مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. منذ الستينات ومنذ دخولي إلى التعليم و أنا بمعية ثلة من المناضلين، نوجه انتقادات لقيادة الجامعة الوطنية للتعليم التي أُنشئت سنة 1955 كجامعة منضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل ، و كان يرأسها حينذاك إدريس المذكوري رحمه الله و أحمد السهيلي و أمالو و عبد المجيد الذوبي و اسماعيل العلوي. و قد كانت جماعتنا تتكون مني و من عمر الطويل من مراكش و الأفروخي من ناحية فاس و العربي زروق من سطات و جوهر محمد من فاس و الصالحي من وجدة و مشيش أحمد من القصيبة و الضمضومي محمد من الدارالبيضاء و الجابري العربي من البيضاء أيضا و أبو العزة الطاهر ،إلا أن هذه الجماعة كانت مُحاصرة بحيث كُنا ما أن نصل إلى مقر الاتحاد المغربي للشغل بشارع الجيش الملكي، حتى يتم تطويقنا من طرف ثلة من زبانية المحجوب بن الصديق. لدرجة أنني ، في مرة من المرات، و أنا في اجتماع للمجلس الإقليمي، كنت أسجل بعض الملاحظات على صفحة جريدة كانت بيدي، و رغم أن الاجتماع كان به مُقرران مكلفين بكتابة المحضر و كانا يجلسان في المنصة، إلا أني و أنا خارج من قاعة الاجتماع تقدم مني أحدهم طالبا أن أسلمه ما كتبتُ بالجريدة ، فرفضت قائلا أن هذه ملاحظات شخصية و ليس لأي كان الحق في الاطلاع عليها، و بعد أخذ و رد بل و مشاداة تحلق حولنا عدد كبير بسببها، تمكنتُ من استنقاذ ما كتبت بالجريدة و هي أمور على كل حال لا تستحق كل هذا الجدل. و حين دنا موعد المؤتمر الثالث و بدأ انتخاب المؤتمرين في أواخر 1962 ، و كان الصراع محتدما بين مجموعتنا تلك التي كانت تُدعى بمجموعة عمر بنجلون، تم تحديد موعد انتخاب ممثل برشيد، و كانت به آنذاك ثلاثة عشر نقابة، و حضر الاجتماع ممثلان عن قيادة الاتحاد المغربي للشغل للإشراف - كما جرت العادة - على سير عملية الانتخاب و التحقق من سلامتها، و انتخبتني النقابات الثلاثة عشر بالإجماع مؤتمرا. رغم أن قيادة الاتحاد المغربي للشغل، كانت تبذل الجهد الجهيد (باتباع أسلوب تعيين المناديب عوض انتخابهم و هو ما تصدينا له بقوة) كي لا يتم انتخاب ممثلي التيار المعارض كمؤتمرين، إلا أن البعض منا مثل حالتي تمكن من اجتياز هذا العائق الأول، و حضرنا للمؤتمر بهذه الصفة. قدمت إذن إلى المؤتمر الذي كان ينعقد بالمقر المركزي للاتحاد المغربي للشغل بشارع الجيش الملكي في 3 يناير 1963 لكني فوجئت بمنعي من الدخول لمبررات واهية، و كنت لا أزال أجادل حراس النقابة حين رأيت المحجوب بن الصديق يدلف إلى المقهى الجانبي للاتحاد فتبعته للمقصف عارضا عليه "مظلمتي" فأجابني باستخفاف: " و هاذي غير الجلسة الافتتاحية خاصة بالضيوف، خلي حتى يبدا المؤتمر بعدا" فقلت له أن المؤتمر مفتوح للمؤتمرين و للضيوف و ليس للضيوف وحدهم، فرد غاضبا أو كالغاضب : "إيوا ما نديرش معاك جلسة أنت وحدك". حينها تأكدت بأن الأمر مُدبر من أعلى المستويات، خرجت فوجدت الأخ محمد إقبال و أخا آخر لم أعد أذكر إسمه، فرويت لهما ما وقع ، و كنت لا أزال أحكي لهما ما حصل لي مع المحجوب بن الصديق حين بلغنا نبأ اختطاف عمر بن جلون من طرف زبانية الاتحاد المغربي للشغل و إنزاله إلى القبو. حينها تفرقنا بعيدا عن المقر لكن بعد أن نشرنا خبر اختطاف عمر بن جلون لدى ضيوف المؤتمر من الأجانب، و هو الأمر الذي أعطى أكله بحيث أشار بعضهم في كلمته إلى عملية الاختطاف هاته و استنكرها، مما دفع قيادة الاتحاد المغربي للشغل إلى فتح الباب أمام عمر بنجلون الذي اغتنم الفرصة و هرب من القبو نحو الخارج، و بعد تأكدها من خروج عمر بنجلون نفت القيادة وقوع الحادثة برمتها. و قد علمت فيما بعد من الشهيد عمر نفسه أنه تعرض لعملية تعذيب قاسية من طرف جلادي الاتحاد المغربي للشغل. حينها أصبح من المفروض علينا العمل لإنشاء إطار بديل نشتغل من داخله،و كانت البداية هي إنشاء النقابة الوطنية للتعليم. و هكذا، بتعليمات من قادتنا أمثال الفقيه البصري و عبد الرحيم بوعبيد، شرعنا في العمل من أجل تصحيح مسار العمل النقابي بعيدا عن التحريف الذي طال توجهات الاتحاد المغربي للشغل. و هكذا بدأنا بالتمهيد للنقابة الوطنية للتعليم بإجراء اتصالات في مجموع البلاد، و في هذا الإطار كلفت بالجنوب من أجل تهييء المناضلين للمؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية للتعليم، و ذلك بعد أن استحال العمل من داخل الاتحاد المغربي للشغل. و قد تمثل هذا العمل في تكثيف الاتصالات بإخواننا العاملين في صفوف التعليم بمختلف مناطق المغرب، و في تنسيق هذا العمل من خلال اجتماعات كنا نعقدها ، بعيدا عن الأعين، في بيوت عدد من مناضلي الساعات الأولى في الدار البيضاء أمثال العربي الجابري أطال الله عمره و سي احمد الضمضومي رحمه الله. كما كنا نقوم بنفس الأسلوب في باقي مراكز المغرب، صحبة مناضلين كبار من أمثال ياسين من بني ملال و مسلم رحال من الفقيه بنصالح و الواثق محمد من أكدير و مُرشد من تارودانت و حموش عبد الرحمان و الدويري محمد من الرباط، و تلكم بعض الأسماء التي استحضرتها الآن و ليعذرني المناضلون الآخرون الذين لم أتمكن من تذكرهم. في سنة 1966 و قد أنشأنا النقابة الوطنية للتعليم، اقتُرح علي التفرغ للعمل النقابي في قطاع التعليم . و قد شكلت هذه النقابة - التي شرعنا في العمل من داخلها- إطارا مهما ليس فقط للاستقطاب النقابي بل أيضا و سيلة للتحرك السياسي و استقطاب عدد من رجال التعليم الشباب لأفكار و مبادئ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. و هكذا بدأت النقابة الوطنية للتعليم في مد إشعاعها إلى مختلف مراكز و مناطق المغرب، بحيث بلغ نفوذها إلى فكَيكَ و وجدة و طنجة و تطوان و أكَدير و كَولميم و ...إلخ. و هكذا حين حلت انتخابات اللجان الثنائية حققت النقابة الوطنية للتعليم اكتساحا تاريخيا بحيث فزنا بالأغلبية الساحقة من المقاعد، و أصبحنا نمثل جميع أطر التعليم بما في ذلك التعليم العالي. و قد شكل هذا النجاح وسيلة لتكريس نفوذنا داخل أوساط رجال التعليم. إذ كنا نؤازرهم في المجالس التأديبية، و كنا نستقبلهم قبل الموعد لدراسة قضيتهم، على غرار المحامين المحترفين، مؤكدين لهم وقوفنا إلى جانبهم ضد الإدارة ، مُبينين لهم حقوقهم و محققين لهم مصالحهم الخاصة. كما عملنا على تحقيق مصالحهم العامة مثل الترقية و الترسيم، اللذين كانا عائقا كبيرا أمام عدد منهم. و لهذه الغاية فقد كنا نبذل جهدا جبارا و استثنائيا في تلك الآونة بحيث كنا نتوجه إلى الوزارة بالرباط لعرض الملفات العالقة لرجال التعليم، فندرسها و نجد لها الحل في عين المكان، و كنا نسجل هذه الملفات، و كانت بالمئات يوميا، و نبعثها بواسطة البريد في اليوم الموالي إلى أصحابها. الواقع أن عملنا هذا كان جبارا، لأننا كنا نشتغل و نتفاوض نهارا بالوزارة، و نعمل ليلا على تهييء المراسلات للمستفيدين و نبعثها عبر البريد صباحا ثم نواصل عملنا. و كنا نبيت عند بعض إخواننا المناضلين كل ليلة لدى واحد منهم. و هو عمل لم يسبق لأي نقابة أن قامت بمثله في السابق, و هذا سر ازدهار النقابة الوطنية للتعليم. في إطار حملة توضيحية للنقابة ، من أجل الاتصال بمناضلينا في مجموع المغرب، كُلفت بناحية الجنوب، بدءا من سطات حتى كولميم. و لأن البوليس كان يتبع خطواتنا بشكل حثيث، فقد توصل ببرنامج جولتنا تلك (بطريقة من الطرق)، إذ ما أن وصلنا إلى مراكش، و كان معي الأخ دومان، حتى أخبرنا الإخوان بأن البوليس يعلم بخبر اجتماعنا المُقرر له يوم غد و أنه يدبر أمرا ما، فاقترحتُ عليهم الاجتماع في الليلة نفسها أي قبل الموعد المحدد في البرنامج بأربع و عشرين ساعة. و في اليوم الموالي عقدنا اجتماعا مع إخواننا في أكدير قبل موعده المحدد على غرار ما وقع في مراكش، و من أكدير توجهنا إلى تزنيت و منها إلى إفني. و في إفني سألت عمن يكون باشا المدينة فقيل لي أن إسمه أحمد سالك، و كان أحمد سالك هذا مُعتقلا لدي حين كنت في جيش التحرير، لأنه بلغتنا عنه معلومات تشتبه في كونه يتعامل مع الإسبان، فاعتقلناه و قمت باستنطاقه بناء على استمارة قدمها لي مولاي عبد السلام الجبلي. و قد أجاب عن أسئلة هذه الاستمارة بخط يده و دون أي ضغط أو إكراه، و تأكد لدينا من خلال أجوبته صحة تعامله مع المستعمر الإسباني، فقررنا إبقاءه رهن الاعتقال. و كنت كل يومين أو ثلاثة أتفقده في سجنه و آمر الحراس بفتح زنزانته كي يخرج للساحة من أجل أخذ قسط من أشعة الشمس و من الهواء النقي. و في إحدى هذه الزيارات، أطللت على الزنزانة، أثارتني رؤية معطفه معلقا إلى مسمار في الجدار،و لأنه لا عهد لي بمسمار داخل الزنزانة فقد دلفتُ إليها فاكتشفت جلبابه ممددا يغطي كومة من الأتربة و اكتشفت ثقبا كبيرا وراء المعطف المُعلق، فأُسقط في يده لأنه كان ينتظر حلول الظلام كي يهرب. حينها نقلته إلى زنزانة أخرى و قيدت معصميه مؤكدا على الحراس بالانتباه إليه بشكل خاص. و لم أعرف ما الذي حل به، بعد أن غادرت جيش التحرير و عُدت إلى البيضاء. و منذ ذلك الحين لم ألتقه إلا مرة واحدة بالرباط حين كنا نذهب إلى العاصمة للاستقصاء عن أوضاعنا. فقد كنت صحبة الأخ أزيدان و إخوة آخرين قرب محطة القطار حين التقت عيناي بعينيه فعاد على عقبيه هاربا. هذا الشخص هو الذي علمت أنه أصبح باشا على مدينة إفني، استقصيت رجال التعليم في إفني الذين استقبلوني عما إذا كان يعلم بقدومي فنفوا علمه بذلك، لهذا طلبت منهم أن نعقد اجتماعنا فورا و غادرت المدينة في تلك الليلة إلى كَولميم. و في كَولميم، تركنا السيارة في أحد الأزقة و ذهبنا للاجتماع في منزل واحد من رجال التعليم، ولما يمض وقت طويل على دخولنا حتى سمعنا طرقا على الباب. خرج رب البيت ثم عاد ممتقع الوجه قائلا أن رجال الدرك يريدونكما، خرجت أنا و دومان فقيل لنا بأدب أن "المعلم" (قائد الدرك) يريد أن يراكما لبعض الوقت. قلت لهم أني تركت السيارة في مكان ما و أريد أن آخذها ثم أذهب معكم، ذهبنا مشيا و حين وصلت السيارة و أردت فتح صندوقها، سدد أحد رجال الدرك رشاشه نحوي فقلت له :" مهلا، إنك لا تعرف كيف تستعمل الرشاش و لا تستطيع استخدامه و ينبغي أن تسأل عمن حرر لك هذه المدينة التي تتفرعن فيها الآن". أخذت جلبابي ثم ذهبت معهم. و هناك في المركز وجدت رئيس الدائرة و الشرطة والدرك، قاموا بتصوير السيارة التي فتشوها و أخذوا منها مناشير كنت أسمعهم يقرأون محتواها على واحد ما في الطرف الآخر، أخذوا المعلومات المتعلقة بنا. ثم أطلقوا سراحنا في حوالي الحادية عشر و النصف، فقلت لهم أن يوصلونا إلى المكان الذي أجاؤونا منه، لأني لا أعرف طريق العودة في هذا الليل البهيم، و فعلا رافقنا أحدهم حتى المكان الذي كانت به السيارة بالقرب من الدار التي كنا مجتمعين بها. طلب مني دومان أن ننصرف في الصباح الباكر فقلت له على العكس ينبغي أن نبقى و لا نخرج إلا في الغد و في واضحة النهار حتى يرانا رجال التعليم و يطمئنوا علينا و نتركهم بمعنويات مرتفعة، و حتى لا يُشاع بأننا اعتُقلنا أو هربنا. و من أجل إعادة الروح إلى التنظيم الحزبي،كنا نستغل اجتماعاتنا النقابية كي تكون غطاء لنقاشنا السياسي حول ضرورة إحياء العمل الحزبي. و بدأنا نعقد اجتماعات موازية، خاصة أنا و أحمد بلقاضي رحمه الله و بلحاج احمد و العزوزي عبد الرحمان. و في هذا السياق اقترح علينا أحد الإخوان إسم عبد الكريم مطيع كي ينضم إلينا و هو ما تمت الموافقة عليه بدون تحفظ ،لأنه بذل مجهودا محمودا في إنشاء النقابة الوطنية للتعليم بالرغم من كونه مفتشا للتعليم و هذه الأطر كانت نادرا ما تميل إلى العمل النقابي. و بذلك حضر معنا هذه الاجتماعات الموازية ،إلا أنه في أول جلسة لنا معه في بن سليمان (و كنا نتعمد عقد مثل هذه الاجتماعات في أماكن مختلفة و غير معتادة) قال لنا "خاصنا نديرو شي حاجة" و عند استفساره عن ماهية هذه "الحاجة" قال لنا أنه سيتكلف بالاستعلامات، فتحفظنا منه حينها. و في الغد كان مسافرا إلى السعودية إلا أنه لم يخبرنا بذلك، مما زاد من تحفظنا حُياله إذ كيف لشخص يجتمع معنا في اجتماعات شبه سرية، لا تدخل في إطار الاجتماعات النقابية أو الحزبية الرسمية لأن الحزب كان لا يزال محظورا، ألا يخبرنا بسفره خارج البلاد؟؟. في هذه الفترة نفسها كانت للحزب خلاياه التي تم بعثها و إحياؤها من جديد، ففي كل حي من أحياء البيضاء كانت هناك ثلاث أو أربع خلايا تجتمع بشكل منتظم . و كنا نحن نجتمع إما في منزلي أو لدى الجابري أو عند عبد الرحمان شناف أو... كنا نتدارس كل القضايا السياسية الراهنة و كنا نوصل خلاصاتنا إلى الاجتماعات الحزبية الأعلى و هكذا دواليك إلى أن تصل للقيادة ، و كانت التعليمات و التوجيهات تصل بنفس الطريقة من القيادة إلى الخلايا. و إلى جانب نشاطنا النقابي و الحزبي، و بعد النكسة العربية سنة 1967 التي زعزعت كثيرا من الأوهام لدى الشارع العربي حول قدرة الأنظمة على مواجهة العدو الصهيوني، تم التداعي لإنشاء جمعية مساندة الكفاح الفلسطيني، و قد كنت من بين المؤسسين لها، كما كنت عضوا في مكتب فرعها بالدار البيضاء إلى جانب كل من عمر بن جلون و عبد الحي الشامي و الهاشمي الفيلالي و الطاهر غلاب عن حزب الاستقلال و قد كان نشاطنا يهدف إلى توعية الجماهير بالقضية الفلسطينية وذلك من خلال الندوات و المحاضرات، حيث كان للقضية الفلسطينية وضع اعتباري خاص و كنا نعتبرها قضية وطنية. كما كنا نعمل على جمع التبرعات عبر تنظيم المهرجانات و الحفلات التي كنا ندعو لها فرقا و شخصيات فلسطينية تعبر أصدق تعبير عما يعانيه أهلنا في فلسطين. و في هذا السياق كانت اتصالاتنا متواترة و دائمة مع أعضاء السفارة الفلسطينية خاصة منهم الأخ أبو مروان الذي سيُصبح سفيرا لفلسطين في بلدنا و الأخ واصف منصور رحمه الله الذي كان أخا و صديقا يعرف المغرب و المغاربة بشكل جيد، و قد كنت أعرف أثناء وجودي في برشيد و التحاقي بثانوية ابن رشد أستاذين فلسطينيين قدما الكثير من أجل القضية الفلسطينية و كانا نعم النموذج في النضال القومي و في السمو الأخلاقي و هما السيد موسى العطاونة الذي لا زال مقيما في برشيد لحد اليوم أمد الله في عمره و السيد عطا الذي استجاب لداعي ربه منذ سنوات رحمة الله عليه. و قد كنا نستعيض عن المنع الفعلي للنشاط السياسي بالنشاط النقابي الدؤوب و بالنشاط التثقيفي داخل الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، و هكذا و بالرغم من جو الإرهاب الذي كان سائدا حينها كانت قاعة المحاضرات أو الندوات تغص عن آخرها بالمناضلين و غيرهم من العاطفين. و في هذا السياق تم إنشاء جريدة "فلسطين" التي كان يديرها المرحوم الوديع الآسفي. و بفضل هذا النشاط أصبح العديد من المغاربة و خاصة النخبة المثقفة و الواعية، تعتبر القضية الفلسطينية قضيتهم الخاصة. الحلقة المقبلة: الاعتقال والتعذيب في درب مولاي الشريف