استياء أوربي وردود فعل قوية على حكم محكمة العدل الأوروبية: المغرب سيظل شريكًا استراتيجيًا للاتحاد الأوروبي        ردا على محكمة العدل.. هنغاريا تتشبث بالشراكة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    الحسيمة.. تخليد الذكرى 69 لانطلاق العمليات الأولى لجيش التحرير بالشمال    قرار محكمة العدل الأوروبية.. نواب أوروبيون يعبرون عن امتعاضهم من قرار "يمس بالمصالح الاقتصادية الأوروبية"    بلجيكا تجدد تمسكها بعلاقات الصداقة والشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    محكمة التحكيم الرياضي تخفف عقوبة توقيف بوغبا        المحكمة تأمر بإفراغ بركة زوج المنصوري بالقوة من منازل قرب ضريح مولاي عبد السلام    كيوسك السبت | مثقفون ورجال قانون وأجانب قاطعوا الإحصاء العام للسكان والسكنى    "ميتا" تعلن عن إنشاء نموذج ذكاء اصطناعي جديد    طقس السبت ممطر في بعض المناطق    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    جماعة طنجة تصادق على ميزانية 2025 بقيمة تفوق 1،16 مليار درهم        إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المناضل سعد الله صالح، يتذكر: النهر العنيد
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 08 - 2014

مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة .
هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد.
و بعد حوالي شهر في معتقل درب مولاي الشريف، جاؤونا في نهايته ببدلة كاكية اللون، عبارة عن قميص و سروال، ففرح أحد الإخوان و هو الأستاذ توفيق الادريسي معتبرا ذلك دليلا على قرب الإفراج عنا، فقلت له لا تفرح كثيرا فهذا دليل على مكوثنا طويلا في ضيافتهم.
طيلة هذا الشهر، و بين واحدة و أخرى من حصص التعذيب، كنت أفكر في مصير أبنائي الصغار خالد محمد (13 سنة) و زين العابدين (10 سنة) و عبد الرؤوف (7 سنوات) و أبي بكر (3 سنوات) و في زوجتي. أعلم حقا أن الوالد سيتولى النفقة عليهم و أعلم أيضا أن إخواني لن يألوا جهدا لتربيتهم و تخفيف ما نزل بهم لكن التفكير في مصيرهم كان يتخذ شكل هاجس مؤلم لا يقل إيلاما عن حصص التعذيب الجسدي.
و في الوقت الذي كنا فيه نحن عرضة لهذه المآسي، كانت عائلاتنا عرضة لنوع آخر من التنكيل، ففي بعض المرات كان يأتي أحدهم ليخبر العائلة بأن قريبها المعتقل قد قُتل مع أصحابه و أنه دُفن في عين الشقف و ذلك لزرع المزيد من الرعب و زيادة القلق في أفراد العائلة على ذويهم المعتقلين.
كما عانى أبناؤنا من الأمر نفسه ، فإبني خالد محمد مثلا، و كان في الثالثة عشر من العمر عند اعتقالي، أصبح لا ينام ليلا و كان - كما حكت لي والدته فيما بعد- يذهب إلى المدرسة في السابعة صباحا و ما أن يعود على العاشرة و نصف و يدخل البيت حتى يسأل عني : "هل جاء؟" و حين تجيبه والدته بالنفي يشرع في الصراخ و الصياح المُمضين، إلى درجة أن الجيران المحيطين بالبيت كانوا يأتون جريا للاستفسار عن سبب هذا الصياح معتقدين أن خبر وفاتي قد وصل. و كان سبب صراخه ذاك أنه كان يسمع الزائرين للبيت ، و على سبيل المواساة و نظرا لاختفائي و جهلهم بمصيري و بالمكان الذي أوجد به، يقولون أنه لن تمر سوى أيام و يأتون بوالده. و لنا أن نتساءل عن نفسية فتى في الثالثة عشر في مثل حاله، و عن قدرته على استيعاب الدروس و التحصيل في المدرسة.
و في مرة من المرات ، و أنا في جحيم المعتقل، وجدت أسرتي ورقة رُميت تحت باب الشقة مكتوبا عليها أنه سيتم الإفراج عنا مساء، في تلك الليلة أمضى أفراد عائلتي كلهم، بمن فيهم والدي، الليل كله ساهرين يتوقعون الطرق على الباب .
و لم يكن هذا حال أفراد أسرتي فقط بل كل أفراد العائلة عانوا من هذا التعذيب النفسي، و كذلك حال جميع أسر و عائلات المعتقلين، بل منهم من عانت أسرته الكثير من الويلات، لدرجة أن بعض إخواننا اكتشفوا، بعد الإفراج عنهم، أنهم لم يفقدوا سنوات من عمرهم و من شبابهم، بل فقدوا أيضا فلذات أكبادهم الذين انحرف بعضهم، فأصبح مدمنا على المخدرات أو فقدوا تماسكهم الأسري فاضطروا إلى الانفصال عن زوجاتهم و أبنائهم.
و وسط هذا الظلام الدامس، كانت هناك بؤر نور ساطعة كالنجوم تساعد التائهين في الصحراء و تحافظ على توازنهم و حياتهم. و تتمثل هذه البؤر المنيرة في أشخاص بلغوا من النبل و الشجاعة درجة لا تُضاهى، و هم هؤلاء الأخوات و الإخوان الذين واظبوا على مد يد المعونة و الدعم لأسر المعتقلين ماديا و معنويا دون كَلَل أو خشية من سطوة الأجهزة القمعية الشرسة التي كانت تحصي الأنفاس و تعد الخطوات.
و في مقدمة هذه النفوس النبيلة و المنارات المضيئة التي واظبت على المساعدة المادية لأسرتي طيلة فترة اعتقالي السيدة النبيلة لطيفة زوجة الشهيد عمر بنجلون و الأستاذ العربي الجابري و الأخ حب الله من البيضاء و الأخ المرحوم المكي الكبابطي و هو أحد المناضلين الثابتين على المبدأ في مدينة برشيد. و قد كان لهذه المساعدات المادية المنتظمة دور كبير في حماية أبنائنا من التشرد خاصة و أن أغلبنا لم يكن لأسرته مدخول آخر غير أجرة رب الأسرة الذي أصبح رهن الاعتقال.
و بعد مرور ذلك الشهر في المخفر السري الرهيب بدرب مولاي الشريف ، و استنفاذ الجلادين لأساليبهم في التحقيق المرفوق دوما بالتنكيل و التعذيب قصد استخراج اعترافات تتماشى مع ما هيأوه من تُهم، قرروا فرز الذين اعترفوا أو الذين كتبوا في محاضرهم أنهم اعترفوا بانتمائهم للتنظيم السري، فقدموهم للمحكمة، أما نحن الذين لم نعترف أو لم يجدوا حجة ملموسة يواجهوننا بها، فنقلونا إلى "الكوربيس".
في صبيحة ذلك اليوم الذي جاؤونا فيه بالبدلات الكاكية، نقلونا على متن سيارات معصوبي العينين مقيدي المعصمين. أثناء الطريق كنت - و لا شك باقي الإخوان - أتساءل عن الوجهة التي يقودوننا إليها، هل سيذهبون بنا إلى الرباط أو إلى مكان ما لإعدامنا؟ و قد طالت مدة نقلنا كثيرا حيث فاقت الساعة كما أن المسافة التي قطعناها بهذا الشكل تعدت الخمسين كيلومترا تقريبا. كل هذا كي لا يكون لدينا تصور عن المكان الذي سننزل فيه.
و حين وصولنا أدخلونا إلى مكان ما ، شعرتُ بشساعته من خلال تردد الصدى داخله ، و أوقفونا لصق الجدار، فتخيلت أن هذه آخر لحظات عمري و أنهم سيعدموننا بعد لحظات، خاصة و أن عملية إنزالنا من السيارات و إدخالنا إلى هذا الفضاء رافقتها جَلَبة و صلصلة سلاح نابعة من أفراد كنت أستشعر وجودهم دون رؤيتهم.
بيد أن زخات الرصاص لم تنطلق، و انطلق بَدَلَها سيلٌ من التعليمات: " في هذا المكان ممنوعٌ عليكم الوقوف، ممنوعٌ عليكم الحركة، ممنوعٌ الحديث ،ممنوعٌ نزع العصابة، ممنوعٌ نزع القيد... و كل من خرق هذه القواعد سيتعرض لعقاب شديد".أما الحق الوحيد الذي منحه لنا هؤلاء المجهولون الذين يصدرون التعليمات هو أنه حين نريد الذهاب للمرحاض علينا أن نُنادي "ألحاج" فيسمح لنا بالنهوض متى شاء أو لا يسمح.
بعد إصدار هذه التعليمات جيء إلينا ب"بطانية" واحدة و أجلسونا في حيز لا يتجاوز خمسا و عشرين سنتمترا للفرد، هو حصتنا في أرضية هذه البناية التي تم زجنا فيها.
و فيما بعد اكتشفت أن القاعة التي كنت أقبع فيها، صحبة حوالي مائتين من إخوان كنت أعرف بعضهم و لا أعرف البعض الآخر، تربو مساحتها على مائة متر مربع، فقد كان طولها حوالي 12 مترا و عرضها 8 أمتار تقريبا مع علو يتراوح بين 11 و 12 مترا. و كانت هذه القاعة أو المخزن مُضاءة ليل نهار، إذ كانت بها مصابيح قوية مع إنارة باهرة كنا نشعر بتوهُجها رغم العصابة على أعيننا.
و في وسط هذه القاعة الفسيحة العالية - و هذا ما سنكتشفه مع مرور الأيام حين كنا نغتنم فرصة من الفرص النادرة لزحزحة العصابة عن أعيننا- يبرز مكعب إسمنتي بارتفاع متر تقريبا تتدلى من السقف فوقه مباشرة سلاسل حديدية سميكة الحلقات، توجستُ منها خوفا حين رأيتها أول مرة ، مُتخيلا أنهم سيعلقوننا بها أثناء حصص التعذيب. بيد أني سأعلم فيما بعد مهمتها الأصلية.
و كانت قاعتنا هاته واحدة من أربع قاعات متشابهة، ترتبط ببعضها البعض بممرات مُغطاة يمر بها الذين يتم تنقيلهم من قاعة لأخرى. و كانت كل قاعة من هذه القاعات الأربع تضم مائتين أو أكثر من المعتقلين من مختلف أنحاء المغرب.
أمضينا فترة من الزمن و نحن لا ندري في أي رقعة من بلادنا نحن مسجونون، فلم يكن يصلنا صوت من الخارج (صوت سيارات أو ضجيج قطار مثلا أو صياح ديكة...) نستدل من خلاله على موقع المكان الذي نحن به و لو بالتقريب، و لذلك كانت خيالاتنا و تصوراتنا تشط بنا كثيرا و تذهب بنا مذاهب مختلفة شتى ،و كان تَصَوُرُنا لمكان اعتقالنا مشوشا، فمرة نعتقد أنه بضواحي الرباط و مرة نتصور أنه بالقرب من الجديدة.
كان هذا قبل أن يأتينا محمد بابا رحمه الله بالخبر اليقين، فقد كان هذا المناضل بَناءً و يعمل مع الجيش مناولا، و قبيل اعتقاله هو نفسه اشتغل في بناء مراحيض لهذه المخازن التي لم تكن تتوفر عليها لعدم الحاجة إليها أصلا. و هذا دليل على أن عملية التحضير لاستيعاب هذا الكم الهائل من المعتقلين قد بدأت قبل بدء حملة الاعتقالات نفسها، فبعد يومين تقريبا من وصولنا جاءنا هذا المناضل الفذ المستقيم ، و هو من سكان سباتة، و تعرض لتعذيب رهيب في درب مولاي الشريف، ليخبرنا بأننا في أحد المخازن بمطار أنفا لأنه تعرف على المراحيض التي عمل في تشييدها قبل وقت قصير.
حينها فقط عرفنا مكان اعتقالنا و هو "اللايا" أو "الكوربيس" كما سنسميه فيما بعد. و إذا كانت "اللايا" و هو الإسم الرسمي لهذه المخازن و المكون من الحروف اللاتنية الأولى لكلمات "الأوراش الصناعية للطيران" ، معروف معناها، فإن "الكوربيس" قد أطلق على هذا المكان الشنيع كناية عن الخندق أو الحفرة بالأمازيغية.
و كانت هذه الورشات قد أسست في ثلاثينات القرن الماضي بمطار أنفا لإصلاح الطائرات الحربية، و قامت بدورها هذا بشكل جيد خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945). إلا أن النظام القمعي و أجهزته البوليسية أوجدوا لها دورا آخر في بداية السبعينات حيث تحولت إلى مراكز اعتقال لمئات الأشخاص من مختلف مناطق المغرب. و يتعلق الأمر بجميع هؤلاء ?نساء و رجالا- الذين لم يكن النظام مستعدا لمحاكمتهم لسبب أو لآخر، كأن يكونوا مناضلين تقدميين كحالنا لا يريد محاكمتهم لغياب أي دليل أو برهان على ما يتهمهم به، أو يكونوا أقرباء و أهالي المتورطين في أحداث مولاي بوعزة الذين لا ذنب لهم (نساء و أطفالا) سوى قرابتهم من بعض المتورطين في تلك الأحداث أو المشاركين فيها.
و كانت هذه المراحيض الأربعة - التي كانت مفتاح تعرفنا على مكان اعتقالنا- تقع بجوار القاعة في نهاية سرداب، و هي عبارة عن مراحيض ،شبيهة بمراحيض بعض المساجد الشعبية طولها متران و عرضها متر واحد تقريبا، مزودة بباب خشبي قصير مفتوح أسفله و لا يصل علوه إلى علو الجدار، أما السقف فلا وجود له تماما. و قد ساعد قصر هذه الأبواب في الحفاظ على حميمية الشخص أثناء قضائه الحاجة الطبيعية حين يكون مقيدا بقيد واحد مع قرين له، و كثيرا ما حصلت هذه الأمور كما سنرى فيما بعد.
أما حُراسنا فقد كانوا، كما سنعلم فيما بعد، أربعة أصناف، فهناك تشكيلة من الجيش و أخرى من رجال الشرطة و ثالثة من الدرك و الرابعة من السيمي، و هؤلاء جميعا يحرسون المحيط الخارجي للمعتقل لا يحق لهم دخوله مطلقا، و كان بعضهم يراقب بعضا، أما داخل المخازن حيث كنا نقبع على الحال التي وصفت سابقا، فقد كان من يقوم بالحراسة و المراقبة و العقاب "حجاج" من عين الشعير مسقط رأس أوفقير.
و من الصدف الغريبة أن شقيق أوفقير كان معتقلا معنا هناك، فبعد المحاولة الانقلابية الثانية و مقتل أوفقير، و فقدان عائلته لسطوتها و بعد "تتريكها" على الطريقة المخزنية، يبدو أن شقيق أوفقير و كان قائدا في بعض المناطق قد ناله عقاب المخزن، فجيء به إلى جانبنا. إلا أن الفرق هو أنه كان يلقى معاملة استثنائية في هذا المعتقل الجهنمي من طرف المتعاطفين معه من أبناء قبيلته، مما أدى في يوم من الأيام إلى اكتشاف هذا التعاطف فاعتقل أحد الحجاج من عين الشعير بدوره و عصبت عيناه و قيدت يداه مثلنا.
و قد كان هؤلاء الحراس، يدعون بعضهم بعضا بالحجاج، فينادي أحدهم صاحبه قائلا : " آلحاج" فقط ،و كنا نؤمر بالمناداة عليهم بنفس اللقب أي "الحاج" على الجميع. فكان أحدنا إذا ما رغب في الذهاب للمرحاض ينادي "الحاج" ليجيبه الحارس القريب منه ، فيُبلغه بما يريد. بيد أننا و قد ألفنا أصواتهم و خبرنا طباع كل واحد منهم بتنا نطلق نعتا على كل حاج منهم لتمييزه عن الباقين، كأن نقول "الحاج تزربع" و "الحاج مسخوط الوالدين" و "الحاج مرضي الوالدين". و قد أطلقنا على الأول هذا اللقب "تزربع" لأنه كان يُمعن في التنكيل بنا لدرجة أنه إذا طلب منه أحدنا السماح له للذهاب للمرحاض يرفض و لما يُكرر عليه طلبه قائلا أن حاجته الطبيعية قد أصبحت ملحة و أنه يكاد ينفجر ، يُجيبه هذا الحاج "اتزربع" و معناها باللهجة المحلية لمنطقة عين الشعير: "انفجر". أما "مسخوط الوالدين" فقد استحق لقبه هذا لأنه كان - لسبب في نفسيته- ينتقي من بين المعتقلين أكبرهم سنا فيعمد إلى التنكيل به بضربه على رأسه باستمرار، لا يفعل هذا إلا مع المسنين الذين هم في سن والده أو جده مثل أحد معتقلي خنيفرة الذي كان في السادسة بعد المائة من العمر، كان يقوم بذلك مُنتشيا و هو يستهزئ ضاحكا، فأطلقنا عليه ذاك اللقب. أما "مرضي الوالدين" فقد كان مختلفا عنهم بعض الشيء، إذ كان يقوم بواجبه في الحراسة و لم يبدُر منه أي تصرف عنيف ضد أحد المعتقلين، بل كان يغمض العين عن بعض التصرفات "الممنوعة". وكان أول من حدثنا عنه الحاج صالح من خريبكة، الذي تعاطف معه إلى درجة أن جاءه في مرة من المرات بفاكهة، فأعطاني منها حبة موز، سلمتها بدوري للأخ عبد الرحمان العزوزي، الذي كان مريضا بل و مشرفا على الموت إلى درجة أني كنت أقبض على قلبي كل ما رأيت حالته الصحية المتردية خوفا من أن يغادرنا في ذلك المعتقل الرهيب.
و حدث مرة أن كان بُشرى محمد رحمه الله، يتجول ببطانيته على ظهره داخل القاعة، فاقترب منه "مرضي الوالدين" و سأله عما إذا كان واحد منا له علاقة بنيابة التعليم، فما كان من المرحوم بشرى إلا أن دله علي، و طلب مني لقاءه في المرحاض بعيدا عن باقي المعتقلين و خصوصا عن زملائه من "الحجاج".
لذلك فقد تظاهرت بالذهاب للمرحاض، فتبعني الحاج "مرضي الوالدين" و أفضى إلي بمشكله المتعلق بإبن له كان في سلك التعليم، فأوصيته بالاتصال بحموش إن كان الأمر يتعلق بالرباط أو بالعربي الجابري إن كان يتعلق بالدار البيضاء.
و في المقابل عبر عن استعداده لتقديم خدمة لي، فسألته إن كان يعرف مدينة الدار البيضاء و دللته على عنوان محل والدي للحلاقة بالحي المحمدي، و طلبت منه أن يخبره عن مكان اعتقالي و أني لا زلت على قيد الحياة. و كي يثق به والدي أخبرته بأسماء أبنائي : خالد محمد و زين العابدين و عبد الرؤوف و أبو بكر، و هذا ما حصل بالفعل إذ اتصل بوالدي و أبلغه أني لا أزال حيا أرزق، و هو ما كان له أثر طيب نسبيا وسط العائلة.
أما "مسخوط الوالدين" فقد وقعت لي معه واقعة لن أنساها أبدا. فقد كان الحجاج عادة يجلسون على كراس قريبة من باب القاعة أو يتجولون مُتسللين وسطنا بدون ضجيج، مستعينين بأحذيتهم الرياضية، مثل وحوش كاسرة تتربص بطرائدها. و حدث أن رفعت العصابة قليلا عن عيني كي أختلس النظر فالتقى ناظري ببصره مباشرة فأعدت العصابة بسرعة. مرت بضع دقائق و فجأة، مثل صخرة مقذوفة من منجنيق هَوَت يدُ "مسخوط الوالدين" على وجهي بلطمة أشعلت العالم أمامي نيرانا و بروقا باهرة و رعودا صاعقة ، تَلاها طنينٌ ظل صداهُ يتردد في أذني لأكثر من شهر.
أما الحاج "اتزربع" و كان متعاطفا مع شقيق أوفقير المعتقل أيضا ،فحدث أن زوده بجلابة تدخل عليه بعض الدفء، فتم اكتشاف هذا الأمر من طرف أحد زملائه الحجاج ، و لما سُئل أخ أوفقير عن مصدر الجلابة اعترف لهم بسهولة و باح بإسم من أراد مساعدته ، فعوقب "اتزربع" هذا بأن اعتقلوه بدوره معنا و قيدت يداه و عصبت عيناه مثلنا تماما ، و لا أدري ما حل به من بعد . مكثنا على هذه الحال إما رقودا أو قعودا إذ لم يكن يحق لنا الوقوف، مفترشين بطانيات رثة، يعود تاريخ بعضها إلى سنة 1936 و بعضها الآخر ملطخ بآثار دم مُتيبس. و لم يكن من المسموح لنا بالحديث مع رفاقنا حتى و لو همسا، كما لا يحق لنا لمس العصابة أو القيد أو تحريكهما عن موضعيهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.