مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. و إذا كان "الكوربيس" لا تتخلله حصص التعذيب كما في معتقل درب مولاي الشريف، إلا أن طريقة التعذيب المُمنهجة التي مورست علينا داخله، كانت هي التجويع المستمر،قصد كسر إرادة المقاومة لدينا نهائيا و تحويلنا إلى كائنات جوعى لا تفكر إلا في كيفية البقاء على قيد الحياة. ففي الصباح كانوا يقدمون لنا نصف خبزة باريسية و كأس شاي، و حتى نصف الخبزة ذاك كان أصغر من المعتاد، إذ يبدو أن صاحب الفرن المتعاقد معه كان ينقص من وزن الخبزة سعيا لربح إضافي، و في منتصف النهار يقدمون مغرفة من "المحمصة"، و هي شكل من المعجنات شبيه بحمصة صغيرة يطبخ عادة بالحليب، إلا أنه كان يقدم لنا مطبوخا في الماء القُراح، و في المساء مغرفة أخرى من المحمصة أو من حساء طحين الشعير. و كما لو كان هذا غير كاف لتجويعنا، فقد كانوا في بعض الأحيان يضيفون الماء الكثير إلى هذه الشربات حتى تصبح حبات "المحمصة" معدودة و طافية فوق محيط الماء الساخن. و أمام هذا النوع من التنكيل، بتنا - على غرار كلاب بافلوف الشهيرة - ما أن نسمع صوت الحجاج و رنين الأواني حتى نتأهب بكل حواسنا و بأيدينا المقيدة لالتقاط الصحن المعدني الذي يوزعه أحد الحجاج تباعا على المعتقلين فيما يغرف الثاني مغرفة المحمصة أو الحساء، التي نتلقاها مشفقين خوفا من تدفقها و ضياعها، فنلتهمها بشراهة درءا لجزء من الجوع القاتل. و حل رمضان في نهاية شهر سبتمبر من ذلك العام الحزين 1973، فاعتقدنا أن الشهر الفضيل قد يمد بركاته علينا فتخف عنا وطأة الجوع أو ضغط العصابة و القيد، و لكن الذي حصل هو عكس ذلك تماما، إذ تقلصت الوجبات الثلاث التي كنا نتلقاها قبل شهر رمضان إلى وجبة وحيدة في المغرب، و المضحك المبكي أنه حين كان بعضنا يطلب زيادة في كمية الحساء كانت تُعطاه لكن بعد أن يضاف الماء الساخن إلى ذلك المشروب ، سواء كان حساء أو محمصة، كي يصبح أكثر. هكذا كانت أيامنا تمر رتيبة حزينة بهذا الشكل البئيس، لا يكسر رتابتها سوى قيام واحد منا بمخالفة للقواعد المفروضة و المُملاة علينا. كأن يتحدث إلى صاحبه همسا أو يرفع العصابة عن عينيه قليلا كي يرى ما يحيط به أو يفك القيد عن معصمه. و قد اكتشفنا مع توالي الأيام أن القيد حين نصدمه بالجدار ينفتح تلقائيا، و كنا نأخذ راحتنا حين نذهب للمرحاض حيث ننزع العصابة عن أعيننا و نفتح القيد عن المعصم - و غالبا ما يكون هذا هو مبرر توجهنا للمرحاض علاوة على إمكانية تقابلنا و تحدثنا مع إخواننا- و نعيده في طريق العودة. كما كنا نعمد في الليل حين يحين موعد النوم، إلى التمدد تحت الغطاء و فك حلقة من حلقتي القيد كي نريح معاصمنا و لو بشكل موقت، إلا أن الحراس اكتشفوا هذا التحايُل فباتوا ينتقون أحدنا كي يكشفوا عنه غطاءه فجأة ليتأكدوا من استمرار القيد بمعصمه، فإن كان كذلك ذهبوا أدراجهم أما إذا اكتشفوا أن القيد مفتوح فقد كانوا يربطون صاحبه - لأننا كنا نقول لهم أنه انفتح تلقائيا بسبب تقادمه و اهتلاكه- بقيد واحد مع جاره، و بذلك يصبح المعتقلان معا مثل توأمين سياميين لا يتحركان إلا معا، حتى أثناء ذهاب أحدهما للمرحاض كان الآخر يرافقه و يدلي ذراعه المقيد من فوق باب المرحاض كي يترك لصاحبه بعض ما تبقى من حميمية. و رغم هذه القواعد الصارمة، فقد كنا نتحين الفرص لخرقها، فقد كنا مثلا ما أن نشعر بابتعاد الحجاج عنا حتى نتظاهر بحك جبهتنا كي نقوم برفع طرف صغير من العصابة يمكننا من رؤية الفضاء المحيط بنا، خاصة و أن المصابيح الكاشفة الوهاجة كانت مضاءة ليلا و نهارا. لكن مع توالي أيام الاعتقال فقدت العصابات كثافتها و أصبح نسيجها مُهلهلا بعض الشيء مما مكننا من الرؤية الخفيفة العشواء. إلا أن "متعتنا" بهذه الرؤية لم تدم طويلا إذ جاؤونا بعصابات سوداء سميكة حالكة شبيهة بأشرطة البلاستيك تحول عالمنا إلى ظلام دامس لا بصيص نور فيه. و لحسن حظي فقد احتفظت بعصابتي القديمة، فما أن مرت ثلاثة أو أربعة أيام حتى استبدلت العصابة السوداء بالقديمة، التي تدربتُ على الرؤية من خلال نسيجها المهلهل، فكنت أتابع تحركات "الحجاج" الذين كانوا يتراؤون لي على شكل أشباح أو خيالات منزلقة. و قد كنا في حرب دائمة مع حراسنا الحجاج ،و من المعارك الصغيرة التي خضناها معهم، معركة الصلاة. فقد كنت أنهض للصلاة ? بعد أن سمحوا لنا بالوقوف للصلاة- فأتعمد التطويل في صلاتي حتى أشعر بأن الجميع قد نهض للصلاة، فأؤمهم في صلاة الجماعة. و لأن هذه الصلاة الجماعية كانت تُزعج حراسنا "الحجاج"، فقد منعوا عنا صلاة الجماعة، و هو الأمر الذي لم نستجب له، فكانوا يذهبون عند أحد الواقفين في المقدمة يزعمون أنه الإمام الذي يتبعه الآخرون، ليعنفوه فيقول لهم أنه ليس الإمام بل ولا يعرف القراءة حتى و لا يحفظ القرآن . و ظلوا يبحثون عن الإمام - و في عَنَتهم في البحث متعة لنا - عدة أيام كنت أتحايل معهم خلالها كي لا يكتشفوا أمر إمامتي، إذ كنت أكَبر مثلا لكني أتأخر في الركوع حتى يركع معظم المصلين إلى جانبي، و كنت أقول "سمع الله لمن حمده" و أتأخر أيضا في القيام. و قد بقينا على هذه الطريقة فترة من الزمن لاعبين معهم لعبة القط و الفأر، إلى أن جاء يوم اكتشفوا فيه "الإمام". فقد تسلل "الحاج تزربع" هذا، و كان الحجاج يلبسون أحذية رياضية لا تصدر صوتا لتيسير عمليات التلصص و التصنت، و صعد فوق المكعب الإسمنتي البارز في وسط القاعة، الذي كان مُشرفا على جميع أركانها، و قعد يراقب عملية الصلاة في صمت من بدايتها. و ما أن تأكد لديه بأني أنا من أقوم بدور الإمام، حتى انقض علي فجأة، صارخا: "ها قد وقعت...أنت إمامهم" فصاح مولاي عبد الله مستغفر رحمه الله في وجهه قائلا: "كلنا أئمة" فسحبه هو بدوره : "تعال أنت أيضا". احتججتُ عليه بأني أصلي و لم أدعُ أحدا إلى اتباعي، فقال لي : هذا خرق للقانون، فأجبتهم : "أي قانون هذا؟ الصلاة أيضا هي قانون سيدي ربي...ما تفعلونه لم تقم به حتى إسرائيل مع الفلسطينيين" فقال: "إذن نحن إسرائيليون" فرددت عليه بأني لم أقل هذا. لكنه ? و يبدو أنه راقبنا طويلا- كان مقتنعا تمام الاقتناع بأني إمامهم، و هذا ما كان فعلا. هنا جاء بكرسي عال و أصعدني عليه آمرا إياي بوضع أصابع يدي الإثنتين المقيدتين في ثقوب الآجر المبني به الجدار، ثم سحب الكرسي من تحت قدمي كي أبقى معلقا في الهواء. كان الألم الذي أشعر به في أصابعي ألما فظيعا لا يُطاق، و بعد أن تنفد قدرتي على التحمل و تبلغ مداها كنت أُرخي قبضتي فأسقط متهالكا، فيعيد الكرة عدة مرات إلى أن دَميت أصابعي و خار جسدي. و بعد أن استنفد نزوته للتنكيل بي بهذا الشكل أو ربما لم يعتبرها مُؤذية بالقدر الذي يتمناه، جرني مرة أخرى، فقيد يدي إلى الخلف و قيد قدمي بسلسلة كانت معه و أمرني بالصعود على الدروج زحفا. أما مولاي مستغفر فقد نال أيضا نصيبه من التنكيل، مضيفين إليه عقوبة أخرى بأن حلقوا شعر رأسه تماما، و كأنما أحسوا بإعجاب مستغفر رحمه الله بشعره فقرروا معاقبته بهذا الشكل. و كان مولاي عبد الله، بعد ذلك بأيام، حين يتأسف أمامي على شعره المقصوص، كنت أمازحه بالقول : "لقد أحسنوا صنعا بحلقهم شعر رأسك إذ أراحوك من القمل". و على ذكر الحلاقة، فقد كان شعر رؤوسنا يطول ويتسخ بشكل مهول و مَقيت، فكانوا يجيئوننا بحلاق أكثر قسوة من الجلادين، يطوف بالقاعة مصحوبا بأحد الحجاج، يتأمل الرؤوس ثم ينتقي منها واحدا، يركل صاحبه بقدمه قائلا: "إنهض أنت"، و بهذا يختار أربعة أو خمسة يحلق شعر رؤوسهم، و يغيب لفترة طويلة قبل أن يعود ثانية. و لأننا كنا نتوق إلى حلق شعرنا من أجل التخلص من الطفيليات التي تُعشش داخل سراديبه، فقد كنا حين يأتي نرفع رؤوسنا نحوه لإظهار كم نحن بحاجة إلى خدماته، فيقول بغلظة غير معهودة لدى الحلاقين: "علاش تهز لي كُمكًومك" و في هذه الظروف ، و على عكسنا نحن الذين أصبنا بالهزال و النحول الشديدين بسبب الجوع المُمنهج، انتعشت في أجسادنا و سمُنت بفضل الغذاء الوفير الذي تُشكله أوساخُنا طفيليات قميئة هي القمل، الذي أصبحنا حين نرفع العصابات قليلا نرى أسرابه متحركة مثل قطيع من البقر الوحشي في غابات السافانا. في هذه الظروف أصيب البعض من المعتقلين بالجنون تماما حيث فقدوا ملكتي التمييز و العقل، و من ضمنهم المناضل أبو زكريا العبدي، الذي لم يعد يأبه لتعليمات الحجاج متحديا قواعدها الصارمة. و كانت أكبر جريمة تُقترف داخل الكوربيس، التي يتعرض صاحبها لتعذيب شديد هي نزع العصابة عن العينين و التعرف على الحجاج بشكل مباشر، غير أن أبو زكريا كسر هذه القاعدة الصارمة ، حيث كان ينزع العصابة عن عينيه تماما و يتبادل مع الحجاج السب و الشتم غير مُبال بما يسومونه من عذاب، حتى تيقنوا من جنونه فأصبحوا لا يلقون له بالا و لا يحفلون بما يفعل أو يقول مهما كان "خطيرا". و كان رحمه الله حين أمر بالقرب منه يصيح بي "وا سعد الله وا سعد الله ..هاك هذا الخبز" و يمدني بقطعة خبزه اليومي و كأنه لم يعد يحس و لا يأبه للجوع . و يبدو أنه بذلك كان ينتقم من الجوع الذي دفعه إلى باحة الجنون. فقد كان المرحوم "مبليا" بتدخين الكيف مدمنا عليه، و يبدو أن انقطاعه عن التدخين و التجويع الممنهج قد نالا من قدراته العقلية و أفقداه ملكة العقل و التفكير و رميا به إلى غياهب الجنون.. و المرحوم العبدي مناضل صلب، كان يشتغل في سينما شهرزاد، و كانت له قدرة عجيبة على استقطاب الشباب بحيث كانت له معهم علاقات وطيدة إذ كان يتفهم همومهم و يشاركهم أحلامهم و بذلك كسب ودهم و احترامهم، بحيث كانوا لا ينادونه إلا " با العبدي...با العبدي". و بالموازاة مع ذلك كان أبو زكريا العبدي، في التنظيم الحزبي، يملك سلطة لا تنازع في درب السلطان بحيث لا يتحرك أحد في درب السلطان حزبيا إلا بإذنه. لهذا حين جاء الشهيد عمر بنجلون إلى البيضاء و شرع في تنظيم الفروع الحزبية بالدار البيضاء، و وصل إلى درب السلطان لم يتجاوب معه أبو زكريا معتبرا إياه "دخيلا" على الدرب و رفض التعامل معه، وحين استشعر بنجلون هذا الجفاء من أبو زكريا جاءني و طلب مني الاتصال به قائلا رحمه الله : "إذهب أنت إلى درب السلطان ، فأنتم المقاومون تعرفون بعضكم البعض" كنا في تلك الآونة أي أواخر الستينات ،قد شرعنا في تكوين خلايا، و بعد تكاثرها نظمناها في فروع و كنا آنذاك في مرحلة تحديد المسؤوليات داخل الفروع. و في هذا السياق ذهبت إلى درب السلطان لأجل تحديد موعد لانتخاب مسؤولي الفرع، فجيء لي ببعض المناضلين باعتبارهم المسؤولين. قلت لهم أن التنظيم الذي نبتغيه يقتضي تحديد يومية للقاءات مع الخلايا جميعها قبل تحديد موعد لانتخاب أعضاء الفرع. إلا أن الوحيد الذي رتب لي لقاء مع خلاياه هو الهواري رحمه الله حيث جالست أعضاء هذه الخلايا و تذاكرنا حول التنظيم الحزبي و غاياته. أما السي محمد العبدي فقد رأى أنه - لاعتبار من الاعتبارات- ينبغي أن يتعامل مع المركز الرئيسي للحزب، وهكذا اتصل بعبد الرحيم بوعبيد رحمه الله و طلب منه بإلحاح القدوم إلى درب السلطان للقاء المناضلين، فاتصل عبد الرحيم بوعبيد بعمر بنجلون و أخبره بالموعد و طلب منه مرافقته إلى درب السلطان، و من جهته طلب مني عمر أن أكون أنا من يرافق عبد الرحيم بوعبيد معتذرا هو عن الحضور. و هكذا ذهبت أنا في الموعد المحدد إلى مقهى موريتانيا بالحبوس حيث سألتقي بعبد الرحيم. كنت هناك قبل الموعد بنصف ساعة وبعد فترة رأيت أبو زكريا العبدي قادما صحبة أحد مساعديه و هو بنعمر. و في الموعد المحدد جاء عبد الرحيم بوعبيد فركن سيارته أمام منزل القرشي رحمه الله و نقلته أنا بسيارتي إلى منزل أحد المناضلين بدرب الكبير حيث مقر الاجتماع. و كان اجتماعا ناجحا إذ غص المنزل بالحاضرين لدرجة أن الدروج بدورها كانت مليئة بالمناضلين. و في كلمته التوجيهية حث عبد الرحيم بوعبيد المناضلين على العمل و على إعادة تنظيم الحزب من جديد ثم انصرف. و بقيت أنا معهم كي نشرع في الحديث عن التنظيم. كان همنا في ذلك الوقت هو تمرين المناضلين على تنظيم حديث و عصري، يبدأ بالخلايا، سواء منها الخلايا السكنية أو الخلايا المهنية، التي ينبغي أن تناقش القضايا المطروحة عليها و ترفع تقارير إلى الفرع و تكون ممثلة داخل مجلس الفرع الذي يجتمع بدوره و ينتخب مكتبه و هكذا دواليك، غير أن فرع درب السلطان و إن كان قويا بمناضليه، إلا أنه لم يكن منظما على شكل خلايا بل كان مرتبطا أكثر بشخص أبو زكريا العبدي و هو ما كنا نرفضه. كما ارتبط إسم أبو زكريا العبدي بحادث قتل القائد عباس المسعدي صيف سنة 1956 ، و بهذا الخصوص روى لي المرحوم أبو زكريا العبدي أنه كان ضمن الفريق الذي ذهب فعلا لفاس عند عباس المسعدي لاستقدامه إلى تطوان، فرفض مرافقتهم، و احتد النقاش بينهم، و من المعروف أن المسلحين في تلك الفترة كانوا دائمي الاستنفار و أيديهم على أسلحتهم و إذا رأى أحدهم خصمه قد استل مسدسه فينبغي أن يكون أسرع في سل سلاحه و إطلاق النار إذ كانت القاعدة هي أن الحياة لمن يطلق أسرع، و لهذا فخلال هذه المشاداة انطلقت رصاصة فأصابت المسعدي و كان أبو زكريا شاهدا على مقتله و قد أكد لي هذا الأخير أنه لم تكن هناك نية لقتله إذ لو كانت مثل هذه النية متوفرة لقتلوه دون إنذار. و لم يكن المرحوم العبدي الوحيد الذي أصيب بالجنون في هذا المعتقل الرهيب بل هناك ثمانية آخرون أو عشرة لقوا نفس المصير، أما الذين ماتوا و تم دفنهم هناك فلا أذكر عددهم لكن من بينهم أبو زكرياء نفسه الذي توفي هناك حيث كانوا يأخذون جثتهم و لا ندري أين دفنوهم و كيف دفنوهم.