مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. بعد إتمام فترة التكوين تلك ، طلبتُ عطلة من ثلاثة أيام من مكتب المقاومة الذي ذكرته، و ذهبت إلى الكَارة لزيارة الوالدين و العائلة. و لدى عودتي التقيت برحال المسكيني في المكتب، و كان رحال، الذي يكبُرني بحوالي أربع سنوات تقريبا، يريد ملاقاة الفقيه البصري، و لما انتظره و لم يلتقه و قرر الرجوع سألني عما إذا كان لدي سيارة أنقله بها إلى بيته بالحي المحمدي، فأخذت "الشيفرولي" سيارة احمد الفقيه و أوصلته إلى بيته صحبة شاب من معارفه لم يكن لي سابق معرفة به. و حينما ركبا السيارة، رحال بجانبي و رفيقه في المقعد الخلفي، طفق هذا الأخير يفتش بعض الوثائق الموجودة بالمقعد ( و كانت بعض بطاقات المقاومين ضمنها) إلا أني نهرته طالبا منه عدم التفتيش في وثائق لا تخصه، هذا الأمر لم يعجب مرافق رحال، هذا الأخير ضحك طويلا في محاولة منه لتلطيف الجو و قال: "ألمساخيط ...راكم كلكلم مقاومين بحال بحال". و في اليوم المُوالي، أي في 17 دسمبر 1956،عاد مرة أخرى للقاء الفقيه، و لم أعد أذكر ما إذا التقاه أم لم يلتقه، لكنه سألني عما إذا كان بإمكاني توصيله من جديد، فقلت له أن أحمد الفقيه قد ذهب بسيارته، فغادر رحال المسكيني صحبة إبن خالته الذي كان معه، و كان رحال حريصا أن يكون مرفوقا دائما بشخص على الأقل. و حسب ما رَوى لنا إبن خالته فيما بعد، فإن رحال المسكيني و هو نفسه حين نزلا من الحافلة و أشرفا على قنطرة الحي المحمدي، اقتربت منهما سيارة و توقفت كي يترجل منها شخصان أمسك أحدهما به و أدخله السيارة التي كان محركها دائرا، بينما أمسك الثاني برحال من الخلف، إلا أن هذا الأخير الذي كان قويا رغم نحافته، (أذكر أنه في مرة من المرات و نحن نتمازح حاولنا نحن ثلاثة أشخاص أن ننزع منه سلاحه الفردي فلم نتمكن ) استل مسدسه و أطلق النار على الشخص المقابل له، و لما رأى المعتدون أنه قد أصبحت لديهم جثة، رماه أحدهم بالرصاص فأرداه قتيلا. أثناء هذا العراك تمكن ابن خالته من الفرار من السيارة و عاد إلينا في مكتب المقاومة كي يُبلغنا بخبر و ملابسات مصرعه في ذلك اليوم الخريفي. شاع خبر اغتيال رحال المسكيني، و علمت القيادة بأن واحدا من المعتدين قد لقي مصرعه أيضا، لهذا تحركت عناصر المقاومة في المقبرتين اللتين كانتا بالبيضاء آنذاك ? مقبرة بن مسيك و مقبرة الشهداء - تراقب عمليات الدفن، و طفقت تفتش جثامين كل من جيء بهم ذاك اليوم للدفن سواء تعلق الأمر بجثة امرأة أو رجل. و هكذا تم الكشف عن جثة مسجلة باسم امرأة و تبين أنها لرجل معروف بانتمائه لجماعة أحمد الطويل. حينها تم استدعاء جماعة أحمد الطويل للقدوم إلى مكتب المقاومة. في ذلك اليوم تم منحنا، نحن العاملون في المكتب، إجازة لأن لقاء سيتم مع جماعة أحمد الطويل. و ما سأرويه الآن لم أكن شاهد عيان عليه و لكنه بلغني من مصادر متطابقة، فيما بعد. و لأنه كان من المتوقع أن جماعة أحمد الطويل سيجيء أفرادها مسلحين و مستعدين للأسوأ، فقد استعدت القيادة أيضا لذلك. كان المكتب مكونا من طابقين كما قلت سابقا، كَمَن أفراد مسلحون في المكاتب الثلاث للطابق الثاني و أغلقوا عليهم أبوابها. بينما صعد مقاومون آخرون إلى السطح. و فور وصول أفراد جماعة أحمد الطويل إلى المكتب، و كان عددهم حوالي خمسة أو ستة من بينهم إخوة الطويل، توجهوا إلى الطابق الثاني فلما وجدوا الغرف مغلقة صعد أحدهم يقال له "العروبي" إلى السطح لتأمين المكان، فوجد مجموعة من المقاومين جالسين بشكل عادي، من بينهم من يعرفهم و منهم من لا يعرف، فتوجه بالحديث إلى المعلم عبد لله (عبد لله الخطر) قائلا له أنه ناداه في يوم ما لكنه لم يحفل به، فأجابه المعلم عبد الله أنه إن كان فعل ذلك فلأنه لم يسمعه و لم ينتبه له، ثم قفل هابطا. لكنه أثناء التفاته للهبوط سمع صوتا توجس منه، فانعطف مفرغا رشاشه في الحاضرين و نزل مسرعا...... فلما سمع المقاومون المختبئون بالمكاتب الثلاث لعلعة الرصاص، فتحوا الأبواب و خرجوا شاهرين أسلحتهم و مُفرغيها فيمن تبقى من أصحاب الطويل. أما "العروبي" الذي هبط مسرعا من السطح و تمكن من مغادرة البناية فقد تبعه المقاومون و أردوه قتيلا بعد بضعة أمتار. و هكذا تمت تصفية أصحاب أحمد الطويل جميعهم. قبل أن يتم تشييع جثمان رحال المسكيني - الذي كان لا يزال بالمشرحة - من طرف قيادة المقاومة و دفنه بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء، في جنازة مهيبة شارك فيها الآلاف من الجماهير. و بذلك طويت صفحة أحمد الطويل الذي كان مثالا للرجل الذي بات أسيرا لقوته و لجبروته و عجرفته بحيث أصبح يتحرك مثل "كو بوي" بمسدسيه و شريطي الذخيرة متصالبين على صدره، و بلغت به عجرفته تلك درجة أنه كان يصر على دخول القصر الملكي محتفظا بسلاحه. و قد قامت المقاومة فيما بعد بعمليات مماثلة لتثبيت الأمن و دعم الاستقرار في البلاد في تلك الآونة المليئة بالاضطرابات و الانحرافات وهي الفترة الانتقالية التي شهدت ميلاد الصراع حول المشروعية و الصراع حول السلطة، و هو الصراع الذي سيعرف أوجه خلال منتصف الستينات و بداية السبعينات و الذي سيترك بصماته الدامية على تاريخ مغرب الاستقلال. بعد تلك السنوات الصعبة التي تم خلالها استتباب الأمن و التي لعبت فيها المقاومة الدور الرئيسي و القوي، فَقَدَ مكتب المقاومة بريقه الأول و تحول إلى مكتب عادي يقصده طالبو الوظائف و المأذونيات. لم نكن كثيرين في المكتب، فبالإضافة إلي كان هناك حسن الساحلي المقيم حاليا بأكدير و الشقيق الأصغر لعمر الساحلي رحمه الله و عبد النبي بناني (لا أعرف مصيره الآن لكني أذكر أنه أصبح خليفة فيما بعد) .و كان المكتب يؤمه عدد من القيادات من أمثال الفقيه البصري و حسن الاعرج و سعيد بونعيلات و غيرهم. في تلك الأثناء، انضم جيش التحرير الذي كان ينشط في الشمال أساسا، إلى الجيش الملكي استجابة لقرار الملك محمد الخامس و اعتبارا إلى أن ما كان يكافح من أجله و هو الاستقلال قد تحقق، بَيد أن فريقا من قياداته الميدانية بقيادة بن حمو، آثر مواصلة القتال، فاتجه إلى الجنوب لمقاومة الفرنسيين في الصحراء الشرقية (التي اقتطع الفرنسيون منها تندوف سنة 1952 ) و في موريتانيا ، و محاربة الإسبان فيما بعد في مناطق أيت باعمران و طاطا و الساقية الحمراء و وادي الذهب، من أجل تحرير كامل الوطن و إتمام الاستقلال. و في طريقه ذاك بدأ يعزز صفوفه باستقطاب المقاتلين من جميع المناطق التي يمر بها و من الأطلس المتوسط خصوصا.و حين وصوله إلى سيدي إفني انخرط فيه عدد كبير من الصحراويين من مختلف القبائل، بفضل الاتصالات التي ربطتها قيادة جيش التحرير مع قبائل الصحراء و استمالة زعمائها بالإسعاف و التمويل، خاصة أن عددا كبيرا منهم كان يعيش فقرا مدقعا ، بيد أنهم كانوا شجعانا بشكل خارق. و لا بد من الإشارة إلى أنه بعد إعلان استقلال المغرب في ثاني مارس 1956 ، اعتقد سكان أيت باعمران ? كما سيحكون لي فيما بعد ? أن هذا الاستقلال يشملهم هم أيضا على غرار بقية أجزاء الوطن، و انتظروا أن تبعث الحكومة المغربية الوليدة ممثلا عنها يعوض الإدارة الإسبانية. إلا أنها لم تفعل، مما جعل سكان أيت باعمران يديرون أمورهم بأنفسهم و بمساعدة من كتاب فروع حزب الاستقلال، في منأى عن تدخل السلطات الإسبانية. و أمام الفراغ الذي خلقته الحكومة المغربية، بعدم بسط عامل أكدير سلطته على المنطقة رغم مناشدات السكان، عاد الإسبان إلى سيرتهم الأولى و إلى تسلطهم الاستعماري، بل و طفقت هذه السلطات الاستعمارية الإسبانية في استنطاق بعض السكان الباعمرانيين و محاسبتهم على ما قاموا به بعيد الاستقلال ، إلى أن وصلت الطلائع الأولى لجيش التحرير التي عززت معنويات صحراويي أيت باعمران، و توغلت طلائعها و فرقها الأولى في الصحراء ابتداء من أكتوبر 1956 . و كانت سياسة جيش التحرير حينذاك تتمثل في مهادنة السلطات الإسبانية و تطمينها على مصالحها، في الوقت الذي خاضت فيه فرقه و طلائعه معارك طاحنة ضد القوات الفرنسية و استرجعت على إثرها ، عددا من المواقع في المنطقة كما تمكنت من قطع المواصلات بين تندوف و فم الحصن و بينها وبين بشار و بلغت المعارك ضواحي موريتانيا نفسها التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي. في تلك الفترة وصلتني رسالة من حسن الساحلي، الذي كان قد التحق بجيش التحرير في الجنوب، يصف لي من خلالها الأجواء الحماسية التي يعيش فيها و الأهداف الكفاحية التي من أجلها انضم إلى جيش التحرير و يحُثني على الالتحاق به. كما وصف لي عمله بمكتب القيادة العامة لجيش التحرير بمدينة كولميم مُزينا لي مواصلة معركة التحرير. و قد كنت في تلك الآونة، التي خمد فيها بريق مكتب المقاومة بالدار البيضاء و قل الإقبال عليه ،أفكر في مستقبلي الشخصي و أفكر في مواصلة دراستي بالمشرق، إما في سوريا أو في العراق لأن الإمكانية كانت مُتاحة آنذاك بشكل كبير أمامنا، إلا أنني و أنا أتواصل مع الأخ حسن الساحلي، قر قراري على أمر آخر و هو مواصلة الكفاح من أجل تحرير الجنوب من الاستعمارين الفرنسي و الإسباني قبل أن نتجه لتحرير سبتة و مليلية من الاستعمار الإسباني. أخبرت والدَي بقراري، فحاولا بطبيعة الحال تثبيطي بدعوى أن هذه بلاد جديدة علي و بعيدة عنا، إلا أنهما و منذ أن اتخذت القرار الأول بمغادرة الكارة و أنا ابن ستة عشر سنة، أصبحا يعرفان أني إذا عزمت على أمر فسأنجزه، و أن مُعارضتهما لي لن يكون لها جدوى. و هكذا في أواخر صيف سنة 1957 ركبت السيارة التي كانت تقدم من الجنوب و التابعة لجيش التحرير صُحبة سائق بن حمو القائد الأعلى لجيش التحرير. وصلنا ليلا فنمتُ بعض الوقت قبل أن أكتشف في الصباح الموالي أني كنت في كولميم، في بلدة جديدة حيث مكاتب القيادة العامة الحلقة المقبلة : كولميم و اكتشاف الصحراء