جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المناضل سعد الله صالح، يتذكر: النهر العنيد
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 07 - 2014

مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة .
هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد.
شكلت السنوات الأولى من عقد السبعينات قمة الاحتقان الاجتماعي و السياسي في البلاد، بحيث ساد التوتر و ألقى بكلكله، نتيجة القمع الممارس و التسلط الاستبدادي بشكل فظيع، إلى درجة أن المواطن لم يعد له القدرة على التحدث مع غيره عن الوضع المعيش ناهيك عن التحرك من أجل تغييره أو تحسينه أو التعبير عن امتعاضه منه و البحث عن متنفس.
لهذا فقد كان من المنتظر أن يحدث شيء ما يكسر هذا التوتر و يفجر الاحتقان. لكن من أي جهة ستكون المبادرة و من سيقوم بشيء ما؟
حينها جاءت المحاولة الانقلابية الأولى للصخيرات، و قد كان الأمر مفاجئا لنا، ليس لأنه وقع بل لأن من قام به هو الجيش الذي كان، على كل حال منذ القضاء على جيش التحرير في نهاية الخمسينات، هو الحليف الرئيسي للنظام و هو ركنه الركين، و لأنه على عكس أغلب أفراد الشعب كان يتمتع بامتيازات استثنائية و هائلة، خاصة كبار الضباط و ضباط الصف منه ، لهذا فقد كان من المستبعد جدا أن ينقلب الجيش على نظام يستفيد منه بشكل كبير.
من الممكن أن بعض ضباط الجيش كان لهم وعي سياسي متقدم و شعور بالتعاطف مع أفراد الشعب الذي ينتمون إليه و قد يكونوا قاموا بهذا العمل من أجل التغيير و من أجل خير الشعب، لكننا نحن كمناضلين مضطهدين آنذاك، تلقينا الحدث بنوع من التحفظ، لأننا لم نكن نعرف من يقف وراء هذه الحركة العسكرية و ما هي أهدافها؟ خصوصا و أن لا علاقة لنا بهم و لم تكن لنا ارتباطات بهم و لا خُطط مشتركة ثم أننا لا نعرف أفكارهم و لا مشاريعهم و لا على ماذا يعتزمون.
على كل حال كان تحرك الجيش مفاجئا لأنه لا يمكن للنظام أن ينقلب على نفسه و لهذا كان موقفنا هو التريث و عدم التسرع خوفا من أن تدخل البلاد نفقا مظلما لا نعرف مساره و لا منتهاه.
في هذه الظروف، و عقب المحاولة الانقلابية الأولى، جاءني أحد إخواننا المناضلين راكضا يخبرني جذلا بما وقع، فقلت له أولا لا تكن متفائلا كثيرا فنحن لا نعرف من هم و لا نعرف هل ستنجح المحاولة أم لا ؟ ثم حتى إذا نجحت فمن هم و ماذا يريدون و من معهم. حينها هبط منسوب الحماس لدى هذا الأخ، و هذا كان من حسن حظه لأن الانقلابيين فشلوا بعد أقل من أربع و عشرين ساعة في تحقيق مُبتغاهم، فتم اعتقالهم جميعا.
و بعد المحاولة الأولى الفاشلة و التي أعدم عقبها أحد عشر من كبار ضباط الجيش المتورطين كما لقي فيها عدد آخر مصرعهم ،وقعت المحاولة الانقلابية الثانية التي تعرضت خلالها الطائرة الملكية لقصف من طرف الطائرات العسكرية التابعة لسلاح الجو المغربي، و هي المحاولة التي فشلت بدورها رغم إصابة الطائرة الملكية بأضرار بليغة كان من شأنها - حسب الخبراء - أن تفجر الطائرة في الجو، إلا أن الملك المستهدف الأول نجا من الموت المحقق بأعجوبة.
و تبين فيما بعد بأن المحاولتين الانقلابيتين كان وراءهما و دبرهما معا اليدُ اليمنى للنظام الجنرال الدموي محمد أوفقير. ففي الوقت الذي كان يدبر هذا الجنرال المحاولة تلو المحاولة ضد الملك الحسن الثاني كان يقمع الحركة التقدمية بشكل شرس، و ذلك كي يستأصلها من جذورها ليخلو له الجو تماما بعد الإطاحة بالنظام الملكي. فقد كان يعرف بأنه إذا ما نجح في الانقلاب على النظام فإن القوة التي ستقف له بالمرصاد هي القوة الاتحادية و لهذا نظم عددا من الحملات و المحاكمات كي يصفي هذا المنافس القوي بشعبيته و بتجذره داخل نسيج المجتمع. و لهذه الغاية دأب على تقديم صورة للملك تظهر بأن الأعداء الحقيقيين للنظام هم الاتحاديون و أنهم يدبرون للقضاء عليه، كل هذا كي يجد المبرر للقيام بحملاته القمعية. و فعلا قام بحملات دموية كثيرة ضد المناضلين الاتحاديين، و في هذا الإطار جرت محاكمات و اعتقالات كثيرة من منتصف الستينات حتى بداية السبعينات..........
و بعد المحاولتين الانقلابيتين، جاءت أحداث مولاي بوعزة في ثالث مارس 1973 و هي شكل مختلف ،ذلك أن مجموعة من إخواننا الذين كانوا بالجزائر و غيرها، و منهم مقاومون و أعضاء جيش التحرير و منهم إخوان في الحركة التقدمية قد اعتقدوا بأن القضاء على النظام سيتم من خلال البؤر الثورية و العمل المسلح.
و بحكم أنهم كانوا معارضين و لاجئين، و بطبيعة الحال فإن كل واحد هذا وضعه يفكر بالضرورة في القيام بشيء ما لبلده كي يغير الأوضاع التي عانى منها و التي يعاني منها مواطنوه و بنو جلدته. فاللجوء و المنفى صعب جدا تحملهما و من هنا جاءت تلك المحاولة التي دخل فيها إخوان لنا من الخارج محاولين زعزعة و قلب النظام.
لم نكن نعلم خططهم و لا ما قاموا به لكن حسب ما نعرفه الآن و يعرفه معظم المواطنين فالأمر يتعلق بمحاولة اندلعت يوم ثالث مارس 1973، بدءا بالهجوم على قيادة مولاي بوعزة بالأطلس المتوسط قصد الاستيلاء على سلاح ثكنة تلك البلدة الجبلية ، لكن خطأ وقع تلك الليلة أدى إلى مقتل حارس الثكنة الوحيد الذي يعرف مفتاح مخزن السلاح و الذخيرة، و بالتالي فشلت الخطة.
و إثر ذلك وقعت مواجهات عنيفة بين الثوار و بين قوات الجيش الذي تدخل بعنف و قسوة للقضاء عليهم، و سقط العديد من القتلى من الجانبين، و لاذ بعض الثوار بالجبال، فأجبر رجالُ السلطة و الجيشُ السكانَ على البحث عن الفارين وعرضوهم في ذلك للتنكيل و التعذيب.
و قد ظل البحث جاريا و المواجهات كذلك طيلة شهور مارس و أبريل و ماي، الذي قتل خلاله الشهيد ابراهيم التزنيتي (عبد الله النمري) في الثامن منه. و ابراهيم التزنيتي هذا كان رفيقا لي في جيش التحرير و مقاتلا صلبا و كان مكتبُه ملاصقا لمكتبي في القيادة العليا لجيش التحرير بكَولميم. بعد حل جيش التحرير و الحكم عليه بالإعدام غيابيا في 14 مارس 1964 ، هاجر إلى الخارج (سوريا و الجزائر) قبل أن يعود سرا إلى المغرب في سنة 1971 ليلقى ربه شهيدا فوق تراب وطنه في ذلك اليوم الربيعي من عام 1973.
و بالموازاة مع أحداث مولاي بوعزة المعروفة إعلاميا بأحداث 3 مارس، و التي كانت تستهدف تثوير البادية، كان هناك تنظيم سري يقوده عمر دهكون، و قد تم اكتشافه أيضا و جرى اعتقال دهكون و خلاياه المدينية. و قد عمل دهكون الشاب الثائر في نهاية الستينات على إعادة الروح إلى خلايا شيخ العرب و استقطاب عناصر أخرى زودها بالسلاح، بهدف القيام بعمليات ضد مؤسسات الدولة و ضد رموز المخزن، إلا أن وشاية أدت إلى اكتشاف و تفكيك التنظيم السري، فتم اعتقال عمر دهكون و من معه، و حكم عليه بالإعدام، و تم تنفيذه فيه و في عدد آخر صباح فاتح نوفمبر 1973 الموافق لعيد الأضحى من ذلك العام الحزين.
هذا العنف الثوري من جانب إخوان لنا، كان رد فعل على العنف المُمَنهج للنظام المخزني و الحكم الفردي ضد التوجه التقدمي و الشعبي الذي كان يدعو له الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ففي اعتراف عمر دهكون يعزو تحوله من الإيمان بالنضال السياسي السلمي إلى العمل العسكري و العنف المسلح إلى اغتيال الشهيد المهدي بنبركة سنة 1965 و اكتشافه أن النظام لا ينوي المهادنة أو الجنوح للتسوية ، فترسخت لديه القناعة ، كما لدى عدد غيره، بأن العنف لا يفله إلا العنف.
هذه المحاولات سواء منها تلك التي وقعت في مولاي بوعزة أو من طرف التنظيم السري في البيضاء و الرباط أساسا، اعتبرها النظام امتدادا للمحاولتين الانقلابيتين اللتين قام بهما الجيش في سنتي 1970 و 1972 .
توترت الوضعية في الداخل نتيجة لهذه التطورات و بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف المناضلين الاتحاديين بدعوى أننا نعرف ثوار مولاي بوعزة أو رفاق دهكون و لنا علاقة بهم، فقد كانت هذه هي التهمة، بل و في تلك الفترة لم يكن الأمر يحتاج إلى تهمة حقيقية أو مفترضة بل كل من كان له حساب مع شخص ما يعمل على اعتقاله ثم يبحث له عن التهمة التي تناسبه.
فالذين ثبت ضلوعهم في أمر ما تمت محاكمتهم و صدرت في حقهم أحكام قاسية جدا بما فيها الإعدام و نفذ فيهم و الذين لم يعثروا على أدلة تدينهم تُركوا لمصيرهم محبوسين فمنهم من أصيب بالجنون و منهم من مات جوعا و مرضا.
و كي أعود إلى مساري الشخصي، فقد كنت في تلك السنوات أعمل في إعادة تنظيم الحزب و إعادة بعثه من جديد، و ذلك بالموازاة و من خلال التنظيم النقابي الذي شرعنا في بنائه منذ حصول القطيعة مع مركزية "الاتحاد المغربي للشغل"
و هكذا فبعد إنشاء النقابة الوطنية للبريد و النقابة الوطنية للتعليم و النقابة الوطنية للفوسفاط شرعنا في التحضير لإنشاء النقابة الوطنية للتجار الصغار و المتوسطين. و في هذا الإطار و في يوم الجمعة تاسع مارس 1973، كنت صحبة الشهيد عمر بنجلون رحمه الله نترأس اجتماعا للتجار الصغار و المتوسطين، و على رأسهم المرحوم مولاي عبد الله المستغفر، بمقر الكتابة الإقليمية للاتحاد في طريق مديونة. و بعد إنهاء الشهيد عمر لعرضه حوالي الساعة الواحدة زوالا طلب مني مواصلة رئاسة الاجتماع لأن لديه التزام آخر بمكتبه.
و حوالي الساعة الثالثة و النصف أو الرابعة زوالا و أنا بمقر الكتابة الإقليمية لا أزال، تلقيت مكالمة هاتفية من السيدة لطيفة حَرَم الشهيد عمر تخبرني من خلالها بأنه قد تم اعتقال زوجها من مكتبه الواقع في شارع 11 يناير، سألتها عن سيارته فأخبرتني بأنه يركُنها في إحدى الزنقات الصغيرة قرب المكتب، و بعد أن سألتها عما إذا كانت تملك نسخة أخرى لمفاتيح السيارة توجهت إلى بيت الشهيد لاستلام المفاتيح ثم عدت إلى المكتب لأجد سيارته "رونو 16" قريبا من المكتب فقُدتُها عائدا بها إلى البيت.
و لا زلت أذكر مشهدا مؤثرا في ذلك المساء، حين هممت بإدخال السيارة ، و كان ذلك حوالي الثامنة مساء و العتمة قد بدأت ترخي سدولها على المكان ، فجاءت ابنته الصغيرة سهام ? و كانت في الرابعة أو الخامسة من عمرها- تركض مَرحة جذلى و هي تصيح : "بابا، بابا، بابا..." ، ظنا منها أني والدها، فلما ترجلتُ من السيارة فتُر فرحها و انكمشت. و لا زال هذا المنظر يؤلمني و يؤثر في كلما ذكرته رغم مرور أكثر من أربعين سنة على حدوثه.
لم يكن عمر بنجلون أول من بدأت به حملة الاعتقالات الكاسحة، فقد بدأت تتوارد علينا أخبار الاعتقالات من مختلف الأقاليم و من مختلف الأحياء بالدار البيضاء. كنت أعلم أن موعد اعتقالي قد دنا، لهذا فحين عدت إلى بيتي ذلك المساء الحزين أخبرتُ زوجتي أن دوري قريب في الاعتقال، لكني حافظت على عاداتي كاملة و على اجتماعاتي بشكل عادي إلى أن حل الموعد المحدد من طرف البوليس.
و بالفعل لم تكد تمر ثلاثة أيام على اعتقال عمر بنجلون، و قد كنت آخذ قيلولة ما بعد الغذاء في ذلك اليوم ثاني عشر مارس حين طَرق الباب ثلاثة من البوليس بزيهم المدني، اقتحموا غرفة نومي و وقفوا علي مباشرة حيث أيقظوني من قيلولتي بهذه الطريقة الفجة و العنيفة.
"ما هذه الفوضى و ما معنى هذا الهجوم ؟" قلت . قالوا أنهم يريدونني لساعة فقلت لهم "ساعة أو عام هذا ليس أسلوبا... استدعوني آتي لكم فأنا لست هاربا". سألني أحدهم هل معي شيئا (يقصد شيئا من الممنوعات مثل السلاح أو المناشير أو غيرها) فقلت له :" البيت أمامكم، فتشوا كما يحلو لكم"، فطاف بغرف البيت لفترة وجيزة ثم عاد بدون أن يأخذ معه شيئا.
قال لي أحدهم همسا "خذ معك جلابة أو معطفا ثقيلا" ، طلبت من زوجتي أن تسلمني جلابتي و خرجت معهم. هبطنا دروج العمارة أربعتنا و توجهنا نحو "الفاركونيت" (سيارة الشرطة) التي كانت تنتظر في شارع الزيراوي قريبا من مسكني. ركبت و شرعت أتساءل عن الوجهة التي سيأخذوني إليها ، هل إلى الرباط أم إلى درب مولاي الشريف أو إلى غيره؟. هذا التساؤل الذي راودني ما لبث أن طرحه سائق السيارة جهرا : "إلى أين؟" فأشار له ذاك الذي جلس بجانبه و يبدو أنه رئيسهم، برأسه في اتجاه الحي المحمدي.علمت حينها أنا ذاهبون إلى معتقل درب مولاي الشريف.
حين وصولنا إلى باب المعتقل طلب مني الرجل الجالس بجانبي أن أضع قب الجلابية على رأسي بعد أن وضع أحدهم العصابة على عيني و القيد في معصمي ثم قادوني راجلا في سرداب بارد، صعدنا في نهايته بضع درجات و فتحوا بابا حديديا ثم أجلسوني أرضا قرب شخص لم أعرفه حينذاك.
سأشعر بعد فترة أننا كنا في مكتب للتحقيق إذ نودي علي فورا، و أجلسوني هذه المرة على كرسي قريب من المكتب الذي يجلس المحقق في الجانب الآخر منه. بدأ المحقق في أخذ المعلومات الشخصية (تاريخ و مكان الازدياد الوضعية العائلية...إلخ) ثم شرع في السؤال عن المسؤوليات الحزبية و النقابية ، و فجأة قاطعني و قال : "أترك...هذه أمور نعرفها كلها. نريد أن نعرف مسؤولياتك داخل التنظيم السري و السلاح الذي تستخدمونه و اللجان الثورية و علاقاتكم بالخارج و حدثنا قليلا عن مشاريعكم و خططكم و علاقتكم بالانقلابيين". قلت له أن هذه أمور لا علم لي بها و لست مرتبطا بأي منها، كل ما لدي فقد قلته. فأنا أنشط داخل حزب قانوني و في إطار النقابة الوطنية للتعليم و في جمعية مساندة الكفاح الفلسطيني أما غير ذلك فلا علم لي به".
عند هذا الحد، تخلى المحقق عن هدوئه المصطنع و صرخ في وجهي: "حيث أنك لا تريد أن تعترف فإن لدينا أساليب أخرى لكي تجعل لسانك ينطلق". و جيء بجهاز موصول بخيوط كهربية فيما أعتقد، وضعوا أطرافها على شفتي و على أذناي و رأسي و شرعوا يطلقون صعقات كهربية مؤلمة و متكررة حتى اعوجت عضلات وجهي بأكمله، و لا زلت أشعر بوخزها حتى الآن كل ما ذكرتها. ثم تركوني قائلين : "إذهب الآن كي تستعيد ذاكرتك، فهذه ليست إلا "شليدة" و سننادي عليك لاحقا".
و أنا أُساق إلى الزنزانة، معصوب العينين مقيد المعصمين كنت أشعر بصف من المعتقلين مثلي ينتظرون دورهم للاستنطاق، فيما كنت أسمع صراخ آخرين يخضعون للتعذيب.
أدخلت زنزانة و عرفت بعد قليل، عن طريق الحديث الهامس المتبادل بيننا حين نشعر بأن الحارس قد تحرك بعيدا، أن من نزلائها الأستاذ محمد الحلوي و هو المحامي المعروف بقدرته و ذكائه و من العناصر النشيطة المؤطرة للمناضلين، و عبد الرحمان بن الطيب رحمه الله و قد كان من المناضلين المهمين الذين اعتقلوا في قضية شيخ العرب ، و الصفا محمد و هو واحد من المناضلين في النقابة و الحزب.و مصطفى يوس و هو أحد رفاق عمر دهكون و قد تم إعدامه معه. و كان معنا في نفس الزنزانة صهر الربيع و هذا الأخير واحد من مناضلينا المهمين و كان بفرنسا، و تم اعتقال هذا الشخص لا لشيء إلا لكونه صهر الربيع. و لأننا لم نكن نعرفه و لأنه كان كثير الطلبات و كان يلح في طلباته "للحجاج" (الجلادين) فقد شككنا في أمره و اشتبهنا فيه، و كان من بين طلباته "بطانية" إضافية أعطيت له، لكنها لم تلبث معه طويلا إذ ما أن أخرجوه لغرض ما حتى "سرقها" الحلوي و افترشناها نحن جميعا.
في اليوم الموالي أعادوني مرة أخرى و كرروا نفس السؤال حول التنظيم السري و التحضير للثورة و السلاح المخبوء، و لما نفيت أي علم لي و أنكرت أي علاقة لي بهذا الموضوع، وضعوا قضيبا تحت ركبتي و رفعت بين طاولتين أو كرسيين لا أعرف، بشكل جعل رأسي يسقط وسط إناء مليء بالماء المتسخ، و كان أحدهم يغلق فمي مرة و أنفي مرة أخرى حتى أكاد أموت اختناقا، فيما كان الثاني يواصل سلخ قدماي بقضيب بشكل متواصل. كانت حصة التعذيب تدوم ربع ساعة أو نصف ساعة متواصلة، و حين تنتهي يتم إيقافي على قدمي المتورمتين من أثر الضرب، فوق الأرضية اللزجة المليئة بالماء ، فكنت أشعر بالألم يسري مثل تيار كهربي في كامل جسدي. حينها يقوم الجلادون بالدوس بأحذيتهم الثقيلة على قدمي المنتفختين كي يخف انتفاخهما ، و بعد ذلك ينقلني "الحجاج" (اللقب الذي يعطى لحراس المعتقل) إلى الزنزانة و يرمونني هناك مثل كم مُهمل.
و حين لا نكون خاضعين لحصص التعذيب الجسدي أثناء الاستنطاق، نتعرض لتعذيب من نوع آخر، إذ كنا نسمع إخواننا المناضلين الذين عهدناهم أقوياء يصرخون من الألم أو يشتمون من يقوم بتعذيبهم، فكنت أسمع عمر بنجلون و أبو زكريا العبدي و عبد العزيز بناني المحامي، و هم يصرخون و يشتمون فيزداد ألمي.
و في مرة من المرات ذهبوا بالصفا محمد، و الصفا هذا كنت أنا من استقطبَه للنقابة ثم للحزب فيما بعد، و قد وردتني أخبار عنه بأنه يتحدث في خليته عن السلاح و عن أن الحزب قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة بالنظام عن طريق العنف المسلح، فاستدعيته و حذرته من هذه التصريحات المجانية و التي لا تمت للواقع بصلة، فأنكر ما قيل و زعم أن ما سمعتُه لا يعدو كونَه كذبا عليه. ثم أبلغني العربي الجابري بنفس القصة عن الصفا فحذرته مجددا من هذا الكلام الخطير و قلت له أنه يلعب بالنار. و بعد حصة التعذيب التي تعرض لها الأخ الصفا، و كانت قاسية جدا لدرجة أن الحجاج الذين جاؤوا به رموه مثل جثة، و معهُ رمى أحدهم جملة معبرة إذ قال: "و ادوي بزاف" (ثرثر كثيرا).
و لما استعاد بعضا من أنفاسه، قال لي :"إذا أضافوا حصة أخرى من التعذيب فسوف أموت" فقلت له: "سيعيدون تعذيبك مرة ثانية، لكن إذا تقدمت شبرا ، تقدموا مترا، فالزم الصمت أحسن لك" ثم سألته : "هل سألوك عما نبهتك بشأنه؟ (أقصد تصريحاته حول السلاح) فأجابني أن نعم.
و هكذا توالت حصص التعذيب لكل واحد منا، فالسي عبد الرحمان بن الطيب رحمه الله كان يُؤتى به متورم القدمين فكان يتمدد مُوَليا وجهه للحائط لا يكلم أحدا حتى الحصة الموالية، أما محمد الحلوي فقد كان يصمد و يحافظ على رباطة الجأش في كافة الأحوال .
و في مرة من المرات، و بعد حصة التعذيب الأليمة، كلمني واحد من المحققين و هو قدور اليوسفي قائلا : "و الله لن تخرج من هنا حيا حتى تعترف أو تموت" فقلت له أن ما قلته هو الحقيقة، فقال ، " لماذا لا تريد أن تعترف ؟ هل أنت أفضل من عمر بنجلون ،جيب ليه عمر ... لا لا ،جيب القرشاوي " ثم قال: " آت بفلان" ، و هو واحد من إخواننا المعتقلين أيضا. قال لي هل تعرف فلانا قلت نعم هل هو مسؤول معكم قلت نعم، أمرني بالتزام الصمت و الإنصات ثم جاؤوا به و نحن معصوبي الأعين معا لا يرى أحدنا الآخر.
سأله المحقق متى كنتم مجتمعين قال في اليوم الفلاني و من كان معكم قال فلان و فلان و سعد الله، ثم أمره بالانصراف. حينها قال لي هل سمعت؟ قلت له نعم ذلك اجتماع حزبي. فقال لي: "لا إن صاحبك يتحدث عن التنظيم السري". رددتُ عليه بالقول :" إذا قال لكم ذلك فقد دارت ليه في الخوا" (أعني أنه فقد عقله) فرد عَلَي بعنف "دين أمك انت باقا ما دارت لك في الخوا أرجعوه" .
وعدت إلى حصص التعذيب المتقدمة جدا، إذ بالإضافة إلى الضرب المُبرح بالسوط في أخمص القدمين و الخنق المتناوب بالماء كنتُ أتعرض لصعقات كهربية تنزع القلب من بين الضلوع. خلالها فقدت الوعي تماما، فرموني بالزنزانة. و حين استعدت وعيي سألت عن الوقت الذي جيء بي فيه قيل لي أنه كان حوالي الحادية عشر و النصف أي قرابة الساعتين و النصف من التعذيب لأن الحصة بدأت في التاسعة ليلا.
هكذا توالت حصص التعذيب في درب مولاي الشريف، و حتى حينما لا أكون أنا شخصيا من يُمارس عليه التعذيب فإن الليل كله كان مليئا بصراخ المعذبين المعلقين هنا أو هناك، و هذا وحده كفيل بزرع الرعب و الألم. بينما كان هؤلاء الجلادون يؤوبون إلى منازلهم في الطوابق العلوية للمعتقل غير شاعرين بوخز ضمير و لا تأنيب. و كان أغلبهم يُغرق شعوره ذاك ?إن وُجد- في الخمرة يعبها عبا في حانات المدينة.
و قد اكتشفت مع مرور الوقت أن مركز درب مولاي الشريف سيء الذكر، كان يغص بالمناضلين المعتقلين مثلي كعمر بنجلون و مصطفى القرشاوي و عبد الله بوهلال و الحاج علي المانوزي و حسن الكنوني و سالم يفوت و محمد مؤيد و جوهر عبد السلام و احمد بلقاضي و حسن خدان و حسن أخزام من البرنوصي و القصري بابا و بوشعيب رياض و عبد الله مستغفر و محمد بشرى و مجيد ...و كل هؤلاء اعتقلوا من البيضاء، و كانت سراديبه المظلمة تضم أيضا العديد من المعتقلين من مناطق أخرى بالمغرب خاصة من أيت حديدو و فكيك التي ضربت رقما قياسيا مقارنة مع حجمها كمدينة صغيرة و مولاي بوعزة و كولميمة و قصر السوق (الرشيدية) و سوس.
الحلقة المقبلة:
الكوربيس وحجاجه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.