عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان بالنسبة لسعيد بونعيلات الذي كان محكوما بالإعدام ومن المفروض أن يقيم في زنزانة الإعدام تركوه معنا . بدأنا نتكيف شيئا فشيئا مع أجواء السجن . بعد أسبوعين بدأت زيارة بعض العائلات لأقربائها من المعتقلين . كما كان المحامون يترددون علينا بين الفينة والأخرى للرفع من معنوياتنا . كان سعيد بونعيلات اكثر تجربة في النضال والصراع لأنه من قيادي حركة المقاومة وكان من المقاومين الذين لجاءوا إلى الشمال بعد اكتشاف أمرهم بالدارالبيضاء مثلما كان سائقا لابن بلا . وعمق هذه التجارب وتعقدها وضراوتها مكن سعيد بونعيلات من تقبل الحكم بالإعدام في حقه كشيء عادي جدا . وفي دار المقري لم يستطيعوا أن ينتزعوا منه ولو معلومة واحدة رغم شدة التعذيب التي كادت تودي به إلى الموت وفي الأخير بدءوا يطلبون منه أن يقول لهم أي شيء لكي يبرروا به واقعة اعتقاله . بالنسبة للمعتقلين ذوي التجارب الكبيرة في النضال لم يتأثروا بما وقع رغم قساوة الأحكام وكانت معنوياتهم جد مرتفعة باطنا وظاهرا . أما بالنسبة للذين كانت تجربتهم النضالية متواضعة ومنهم من لم تكن له أية علاقة بما وقع . بل اعتقل كما قلت جزافا ، بالنسبة لهؤلاء كانوا يتظاهرون بالاتزان والثبات لكن في العمق كانوا متأثرين كثيرا لأن البعض منهم اعتقل وعذب وحكم عليه بالسجن فقط لأنه تناول وجبة عشاء مع فلان أو علان .. أو حياه في السوق أو صافحه في الطريق أو تجمعه به قرابة .. بعض المعتقلين من ازميز ودمنات زارتهم عناصر مخابرات ببيوتهم وسألوهم سؤالا بسيطا هو : هل تعرف فلان ؟ عندما أجابوا بنعم اعتقلوهم وعذبوهم وحوكموا وصدرت في حقهم أحكام قاسية وبقوا طيلة مدة السجن يبحثون عن سبب مقنع يبرر اعتقالهم . ويمكن لي أن أقول أن 70 % تقريبا من المعتقلين لم تكن لهم لا ناقة ولا جمل فيما جرى بل أعتدي عليهم وعلى عائلاتهم ظلما وعدوانا وزج بهم في قضية لا يعرفون عنها شيئا واعتقلوا عبثا وأجهزوا على مصيرهم مجانا وهذا من بين ما يؤلمني في هذه التجربة التي تجسد أقصى درجات الظلم والتلاعب ببرودة دم إجرامية بحياة البشر . محاولتا الانقلاب والمؤتمر الاستثنائي كان يسمح لنا بالاستحمام مرة واحدة في الاسبوع . بدأنا نتعرف على نزلاء السجن المركزي فوجدنا مجموعة من المعتقلين السياسيين مردومة فيه منذ بداية الستينات . كمجموعة بن حمو القادري ، وتضم بنموسى وأحمد البلد المحتجزين منذ 1960 ومجموعة القايد بنحمو والقايد البشير الذين اعتقلا في قضية بني ملال في نفس السنة وهي قضية مشهورة جدا حيث أن القايد بنحمو صعد إلى الجبل رفقة أفراد من القوات المساعدة التابعين له وأعضاء من جيش التحرير .. وفي جبل أمزميز كان القايد البشير والقايد البزيوي يقودان مجموعة أخرى فتعقبهم القبطان الغول قائد حامية مراكش أنذاك . حصلت مواجهة بينه في الجبل قتل فيها القايد البشير أما القايد البزيوي فقد جرح . ووجدنا كذلك مجموعة الحسين السكليس وهو الذي اغتال القبطان الغول بالفيلا التي كان يسكنها بمراكش واعتقل فورا وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه بسرعة . اما رفاقه الذين حكم عليهم بالمؤبد فوجدناهم بالسجن المركزي معتقلين فيه منذ 1960 وهم المحجوب الكانوني وعلال وشخص ثالث لم اعد اذكر اسمه، وثلاثتهم يعيشون كلهم بمراكش حاليا . ثم مجموعة شيخ العرب ابراهيم الحلاوي وباعقيل وابراهيم بوالشوا والهريم واخرين وجدنا كذلك بلحاج الأطلسي الذي اعتقل إثر محكمة مراكش الشهيرة وحكم عليه بالاعدام وحاليا يعيش كذلك بمراكش . تعارفنا جميعا وكنا نتواصل فيما بيننا إلى أن قام الجينرال افقير بالمحاولة الإنقلابية الثانية التي تمت في الطائرة . والكل يعلم ان أفقير كانت له يد غير مباشرة في المحاولة الإنقلابية الأولى التي وقعت بالصخيرات . وقد بينت عملية الطائرة بالملموس للمتشككين بأن كل الصراعات السياسية التي دارت طيلة الستينات كانت من تدبير الجينرال أفقير وافتعاله وأنه بذلك كان يحاول تصفية الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ومناضليه في أفق الإطاحة بالنظام الملكي لكي تخلو له الساحة السياسية لمباشرة حكم عسكري فاشستي بالمغرب . احضروا إلى السجن المركزي بالقنيطرة عناصر جيش متورطة في الإنقلاب فنقلونا نحن الذين حوكمنا بمراكش إلى سجن سيدي سعيد بمكناس . وهناك عشنا محنة حقيقية . إذ كان هذا السجن صغيرا جدا . حبسونا في زنازن ضيقة إلى الحد الذي لم نكن ننام فيه إلا بالتناوب . في الوقت الذي ينام فيه البعض يبقى الأخرون قياما لأنه لا وجود بمساحة كافية للجميع . كنا نشعر بأنفسنا كحشرات او جرذان في جحر أو سمك في علبة سردين . أعلنا عن إضراب لا محدود عن الطعام احتجاجا على هذه الوضعية . نفذناه فجاءنا مدير السجن يستجلي مطالبنا . قلنا له : اننا لا نطلب منكم أي شيئ .. فقط نريد إرجاعنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة ... فهذا السجن الذي نقيم فيه الآن معد للسجناء العاديين ذوي المدد المحدودة ، أما نحن فطبيعة ملفنا سياسية ومدة سجننا طويلة لذلك يجب إرجاعنا الى السجن المركزي . لم يستجب المدير لمطلبنا فاتفقنا على المطالبة بحضور وزير العدل للتحاور معنا . حينئذ كان البشير بلعباس هو الذي يتحمل مسؤولية حقيبة وزارة العدل في الحكومة . وبالفعل حضر واعطانا وعدا بإرجاعنا إلى السجن المركزي الذي نقلونا اليه بعد مدة يسيرة من ذلك . في 3 مارس 1973 وقعت أحداث مولاي بوعزة الشهيرة . فبدأت الإعتقالات ثانية ودشنت حملة شرسة من القمع الأسود في الأطلس المتوسط وباقي البوادي والمدن المغربية .وبدون مبالغة كانت الطريقة التي تتم بها الإعتقالات في هذه المناطق سنة 73 مماثلة لما نشاهده الآن في منطقة الشيشان . اذ كانوا يعمدون إلى هدم الدور كاملة وهي آهلة بالسكان . وقتل فيها الكثير من المناضلين كمحمد بنونة وابراهيم التزنيتي ومولاي سليمان العلوي ... واعتقلوا النساء الحوامل والأطفال والشيوخ والشبان ... ومركز الكوربيس المتواجد بالدارالبيضاء انفا شاهد على فداحة القمع الذي ذهبت ضحيته فيئات متعددة ومتنوعة من شرائح المجتمع . وقد سبق لي عندما كنت في الجزائر أن قرات كتابا يحمل عنوان ‘' سقوط برلين ‘' يتضمن عدة تفاصيل حول القمع الهتليري ومع ذلك لم أجد فيه ما يماثل شراسة القمع الذي تعرض له المغاربة في هذه الفترة . بفعل أحداث مولاي بوعزة ضيق علينا الخناق مرة أخرى بالسجن المركزي . ولم يعد يسمح للعائلات بزيارتنا وتواثرت محاولات استفزازنا من قبل الحراس . انطلقت المحاكمات العسكرية فاكتظ السجن بنزلاء جدد منهم العسكريون المتورطون في محاولة انقلاب الصخيرات وضمنهم شقيق العقيد اعبابو الذي قاد المحاولة الإنقلابية الاولى بمعية المذبوح ومنهم عناصر الجيش المتورطة في المحاولة الإنقلابية الثانية . وكذلك المعتقلون في أحداث 3 مارس 73 بمولاي بوعزة . وامتلأ السجن عن آخره وافتتحت معتقلات أخرى كتازمامرت وقلعة مكونة وتازناغت ومعتقلات الجنوب . هذا الجو المضغوط أثر على وضعيتنا وأصبحوا يعاملوننا معاملة قاسية أكثر من السابق ، معتبرين أن كل ما وقع هو مجرد نتيجة لما قمنا به . وأن كل العمليات التي عرفها المغرب بعد اعتقالنا جاءت ثأرا لما طالنا من اعتقالات حسب رايهم . كان يسمح لنا بالاستحمام مرة واحدة في الاسبوع . بدأنا نتعرف على نزلاء السجن المركزي فوجدنا مجموعة من المعتقلين السياسيين مردومة فيه منذ بداية الستينات . كمجموعة بن حمو القادري ، وتضم بنموسى وأحمد البلد المحتجزين منذ 1960 ومجموعة القايد بنحمو والقايد البشير الذين اعتقلا في قضية بني ملال في نفس السنة وهي قضية مشهورة جدا حيث أن القايد بنحمو صعد إلى الجبل رفقة أفراد من القوات المساعدة التابعين له وأعضاء من جيش التحرير .. وفي جبل أمزميز كان القايد البشير والقايد البزيوي يقودان مجموعة أخرى فتعقبهم القبطان الغول قائد حامية مراكش أنذاك . حصلت مواجهة بينه في الجبل قتل فيها القايد البشير أما القايد البزيوي فقد جرح . ووجدنا كذلك مجموعة الحسين السكليس وهو الذي اغتال القبطان الغول بالفيلا التي كان يسكنها بمراكش واعتقل فورا وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه بسرعة . اما رفاقه الذين حكم عليهم بالمؤبد فوجدناهم بالسجن المركزي معتقلين فيه منذ 1960 وهم المحجوب الكانوني وعلال وشخص ثالث لم اعد اذكر اسمه، وثلاثتهم يعيشون كلهم بمراكش حاليا . ثم مجموعة شيخ العرب ابراهيم الحلاوي وباعقيل وابراهيم بوالشوا والهريم واخرين وجدنا كذلك بلحاج الأطلسي الذي اعتقل إثر محكمة مراكش الشهيرة وحكم عليه بالاعدام وحاليا يعيش كذلك بمراكش . تعارفنا جميعا وكنا نتواصل فيما بيننا إلى أن قام الجينرال افقير بالمحاولة الإنقلابية الثانية التي تمت في الطائرة . والكل يعلم ان أفقير كانت له يد غير مباشرة في المحاولة الإنقلابية الأولى التي وقعت بالصخيرات . وقد بينت عملية الطائرة بالملموس للمتشككين بأن كل الصراعات السياسية التي دارت طيلة الستينات كانت من تدبير الجينرال أفقير وافتعاله وأنه بذلك كان يحاول تصفية الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ومناضليه في أفق الإطاحة بالنظام الملكي لكي تخلو له الساحة السياسية لمباشرة حكم عسكري فاشستي بالمغرب . احضروا إلى السجن المركزي بالقنيطرة عناصر جيش متورطة في الإنقلاب فنقلونا نحن الذين حوكمنا بمراكش إلى سجن سيدي سعيد بمكناس . وهناك عشنا محنة حقيقية . إذ كان هذا السجن صغيرا جدا . حبسونا في زنازن ضيقة إلى الحد الذي لم نكن ننام فيه إلا بالتناوب . في الوقت الذي ينام فيه البعض يبقى الأخرون قياما لأنه لا وجود بمساحة كافية للجميع . كنا نشعر بأنفسنا كحشرات او جرذان في جحر أو سمك في علبة سردين . أعلنا عن إضراب لا محدود عن الطعام احتجاجا على هذه الوضعية . نفذناه فجاءنا مدير السجن يستجلي مطالبنا . قلنا له : اننا لا نطلب منكم أي شيئ .. فقط نريد إرجاعنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة ... فهذا السجن الذي نقيم فيه الآن معد للسجناء العاديين ذوي المدد المحدودة ، أما نحن فطبيعة ملفنا سياسية ومدة سجننا طويلة لذلك يجب إرجاعنا الى السجن المركزي . لم يستجب المدير لمطلبنا فاتفقنا على المطالبة بحضور وزير العدل للتحاور معنا . حينئذ كان البشير بلعباس هو الذي يتحمل مسؤولية حقيبة وزارة العدل في الحكومة . وبالفعل حضر واعطانا وعدا بإرجاعنا إلى السجن المركزي الذي نقلونا اليه بعد مدة يسيرة من ذلك . في 3 مارس 1973 وقعت أحداث مولاي بوعزة الشهيرة . فبدأت الإعتقالات ثانية ودشنت حملة شرسة من القمع الأسود في الأطلس المتوسط وباقي البوادي والمدن المغربية .وبدون مبالغة كانت الطريقة التي تتم بها الإعتقالات في هذه المناطق سنة 73 مماثلة لما نشاهده الآن في منطقة الشيشان . اذ كانوا يعمدون إلى هدم الدور كاملة وهي آهلة بالسكان . وقتل فيها الكثير من المناضلين كمحمد بنونة وابراهيم التزنيتي ومولاي سليمان العلوي ... واعتقلوا النساء الحوامل والأطفال والشيوخ والشبان ... ومركز الكوربيس المتواجد بالدارالبيضاء انفا شاهد على فداحة القمع الذي ذهبت ضحيته فيئات متعددة ومتنوعة من شرائح المجتمع . وقد سبق لي عندما كنت في الجزائر أن قرات كتابا يحمل عنوان ‘' سقوط برلين ‘' يتضمن عدة تفاصيل حول القمع الهتليري ومع ذلك لم أجد فيه ما يماثل شراسة القمع الذي تعرض له المغاربة في هذه الفترة . بفعل أحداث مولاي بوعزة ضيق علينا الخناق مرة أخرى بالسجن المركزي . ولم يعد يسمح للعائلات بزيارتنا وتواثرت محاولات استفزازنا من قبل الحراس . انطلقت المحاكمات العسكرية فاكتظ السجن بنزلاء جدد منهم العسكريون المتورطون في محاولة انقلاب الصخيرات وضمنهم شقيق العقيد اعبابو الذي قاد المحاولة الإنقلابية الاولى بمعية المذبوح ومنهم عناصر الجيش المتورطة في المحاولة الإنقلابية الثانية . وكذلك المعتقلون في أحداث 3 مارس 73 بمولاي بوعزة . وامتلأ السجن عن آخره وافتتحت معتقلات أخرى كتازمامرت وقلعة مكونة وتازناغت ومعتقلات الجنوب . هذا الجو المضغوط أثر على وضعيتنا وأصبحوا يعاملوننا معاملة قاسية أكثر من السابق ، معتبرين أن كل ما وقع هو مجرد نتيجة لما قمنا به . وأن كل العمليات التي عرفها المغرب بعد اعتقالنا جاءت ثأرا لما طالنا من اعتقالات حسب رايهم . كانت عائلتي تبحث عني منذ 1964 عندما اقتحمت قوات الآمن بيت والدي ..انقطعت أخباري عنها وعاشت في حيرة وتيه كبيرين .. تساءلت هل مازلت على قيد الحياة ؟ هل أنا في السجن ؟ هل نفذ في حقي حكم الإعدام ؟ خصوصا أن تلك السنوات عرفت بالاغتيالات والاختطافات وإعدامات بلا حكم ولا محاكمة ، وكانت حيرتها تصطدم بعدم قدرتها على مواجهة الواقع ، لأن أي سؤال عني سيعرضها لنفس مصيري أو أكثر وفي أحيان أخرى أعتبر بالنسبة لها ميتا لكن مرارتها لا تعرف حتى مكان قبري ... ست سنوات عاشتها العائلة وسط هذا التيه إلى أن بادرت بمراسلتها وأنا في السجن العسكري سنة 1970 بعدما كنت أضع نفسي مكانها لأحس أن معاناتها جد مضاعفة بجهلها لمصيري ، وهي تدرك أنني لا أعرف حتى نبأ وفاة والدي وهو الموضوع الذي سيكون أساسيا في ردها على رسالتي . لكن لم تكن لها القدرة على زيارتي بالسجن . نظرا للبعد وكذلك للعامل الاقتصادي إضافة إلى الخوف المتصاعد أمام المعاملات الاستفزازية والعراقيل التي تواجهها عائلات وأسر المعتقلين . داخل السجن لم يكن هم العائلة وحده هاجسا يراودنا بين الحين والآخر بل كانت الأحداث السياسية التي تنسج خارج السجن تحتل مساحات كبيرة من اهتماماتنا وكنا كمعتقلين محسوبين على حزب القوات الشعبية تتفاوت اهتماماتنا وتكويننا السياسي وفي نفس الوقت تدخلت عوامل كثيرة منها أن الحزب كان مجمدا لفترة طويلة مما أدى إلى عدة خلافات وتشكلت تيارات . فالخلاف حول قيادة الحزب اشتد بين طرح يقول بأن القيادة يجب أن تكون خارج الوطن وهو طرح ينادي به الفقيه البصري .. وطرح مناقض يدعو إلى أن تشكل القيادة داخل الوطن ويدعو إليه كل من عبد الرحيم بوعبيد وعمر بن جلون وآخرون .. وكنا كمجموعة من المعتقلين يطلق علينا اسم مجموعة الخارج داخل السجن باعتبار المدة الطويلة التي قضيناها خارج الوطن بكل من الجزائر وسوريا وإسبانيا وغيرها من الدول الأخرى ... زد على هذا أن المجموعة صنفت داخل السجن بالشيوعيين وقد عانت من هذه التصنيفات إلى غاية خروجها من السجن ... في ظل كل هذه المعطيات تم التحضير للمؤتمر الاستثنائي للحزب وهو الأمر الذي لم نكن نعلم بتفاصيله سواء فيما يتعلق بأسلوب التنظيم أو طريقة إنجاز مشاريع التقارير علما أن لدينا تصورات وأفكار كان بالإمكان أن نساهم بها ، هناك بعض إخواننا من المعتقلين تمكنوا من معرفة بعض التفاصيل حول التحضيرات المخصصة للمؤتمر كأحمد بن جلون الذي كان يزوره أخوه المناضل عمر بن جلون ويزوده ببعض المعطيات ومن خلاله نعرف النذر القليل منها ... وبالمناسبة كان عمر بن جلون كلما اختلف مع أخيه احمد يخاطبه : ألا تعرف معنى الجدلية ؟ وهذا السؤال في حد ذاته يستنبط منه أن عمر كان يؤمن بتعايش الاختلافات ضمن الوحدة داخل الحزب . وانعقد المؤتمر الاستثنائي واعتبرنا أنفسنا غير معنيين بمقرراته ، أي أننا كنا متعاطفين مع الطرح الذي تقدم به الفقيه البصري الذي لم يستمع لرسالته في المؤتمر ، وهو ما دعاه إلى نشر تقريره المضاد في الصحف خارج الوطن ، في الوقت الذي استمع فيه إلى الرسالة الصوتية للأخ عبد الرحمن يوسفي الذي ساند طرح القيادة الداخلية . لكن عندما خرجنا من السجن وتوضحت لدينا الرؤيا وتوفرت لدينا المعطيات الحقيقية وأدركنا أبعاد التحليل الملموس للواقع الملموس ساندنا بكل قوة ما جاء في التقرير الأيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي وانخرطنا في الدفاع عن شعاره الخالد : تحرير ديموقراطية اشتراكية .. خصوصا بعد ما تبين أن هناك تحولات إيجابية تفرض التوجه نحو الحلول السياسية والديموقراطية . من الأحداث المؤلمة التي زادت من ظلمة غياهب سجننا اغتيال الشهيد عمر بن جلون .. تلقينا هذا النبأ كصاعقة نزلت علينا جميعا خصوصا أن هذا الرجل لم يكن عاديا بل كان واحدا من أنشط الفعاليات الحزبية التي لا تهدأ سواء على المستوى السياسي أو النقابي حيث كانت له تأثيرات واضحة في صفوف القواعد الحزبية ووسط الجماهير العمالية . أدركنا أن صراعات أخرى مازالت تنتظرنا ولا بد من مواجهاتها مادام أسلوب الاغتيالات والاختطافات والمحاكمات الصورية مازال متواصلا وهو ما جعلنا نحن المتشبثين بطرح الفقيه البصري آنذاك ندرك أن نهج الأسلوب السياسي مع مغرب القمع لا يمكن أن ينقذ شعبنا وأن المواجهة وحدها هي السبيل للخلاص من هذا الوضع . ورغم اختلافنا مع طرح عمر بن جلون لكن اغتياله وبتلك الطريقة ومحاولة النظام استعمال بعض الإسلاميين الظلاميين كورقة تخدم مصالحه في تصفية رموز الحركة التقدمية بالمغرب , اعتبرناه مؤامرة تمثل امتدادا لجريمة اختطاف الشهيد المهدي بنبركة . كانت عائلتي تبحث عني منذ 1964 عندما اقتحمت قوات الآمن بيت والدي ..انقطعت أخباري عنها وعاشت في حيرة وتيه كبيرين .. تساءلت هل مازلت على قيد الحياة ؟ هل أنا في السجن ؟ هل نفذ في حقي حكم الإعدام ؟ خصوصا أن تلك السنوات عرفت بالاغتيالات والاختطافات وإعدامات بلا حكم ولا محاكمة ، وكانت حيرتها تصطدم بعدم قدرتها على مواجهة الواقع ، لأن أي سؤال عني سيعرضها لنفس مصيري أو أكثر وفي أحيان أخرى أعتبر بالنسبة لها ميتا لكن مرارتها لا تعرف حتى مكان قبري ... الخروج إلى السجن الاكبر تبنت محكمة النقد والابرام الحكم الصادر في حقنا . قضيت ثماني سنوات في السجن من أصل عشرين سنة . واستقبل المرحوم الحسن الثاني وفدا عن المقاومة . فاطلق سراح سعيد بونعيلات وبعده الحبيب الفرقاني وبن منصور والدحيش وأحمد بن جلون وبركات اليزيد والحاج محمد أيت المؤذن وعناصر اخرى ... بعد مضي سبع سنوات وثلاثة أشهر على اعتقالي قررت إدارة السجن توزيع المجموعة الباقية على السجون الأخرى حيث نقلوا البعض الى وجدة والبعض الاخر الى وطيطا وعلي مومن ... أما انا فقد رحلوني إلى آسفي رفقة معتقل من الجنوب يسمى بوجمعة بن ابراهيم . في أخر شهر نزفمبر 1977 صدر العفو الملكي في حقنا . فاطلق سراح المعتقلين بمن فيهم المحكومين بالمؤبد . عندما غادرت سجن آسفي استقبلني أخي القاطن بنفس المدينة . وتلقيت زيارات الإخوة المناضلين . بعد ذلك ذهبت لزيارة الأقرباء بأيت ويرار بنتيفة ناحية تانانت . قضيت عندهم عشرين يوما صلت فيها الرحم مع أفراد عائلتي .. بعدها سافرت إلى الدارالبيضاء لرؤية بعض المناضلين ثم عدت إلى آسفي .. في هذه السنة انتهت مرحلة من حياتي طبعتها المطاردات البوليسية والاختطافات في الغياهب المظلمة والأبية الباردة والتعذيب الوحشي والمحاكمات الصورية الجائرة والإقامة في الزنازن المنفردة ..لتبدأ مرحلة أخرى تسودها محنة من نوع آخر ... عندما غادرت السجن ذقت طعم الحرية وأدركت في نفس الوقت أنني خرجت من سجن صغير الى سجن كبير . وغدا سؤال ما العمل ؟ يراودني بحدة لأنني مقبل على فصول جديدة من حياتي بتحديات جديدة . هل بإمكاني أن أحيى حياة طبيعية من جديد ؟ هل يمكنني وأنا في سن الأربع والأربعين أن أرمم ما تبقى من حياتي ؟ هل بإمكاني أن أحصل على عمل أنا الذي قضيت جملة عمري على حد البندقية والقضبان ؟ تركت للزمان مهمة الاجابة عن الاسئلة المحيرة . فبقدر ما كنت سعيدا لملاقاة إخواني المناضلين بآسفي بقدر ما كنت تعيسا لأن وضعي أصبح أكثر إحراجا ... وهو ما دعاهم الى التفكير في وضعيتي الإجتماعية فاتصل بعضهم بعامل اقليمآسفي قصد توفير شغل لي .. وبالفعل استدعاني لكنني رفضت مقابلته . فبعد كل هذا النضال الذي خضته لن أسمح لنفسي بأن تجود علي الداخلية بعمل يعد تشفيا وإشفاقا . فكيف يمكنني أصمد في غياهب المعتقلات السرية والسجون متحملا كل أصناف التعذيب والوحشية التي ما زال بعضها موشوما في جسدي .. كل هذا من أجل كرامتي وكرامة هذه الأمة فكيف أقبل اليوم تمريغ كل هذا التراث النضالي في التراب ؟؟؟ اتخذت القرار بكل مسؤولية وتحد .. في تلك الاثناء كان الأخ محمد اليازغي يبحث عني وهو الأمر الذي سيخبرني به الاخ يزيد البركة عندما زرت مقر جريدة المحرر . اتصلت بالأخ محمد اليازغي واقترح علي الإنضمام للعمل كموظف بمكتب الفريق الاتحادي بالبرلمان وهو ما تم بالفعل .. بعد تقاعدي التحقت بمدينة مراكش للعيش فيها رفقة أبنائي ومواصلة النضال في الواجهة الديموقراطية مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية .. وساهمت رفقة مجموعة من المعتقلين في جمع شتات المعتقلين السياسييين السابقين وتأسيس المنتدى المغربي للانصاف والحقيقة الذي نناضل فيه من أجل الكشف عن حقيقة ملفات الفترة السوداء من تاريخ المغرب المعاصر والحيلولة دون رجوعها . عندما ألتفت إلى الوراء ملقيا نظرة على حياتي كما عشتها أجد أن الزمان الذي يدفعني رويدا رويدا إلى ما أنا عليه الآن ليس سوى قوة الحلم الكبير الذي ركبه من قبلنا اولئك الذين أضاؤوا التاريخ وسيركبه من بعدنا أولئك الذين سيرثون شعلته ووهجه وهو الحلم بأن نرى عالما جديرا بالإنسان . طوردت وعذبت وسجنت وحملت البندقية وقاتلت في جبهات وانكسرت أحلام وولدت أحلام ومع كل هذا وفي تجربة جديدة مهما بلغت قساوتها أوقن أكثر أن الإنسان في جميع الحالات داخل السجن أو خارجه ، في لحظات الإرتياح والشعور بالآمان أو في لحظات الخوف والمطاردة يبقى حرا . يمكنهم أن يعتقلوا أجسادنا ويعذبوها لكنهم لن يستطيعوا مصادرة حريتنا وانطلاق احلامنا . هذا كل ما استطعت أن أصل إليه من خلال هذا النبش في الذاكرة .. لا أدعي أنني وحدي من عاش و صاغ أحداث المرحلة بل هناك الكثيرون ممن ذكرت أسماءهم وممن غفلتهم بغير قصد .. لا أنفي أن الكثير من المعطيات لم أستحضرها أو أن النسيان رمى عليها ظلاله .. وعلى باقي رفاقي ممن عاشوا التجربة أن يفتحوا الملفات ويوضحوا لجيل اليوم كيف ناضلت الأجيال السابقة من أجل أن يعيش المغرب حرا كريما ويبرزوا معاناتهم ويكشفوا عن مواقف بطولية لرجال استرخصوا أرواحهم من أجل مواجهة أعداء سودوا مرحلة من تاريخ هذا الوطن . وملن حق المغاربة أن يعرفوا تاريخهم . محمد المبارك البومسهولي يتبع