساؤهم القيام به ، بل كانوا يبالغون في مضاعفة آلامنا لكي يتلذذوا بها . مثل هؤلاء لا يمكن ان يكونوا بشرا . اقتادوني هذه المرة إلى الأعلى . المكان يشبه ورشة أو قاعة لرياضة كمال الأجسام أو رفع الأثقال . عرفت ذلك من خلال الآلات الحديدية والقطع الخشبية التي كنت أتخطاها تارة واعثر فيها تارة أخرى . قيدوني وشدوا يدي إلى رجلي . ثم مروا عمودا حديديا تحت الركبتين فعلقوني بين السقف والأرض . وأصبحت كدجاجة تشوى في فرن تدور حول نفسها فوق النيران . هذه العملية هي ما يسمى في عرف معتقلات التعذيب السرية بالطائرة . واغلب زوار دار المقري ومعتقل درب مولاي الشريف ذاقوا عذابها . توالى الضرب بكل أشكاله وفي كل المناطق من جسدي و ‘'الشيفون ‘' المملوء بكل أنواع القذارة المقرفة التي تعكس وجوههم : البول ، فضلات البشر ، سوائل جافيل والكربزي ، أوساخ وعفونة . كل هذا كان يمرر على الوجه ويزج به في الفم ... كنت في أقصى لحظات الألم ارثي حال هؤلاء الذين لم يكن أمامهم لتبرير وجودهم سوى تعذيب هذا الجسد الأعزل من كل شيء إلا من عشقه للحرية وإيمانه بالإنسان والحق . الدخول إلى مختبر التعذيب كالدخول إلى بحر الظلومات : الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود . كنت وأنا معلق في الطائرة ( الطيارة ) وجسدي يتلقى وابلا من الضربات الممزوجة بكل أنواع المهانة والحقد والعدوانية ، أحس أن قواي قد خارت وان نهايتي وشيكة فصرخت : ستقتلونني ... سأموت ...سأموت رد علي أحدهم بوحشية وبنغمة مفرغة من أي حس إنساني: ومن قال لك إننا نريدك حيا . مت . حياتك لا تهمنا في شيء ... قل لنا فقط ما نريد ثم مت ... من يدخل إلى هنا لا أمل له في الخروج منه سواء حي أو ميت ثم اقترب مني نفس الشخص . عرفت فيما بعد انه عبد الحق العشعاشي أخ محمد العشعاشي المتورط في اختطاف واغتيال الشهيد بن بركة وهما من منطقة وجدة . وجذب أذني بعنف حتى كاد يقتلعها وصرخ : لا توهم نفسك بأنك شخص مهم وعظيم يستطيع الصمود . فمن هم أقوى منك واعظم سلخ جلدهم هنا وفتت ... عندما كنت في البادية كثيرا ما رأيت حيوانات تفترس بعضها لكن لا تصل إلى حد بشاعة ما يقع في دار المقري . إن الذئاب كما رايتها في البراري تفترس الخرفان بطريقة الطف وارحم مما يقع في هذا المعتقل الذي تفوق فيه درجة القسوة والازدراء الوحشي المستوى الحيواني . كنت أشفق عليهم لأنهم بتعذيبنا كانوا يغتالون مستقبل أبنائهم وحقهم في أن ينعموا بوطن يسوده الحق والحرية والكرامة . أسفت عليهم لكونهم لا يربطهم بهذا العالم سوى الارتزاق على حساب كل شيء . انهم مجرد آلات بدون امتلاء روحي ولا إحساس ولا حب . في لحظات الضعف التي تجتاحني أثناء التعذيب أحس بانكسار كبير وأتصور نفسي بمرارة كاسد كان يصول ويجول بأحلام في حجم الكون وصار أسيرا في قفص ضيق كبيت نملة يعبث به الجبناء . وفي حالات أخرى تنغلق أمامي كل نوافذ الأمل فأوقن أنها نهايتي المحتومة . وان دهاليز دار المقري وغياهبها ستكون هي مقبرتي . وان أخر ذكرى سأحمل معي عن هذا العالم هي صياح الجلادين واهتياجهم الرهيب ككلاب مسعورة . المخابرات المغربية تعد تقارير لفائدة جهات أجنبية استمر تعذيبي بأسلوب الطائرة طويلا إلى أن انهارت كل قواي فلم اعد أقوى حتى على النطق . اخذوا في الصراخ : تكلم ... هيا تكلم ... لم أجبهم ليس لأنني لا أريد وإنما لأنني لم اعد اقدر على ذلك . انفعل أحدهم فارتمى على عنقي وخنقني بقبضته بقوة حتى كاد ينتزع حنجرتي . لما أزاح يده كان الصوت قد اختفى نهائيا . إذ أنني مهما حاولت النطق فلم اكن اقدر حتى على التأوه . ازداد اهتياجهم بشكل هستيري وصاروا يصيحون : تكلم ..تكلم .. الآلام تشتد في حنجرتي ووحدها السبابة وسيلتي في الإشارة إليهم بأنني شبه ميت . وها قد مضت أزيد من ثلاثين سنة ومازلت أعاني من انتفاخ غير طبيعي في الحنجرة . لما تأكدوا بأنني على حافة الموت أنزلوني من الطائرة .طرحوني أرضا واخذوا يصبون علي المياه العفنة ذات الروائح النتنة . ثم أخرجوني وهم يجرونني جثة هامدة . أدخلوني إلى مكتب الاستنطاق . سمعت صوتا مخيفا ليس لأولئك الذين كانوا يعذبونني . واستنشقت رائحة السجائر الأمريكية من النوع الممتزجة بروائح العطور الجيدة . القوني أرضا . أصيبت كل أعضائي بارتخاء تام . فتهاويت على الجدار . وصل إلى سمعي حديث بالفرنسية بين الجلادين والشخص صاحب الصوت المخيف في مكتب الاستنطاق . بعدها سحبوني إلي الأسفل . عندما فتحت عيني وجدت معي توفيق الإدريسي وهو محامي مازال يمارس حتى الآن بالدارالبيضاء وإبراهيم الرباطي نائب رئيس المجلس البلدي باكادير حاليا . الحركة بدار المقري لا تفتر أبدا الصراخ والأنين لا يتوقفان فيها . كانت كسوق يستشيط فيه النشاط والرواج ليل نهار على مدار 24 ساعة متصلة . إذ أن كل مجموعة من الجلادين كانت مكلفة بالتحقيق مع واحد من المعتقلين وتعذيبه . أهملوني لمدة يومين ثم عادوا لاستنطاقي . والغريب أن اغلب أسئلتهم كانت تركز على مسائل لا تهم المغرب . إذ انهم كانوا يلحون على معرفة الأجواء داخل القواعد الفلسطينية ، يطلبون معلومات دقيقة عن الفدائيين كأعداد المنخرطين في صفوفهم وجنسياتهم والخطط المتبعة وهل هناك عناصر معارضة للأنظمة السياسية الحاكمة ببلدانهم وأسمائهم .. ولم تحظ مسألة اللاجئين المغاربة بالجزائر سوى باهتمام هامشي من قبلهم . وهذا ما أكد لي أن التحقيق والاستنطاق معنا لم يكن كله لفائدة جهات مغربية وإنما كان لصالح جهات أجنبية . والتقارير الحقيقية التي أعدت للمعتقلين داخل دار المقري أثناء التحقيق ليست لها علاقة بمحاكمة مراكش الكبرى . بل في الغالب أعدت لترفع إلى أجهزة استخبارية أجنبية كالاستخبارات الإسرائيلية واستخبارات بعض الدول العربية التي تنسق معها المخابرات المغربية . قضينا سبعة اشهر بدار المقري .. دام التعذيب الجسدي فيها أربعة اشهر كاملة . وفي الأشهر الثلاثة الأخرى ركزوا على التعذيب النفسي إذ أن الاستنطاق حينها كان قد انتهى تقريبا . فبعد أن أزاحوا العصابة عن أعيننا وزعونا على الزنازين في شكل مجموعات . وكانت خطتهم في التعذيب النفسي تقوم على زرع الاضطراب والشك والخوف وعدم الأساس بالراحة والأمان وانتظار الأسوأ . إذ كانوا يعمدون إلي فتح باب الزنزانة بعنف وينادون على أحدنا باسمه وعندما يقف يهم بالخروج ينظرون إليه مليا وبعدها يقولون له : لست أنت من نريد . عد إلى مكانك . في الغد يعودون ثم يصطحبونه معهم . وفي منتصف الكولوار ( الممر ) يطلبون منه الجلوس أرضا ويطلبون منه الانتظار . وبعد مضي نصف ساعة يعودون به الغرفة . وذلك حتى يبقى نفسيا في حالة ترقب وارتباك منتظرا عودة التعذيب في ابشع صورة مرة أخرى . لم تتغير وجبات الطعام المقدمة بدار المقري طيلة السبعة اشهر التي أقمنا بها . فالفطور كان الشاي والخبز المصنوع من دقيق رديء ، وفي وجبة الغذاء يقدمون لنا كل يوم بالتناوب إما العدس أو الفاصوليا ( اللوبية ) ، أما العشاء فيكون بالشعرية . مضت ستة اشهر ونصف على مقامنا بدار المقري. في إحدى الليالي رحلوا مجموعة من المعتقلين إلى السجن العسكري بالقنيطرة منهم الحبيب الفرقاني ومجموعة أمزميز ومعتقلين آخرين . بقيت رفقة مجموعة أخرى أسبوعين بعدهم بدار المقري ثم نقلونا ليلا في سيارات لا نوافذ لها استغرقت عملية الترحيل الليل كله . عند ركوبنا السيارات أحاطت بنا عناصر من الدرك وقوات التدخل السريع وعناصر المخابرات وبدأوا ينهالون علينا بالضرب والرفس والركل والشتم فلا نسمع سوى عبارات من قبيل : زد أ لحمار.. زد ألكلب .. اولد القحبة.. وكان هذا الأسلوب متعمد للإرهاب النفسي يهدف إلى جعلنا نترقب ما هو أسوا وافظع من دار المقري . وصلنا السجن العسكري . فتح الباب . دخلت السيارات التي تقلنا . أنزلونا منها معصوبي العينين ومقيدي اليدين إلى الخلف . ترددت على مسامعنا عبارات : وي مون كومندان .. حينها عرفت أننا محاطون بالجيش . إذ كان مدير السجن وهو عسكري من رتبة كومندان يدعى بوعزة يشرف بنفسه على استلامنا . اقتادونا في شكل طابور إلى إدارة السجن . نزعوا عن أعيننا العصابات ، وقيدوا أيدينا إلى الأمام . ثم أوقفونا في شكل طابور فرادى فرادى . طلبوا من كل واحد منا أن يدلي باسمه . بعد ذلك وزعونا على زنازين منفردة . لم يكن وضعها احسن من الأقبية المظلمة لدار المقري . إذا كانت عبارة جحور مهملة مقيتة مقرفة تسكنها العناكب وتنشر فيها خمائلها . طلاء جدرانها حقير ومتقادم يتساقط بفعل الرطوبة . لم نجد فيها سوى غطاء رث ( كاشة ) موضوعة على دكانة إسمنتية معدة للنوم . وبمحاذاتها يوجد ثقب في الأرض يؤدي وظيفة مرحاض والى جانبه صنبور ماء .كان كل شيء معد لإهانتنا والحط من كرامتنا وازدراء قيمتنا الإنسانية وتحسيسنا بأننا في مرتبة أدنى من الحيوان . في تلك الليلة لم يقدموا لنا وجبة العشاء . وفي صباح الغد امتلأ السجن العسكري برجال التدخل السريع في زي مدني الذين أوكلت إليهم مهمة الحراسة من الداخل تحت إمرة مدير السجن وبقيت الحراسة الخارجية موكولة لعناصر الجيش . كما لو أن أجهزة الأمن لا تثق إطلاقا في الجيش وعملت على تامين الحراسة بنفسها . في الثامنة صباحا جاءنا مدير السجن الكومندار بوعزة وهو من العسكريين المحترفين الذين تكونوا في الجيش الفرنسي . اصله من منطقة أولاد سعيد قرب مدينة سطات . وشارك في الحرب العالمية الثانية وحارب إلى جانب الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية . فتح الزنازين وامرنا بألا نخرج . كان يحمل صولجانه تحت إبطه ويتبعه قائد فرقة التدخل السريع وعسكري من درجة ادجودان . وكلما وصل زنزانة ينظر مليا في نزيلها ثم يمر . قام بجولته التفقدية ثم انصرف . فأغلقوا الزنازين مرة أخرى . كانت وجبة الفطور بالسجن العسكري تتكون من حساء معد بالماء والدقيق والملح . والغذاء كان إما بالعدس أو اللوبية . والعشاء بالشعرية أو المقرونة . أما اللحم فكان يقدم لنا مرة واحدة فقط في الأسبوع وغالبا في يوم الجمعة وعندما يقدم مرتين في اليوم الواحد أي في وجبة الغذاء والعشاء نعرف انه يوم عيد وطني أو ديني . مر أزيد من شهر ونحن محتجزين داخل الزنازين لا يسمح لنا فيها بالخروج . وإذا أضفنا إليها السبعة اشهر التي قضيناها في غياهب دار المقري تكون المدة التي حرمنا فيها من رؤية الشمس قد بلغت أزيد من ثمانية اشهر إلى الحد الذي لم نعد نستطيع فيه الرؤية داخل الزنازين بفعل انعكاس أشعة الشمس التي تتسلل إلى الكولوار على الجير الأبيض ( الجبص ) الذي طليت به الزنازين . كانوا يحاولون الانتقام منا بكسبنا عادات الخفافيش والوطاويط التي لا تتأخر إلا مع الظلام . لكننا لم نستسلم وخضنا معارك للدفاع عن إنسانيتنا محمد المبارك البومسهولي يتبع