في سياق التفاعلات التي أدت إلى صياغة أول دستور في عهد الملك محمد السادس، كانت هناك مواجهة معلنة اتخذت أشكالا مضمرة بين تيارين سياسيين مثلما كان الحال عليه في جميع مراحل الصراع الذي يغذي السياسة. ذلك الصراع ذي البعد الثقافي بين التجديد والتقليد أو بين الحداثة والأصولية. ففي خضم الدستور الجديد، وبعيدا عن القلعة التي تتحكم في زمام الأمور، برزا في الساحة السياسية المغربية تيارين أساسيين. تيار أول يتبنى المشاركة في المؤسسات القائمة حاليا بما يجعله طرفا إصلاحيا بالمعنى المعروف مع العلم أن مشاركة هذا الطرف في اتخاذ القرار السياسي تبقى نسبية وذات نسبة قليلة جدا مقارنة مع ما يتخذ على مستوى السلطة الفعلية. وتيار ثان ممانع ورافض لطريقة تدبير الشأن العام بمؤسساته الحالية. فهو يطالب بالحلول الجذرية لمساوئ الوضع الحالي من خلال مأسسة جديدة تتبنى مفهوم الإرادة الشعبية في اختيار الطريقة التي يجب استعمالها لتملك سلطة القرار. وقد يحدث أن يطالب أصحاب هذا التيار السياسي بإعادة النظر في طريقة وضع الدستور المغربي أو أن يطالب بخلق مجلس تاسيسي منتخب لصياغة الدستور قبل عرضه على الاستفتاء. لكن في ظل الصعوبات الذاتية والموضوعية التي تجعل من شبه الاستحالة انتخاب مجلس تأسيسي يمثل كل شرائح المجتمع المغربي، يبدو خيار الأطراف الإصلاحية التي تتبنى الإصلاح من الداخل أكثر عقلانية في الوقت الحالي شريطة الاعتماد على أسس متينة في رؤيتها السياسية بما يجعلها تشارك في اتخاذ القرار السياسي مشاركة فعلية لا مشاركة بالصورة فقط، تلك الصورة الوردية التي ألفناها من البعض ممن لا يعرفون غير نهج المباركة والتهليل. ففي هذه الحالة الأخيرة تبدو الأطراف الإصلاحية عقيمة ومستقبلة للأفكار والبرامج دون أن تكون منتجة لها. لذلك فلا شك أن الرهان الحالي لبعث التفاؤل في حياتنا السياسية المغربية وإعادة الأمل في مستقبل أفضل وجدير بأن نصفه بالديمقراطية هو محاربة العقم داخل النخبة السياسية الحالية وحثها على الإنتاج المثمر للأفكار والبرامج القريبة من حاجات الشعب وانشغالاته. فهذا هو الدور الأساسي للأحزاب السياسية في الأصل. ومن هذا المنطلق، نستطيع أن نقول إن الملك محمد السادس كان مصيبا عندما قال إن المؤسسات المنبثقة من الدستور الجديد تحتاج إلى عقليات جديدة ونخب جديدة ورجال جدد. وقد يدفع ذلك بالكثير من أبناء هذا الشعب الصبور إلى الابتهاج بعد أن أصابهم القنط واليأس بفعل رؤية نفس الوجوه داخل الأحزاب السياسية المغربية جميعها بدون استثناء. وقد نجد فيها وجوها كثيرة عاصرت الملوك الثلاثة ومع ذلك فهي مازالت مثابرة على القيادة والتحكم. وهو حذو لم يكن مصحوبا بتكوين الأجيال الأخرى التي توالت على الأحزاب بعدها بعقود متفاوتة. بل إن حذوهم كان مصحوبا بسياسة الصدّ المضاد لكل الأجيال المتعاقبة ومحاصرة ذاتية لكل اختلاف في الأفكار والمناهج. فكانت الوفود التي تحاول اقتحام ذلك العالم الحزبي المغلق تمضي فترتها من الزمن في صراع من أجل الوجود ثم تنهزم في النهاية وتنسحب بهدوء لتلتحق بالأغلبية الصامتة التي ما فتأت عن التضخم والاكتناز. ولعل المحزن في هذا الأمر هو أن هناك شباب كثر استطاعوا ولوج مناصب المسؤولية داخل الأحزاب لكن تصرفاتهم صارت تروم إتباع نهج المباركة والتهليل ولا شيء غير المشاركة بدون قيد أو شرط، وهو الشيء الذي يوحي بأنهم لم يستطيعوا التبرؤ من جلابيب آبائهم الأوصياء عليهم في السياسة. وفي المقابل، هناك كذلك شيوخ كبار في أجسادهم وفي أعمارهم اعتزلوا السياسة من داخل الأحزاب لكن عقولهم هي في أوج الشباب ومواقفهم كذلك هي روح التجديد والابتكار، لذلك فإنني عندما أتكلم عن سيطرة الجيل الأبوي للاستقلال على زمام أمور الأحزاب، فأنا لا أقصد الأشخاص أو الأجساد وإنما أقصد العقليات. وكذلك تبقى كل الأحكام نسبية في هذا الباب بما لا يحتمل شيطنة هذا الطرف أو ذاك أو تنزيه هذا الطرف دون الآخر. وقد نفهم من هذا التأمل لماذا كان عنصر الشباب حاضرا بقوة في الحراك العربي الحالي. أو لعله صراع بين الأجيال حيث ينقلب الجيل الأصغر على سلطة الوصاية التي يمارسها عليه الجيل الأبوي المحافظ والرافض للتغيير. ولكن عودة إلى نداء الملك وتوصيته بتجديد النخب، لابد أن ننبه حاملي الرسالة الملكية إلى الابتعاد عن التأويل الذي يروم صناعة النخب حتى لا نقول فبركتها بما يخدم مصالح خاصة. إذ ذاك سنسقط في فخ الاستمرار في التقليد والتبعية بصورة جديدة ووجوه جديدة ولكن بعقليات قديمة. وفي هذا الإطار، يأتي مطلب تأجيل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ضروريا بالنسبة إليّ لأن الدخول إلى مرحلة جديدة في تدبير الشأن العام في بلادنا، كما يأمل المغاربة الأحرار قاطبة وكما عبر عنه الملك محمد السادس في خطابه، يحتاج لا محالة إلى عملية إنضاج جماعي في سبيل الإعداد لتفكير جديد وثقافة جديدة تضع الجميع أمام مسؤولياتهم.