بوادر اتخاذ قرار تحرير الدرهم تعود إلى سنة 2012، حيث قدم والي بنك المغرب الفكرة مبرزا مزاياها المزمعة على الاقتصاد الوطني والانطلاق في الدراسات اللازمة قصد التنزيل على أرض الواقع. وفي منتصف سنة 2015، قام بنك المغرب بأولى الخطوات التي من شأنها تسهيل المرور نحو نظام صرف مرن، حيث قام بتعديل تركيبة سلة العملات التي يرتبط بها الدرهم. وهكذا، انتقلت حصة الدولار من عشرين في المائة إلى أربعين في المائة، وتقلصت حصة الأورو من ثمانين في المائة إلى ستين في المائة. هذه التركيبة الجديدة لسلة العملات تعكس، إلى حد بعيد، مساهمة كل عملة في المبادلات الخارجية للمغرب من صادرات وواردات على حد سواء. منذ أواخر سنة 2016 وبداية 2017، بدأ التمهيد لهذا الانتقال عبر مجموعة من اللقاءات بين بنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية والمؤسسات المالية والفاعلين الاقتصاديين، قصد الترويج للفكرة وضبط سبل تنزيلها على أرض الواقع. رافق هذا بعض الندوات والحملات الإعلامية التي ظلت محتشمة، ولم تقدم للمتابع العادي الصورة الواضحة لفكرة اعتماد نظام صرف مرن وتأثيره المباشر أو غير المباشر على المواطن العادي أو رب المقاولة الصغرى أو المتوسطة. يعتمد المغرب، إلى حدود اليوم، نظام صرف ثابت، حيث إن بنك المغرب هو من يحدد تسعيرة الدرهم. ويرجع اختلاف سعر الصرف من يوم إلى آخر إلى حركية الأورو والدولار في السوق المالية؛ فعلى سبيل المثال، ارتفاع الأورو بعشرة في المائة وانخفاض الدولار بعشرة في المائة سيمكن الدرهم من خسارة ستة في المائة من قيمته أمام الأورو واكتساب أربعة في المائة أمام الدولار. يتحكم بنك المغرب أيضا في هامشي ارتفاع وانخفاض الدرهم عند تأثره بتغير صرف الأورو والدولار، حيث يحدد هامش أقصى هو [%0،3-__%+0،3] وذلك حتى يضمن تجنب انعكاسات أو صدمات قوية. وسيمكن اعتماد نظام صرف مرن من تحرير الدرهم وجعله خاضعا لقانون السوق أي قانون العرض والطلب. من يدفعون في اتجاه هذا القرار يرومون تقوية الاستهلاك الداخلي وتخفيف آثار وانعكاسات الأزمات المالية الدولية. إعمالا لقانون العرض والطلب ونظرا للميزان التجاري المغربي الذي يعرف عجزا منذ سنوات، حيث إن الواردات تفوق بكثير الصادرات من شأنه أن يؤدي في بادئ الأمر إلى انخفاض لقيمة الدرهم. هذا الانخفاض 'المحتم' بفعل قانون العرض والطلب لا يعتبر كله سلبيا كما لا يعتبر كله إيجابيا، حيث إنه سيدفع في اتجاه إيجاد توازنات اقتصادية داخلية جديدة. المنطق يقول إن المصدرين هم أول الفرحين بانخفاض قيمة الدرهم، حيث ستصبح السلع المغربية أكثر تنافسية في الأسواق الخارجية وستوفر هامش ربح أكبر. يليهم المستثمرين الأجانب الذين سيلجؤون إلى إدخال مزيد من رؤوس الأموال قصد استثمارها في المغرب، وهذا من شأنه أن ينعش سوق الشغل ومستوى الصادرات على حد سواء. أما أكبر المتخوفين فهم المقاولات التي تعتمد في أنشطتها على استيراد وتوزيع سلع أجنبية أو تلك التي تستورد المواد الأولية وتعمل على تصنيعها، حيث ستجد نفسها أمام ارتفاع مهول للكلفة ستكون مضطرة لعكسه على أثمنة البيع المعتمدة؛ وهو ما سيؤدي إلى تراجع الطلب ثم ركود في الاستهلاك الداخلي عكس المرام، وهذا في ظل غياب مواد وسلع بديلة متوفرة في السوق الداخلي للمغرب. قد يرى البعض أن هذه الوضعية ستؤدي إلى خفض عجز الميزان التجاري، وبالتالي تحسن سعر صرف الدرهم تبعا لقانون العرض والطلب، ومنه التمكين من خلق توازن جديد يكون في صالح الجميع؛ إلا أنه أغلب المتتبعين، وأولهم خبراء البنك المركزي وأطر وزارة المالية، لا يجزمون بأي من السيناريوهات المحتملة ويقولون إن الوضع مفتوح على عدة احتمالات؛ وهو ما جعل المقاولات، خاصة الكبرى منها، تبحث عن تأمينات ومنتجات مصرفية تمكن من الحماية ضد تقلبات الأسعار والتكلفة الناتجة عن تسعيرة الدرهم. هل الوقت مناسب لإدخال هذا التغيير؟ بطء معدل النمو في السنوات الأخيرة وارتفاع نسبة التضخم وتأخر الإقلاع الاقتصادي في أوربا (الوجهة الأولى للصادرات المغربية) وضعف تنافسية المغرب على جلب الاستثمارات الخارجية وارتفاع نسبة البطالة، مما دفع إلى بروز بعض الاحتجاجات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي ومستوى توقعات النمو لهذه السنة والأربع سنوات المقبلة، كلها ظروف لا تساعد على تزيل نظام صرف مرن في هذه الفترة تجنبا لنتائج لا يمكن ترقبها وقد تزيد من مصاعب الاقتصاد الوطني. قرار الحكومة التريث وتأجيل تعويم الدرهم، الذي كان متوقعا دخوله حيز التنفيذ بداية النصف الثاني من العام الجاري، قرار عاقل وصائب في انتظار تحسن الظرفية الراهنة ووضوح الرؤية حتى تكون هناك ملاءمة للقرار مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي. في الأخير، يجب التنبيه إلى ضعف التواصل الإعلامي الرسمي حول هذا الموضوع الذي لم يقدم للمتابع العادي الشروح الكافية للتغيرات التي قد تطرأ تبعا لتحرير الدرهم؛ وهو ما جعل الكثير من الشائعات تتناسل وتحدث كثيرا من الارتباك، وأحيانا الخوف لدى شريحة واسعة من الناس. * إطار بنكي