شكلت جدلية المثقف والسياسي نقاشا ماتعا في لقاء فكري حول "الجابري..السياسي"، حضره ثلة من رجال الفكر والسياسة المغربية، في مقدمتهم زعامات يسارية ووطنية، من قبيل محمد بن سعيد ايت ايدر ومحمد اليازغي وخالد الناصري وعبد الواحد الراضي. الموعد الثقافي، الذي نظمته مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة مساء الجمعة بالرباط، استحضر طيف المفكر المغربي ورائد المدرسة الفلسفية الحديثة بالمغرب والعالم العربي، الذي وافته المنية عام 2010، تاركا وراءه إرثا وتراثا فكريا بلغ مداه وصداه خارج الحدود المغربية، خاصة ثلاثيته الجامعة والشهيرة حول "نقد العقل العربي"، مناقشة "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" و"العقل السياسي العربي". الراحل الجابري، الذي انخرط في نصف مسيرته في خلايا العمل الوطني في بداية خمسينيات القرن الماضي، كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي ظل يشغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي، قبل أن يعتزل العمل السياسي ليتفرغ في نصف مسيرته المتبقية لمشاغله الأكاديمية والفكرية، ليشكل مدرسة فريدة جمعت ما هو ثقافي بالسياسي. المفكر المغربي محمد سبيلا شدد على أهمية وضع فكر الجابري في السياق المغربي، مشيرا إلى أن التاريخ المغربي الحديث شاهد على تفاعل بين السياسي والثقافي، من خلال نماذج وفقت بين الفعلين كعلال الفاسي وعبد الله إبراهيم، فيما قال إن فكر الجابري يؤشر على مدرسة عربية كاملة "تتسم بالجدلية بين الثقافي والسياسي". واعتبر الجامعي المغربي المتخصص في الفلسفة والعلوم الاجتماعية أن مسار الجابري كان متميزا "من حيث إنه خصص النصف الأول من حياته للفكري والثقافي دون إهمال السياسة؛ فقد ظل مهتما بالقضايا السياسية للوطن والعالم"، مضيفا: "رغم تفرغه للفكر والثقافة فقد كان له نوع من الحنين القوي للعمل السياسي وانتمائه إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية". "الجابري اقتنع في الأخير بأن الفعل الثقافي في عمقه فعل سياسي، لكنه فعل طويل المدى، وشعر بالحاجة إلى التغذية الثقافية والتفكير، وهو ما دفعه إلى التوجه إلى الثقافة في النصف الثاني من حياته"، يقول سبيلا الذي شدد على أن الراحل كان إلى جانب محمد العروي رائد ومؤسس المدرسة الفلسفية الحداثية "التي كان لها وقع كبير في العالم العربي". وتوقف سبيلا عند وجود مدرستين رائدتين في الفلسفة والفكر عربيا، "هما المدرسة المغربية ونظيرتها التونسية"، مضيفا أن التطور الفكري ميز المدرسة المغربية، "خاصة على مستوى قوة البعد النقدي، ليس للتخريب، بل لتجديد التجربة العربية وإنهاضها"، مشيرا إلى أن همّ الجابري كان "النهضة المغربية عبر تجديد ذاتها تجديدا مستمرا ونقديا دون السقوط في عقدة الخوف من الآخر". أما الناشط الحقوقي والنقيب عبد الرحمان بنعمرو فأقر بأزمة الواقع السياسي بالمغرب، وصلتها بأزمة الثقافة، موضحا أن "هناك أزمة كبيرة في الحكم، وعلى مستوى المؤسسات التشريعية التي لا تقوم بواجبها ولازالت تُزور ولا تعبر عن الإرادة الشعبية، وعاجزة عن دورها في الرقابة والمحاسبة للأجهزة الإدارية والحكومية والأمنية"، حسب تعبيره. بنعمرو اعتبر أن الأزمة السياسية نتاج لأزمة المثقف في المغرب، موردا أن هناك عديدا من المثقفين "الذين لازالوا بعيدين عن هموم الشعب والنضال لأجله"، وزاد: "صحيح أن هناك مثقفين ملتزمين، لكن هناك من يتفرجون والخائفون على مصالحهم، ومن استطاع أن يسقطهم النظام ويجعلهم في صفه". إلى ذلك، شدد بنعمرو على حاجة الواقع المغربي إلى مدرسة عابد الجابري في الثقافة والسياسة على حد سواء، مضيفا: "هناك ديمقراطيون حقيقيون ينشدون تحقيق ديمقراطية حقيقة بما تعنيه من دستور ديمقراطي يكون فيه الشعب مصدر جميع السلطات، وجميع اختياراته السياسية والاقتصادية، وما تعنيه من سيادة القانون وحرية الرأي والتعبير وتحقيق العدالة الاجتماعية، وما تعنيه أيضا من عدم الإفلات من العقاب".