"لا يوجد معنى حقيقي في النص"- بول فاليري وأنا أتهيأ لتحرير نص تحليلي ونقدي لأعمال الفنان عبد الإله الناصف، استوقفتني كلمات معبرة وعبارات رقيقة تنم عن فلسفة هو اختارها لتؤطر مساره الفني، ولا أخفي حقيقة كون أعماله لا تبتعد عن "نظرياته"، وعباراته التي ركبها بدقة وفهم لا تخلو هي بدورها من معان هادفة؛ بل إن ما قاله وكتبه يتماهى مع ما خطه ورسمه على "معلقاته". سأسمي أعماله معلقات لكونها لا تشبه اللوحة مفهوما واصطلاحا وجمالية، بل هي معلقات تستمد روحها وروحانيتها من أغوار تقاليد مغربية شكلت على مر الزمن إحدى ركائز ذائقتنا الفنية. يحضرني هنا "الحيطي" بألوانه الناصعة وقماشه القطيفي وشخصيته الراقية. كما أتذكر "الخامية"، ستارة غرف المدينة العتيقة بشفافيتها، حيث تترك الذي بالداخل يرى دون أن يُكشَف. إنها إحدى ميزات المساكن العربية الأصيلة: شفافية المكان تتحد مع شفافية الفرد لتمنح شخصية مضيافة، كريمة، خالية من كل شوائب. تولدت أعمال عبد الإله الناصف عن بحث مستمر وشاق، وإيمان عميق بما تقتضيه التجربة الإبداعية من ممارسة دائمة ومثابرة مستميتة تعطيان للعمل الفني كينونة خاصة تجعله ينفرد ويتقوى ويبدو أصيلا مقارنة مع منافسيه. إنها إبداعات لا كالإبداعات التي ألفنا مشاهدتها، وكيف لا وروحها تنساب من يد فنان مثقف يتميز بحمولة فكرية وجمالية، لا تخلو من هموم جعلته يقفز على ما أصبح تداولا وابتذالا. عبد الإله الناصف خريج المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان، وقبلها المدرسة الوطنية للفنون التقليدية بالمدينة ذاتها، ثم إكمال التكوين الفني بباريس وأخيرا الالتحاق بنيويورك للتدريس والاكتشاف وصقل الذات في محاولة التوفيق بين الأسس القوية للتراث المغربي والثقافة الغربية. هذا التداخل والتزاوج أعطى فنانا معاصرا يشتغل على أسلوب معاصر ليمدنا بأعمال معاصرة، ذات شخصية ثابتة، تجعل المتلقي يعيش الحاضر في الماضي، وتعيد تأسيس الماضي في الحاضر. "بناء جسور فكرية/تركيب بنيوي/شفافية المادة/تكرار الكلمات..." إنها أسس الجمالية التي تنبني عليها معلقات عبد الإله الناصف. أعماله جسور تحمل المتلقي عبر مسافات متجذرة في الثقافة العربية الإسلامية، بفلسفتها وفنونها وآدابها، وكل عمل هو قطعة من لغز «Puzzle» تلك الثقافة، يستحيل الفصل بينها أو عزلها عن بعضها؛ بل يجب جمعها كلية لتكوين رؤية شاملة ذات أبعاد إستيتية لامتناهية، كما يمكن الاكتفاء بجزء واحد من اللغز. في كلتا الحالتين، تطفو شخصية العمل الإبداعي قوية وأصيلة. بسبب هذا كله يتفادى الفنان توقيع أعماله؛ لأنها، في نظره، غير مكتملة، وحينما يوسم العمل بالتوقيع فذلك يعني خاتمة المسار... كيف يمكن هذا والفنان يصرح علانية: "لا أنهي أعمالي" و"أدعو المتلقي للمساهمة"، و"لا أعنون أعمالي لأني لا أريد التأثير على المتلقي". تحيلني هذه العبارات إلى ما كتبه أمبرتو إيكو في "الأثر المفتوح": "يقوم القارئ بتنظيم وبناء الخطاب بالتعاون المادي الكامل مع المؤلف، إنه يسهم في صناعة الأثر... إن كل أثر فني، بالرغم من كونه ضمنيا أو ظاهريا إنتاجا لشعرية الضرورة، يبقى مفتوحا على سلسلة لا متناهية من القراءات الممكنة، وكل قراءة من هذه القراءات تعيد إحياء الأثر وفق منظور أو ذائقة أو تنفيذ شخصي". إن دعوة المتلقي للمساهمة التي يبتغي الفنان هي نوع من نفخ الروح من جديد في أعماله، وبها يتنفس عمله ويحيا، وإن غابت تلك المساهمة، تحققت نهاية محتومة للأثر. إن لمعلقات عبد الإله الناصف سرا مكتوما، ربما مكبوتا "يجب أن نقوم باكتشافه"، كما قال الشاعر ملارمي؛ فعمله لا يطرح أمامنا موضوعا نستمتع بفحواه أو نتلذذ بجماليته. إذا كان الأمر كذلك، فأي جمالية في ألوان أحادية، شاحبة. وأي جمالية عينية (من العين) في أقمشة تتشابه نوعا وكيفا ومقاسا؟ الخطة التي رسم أبعادها الفنان أعتى من كل هذا وأشد، إذ هو لا يبتغي الجمال بمفهومه الأرسطي ولا يكشف عن إيروسية الحياة، ولا يؤسس للأشكال بنسبها التقليدية الأكاديمية، كل هذا تم هضمه وتجاوزه منذ أن أخذ الفنان على عاتقه مسؤولية البحث "في قيم خاصة بالتقاليد والإيمان والتعبد والجمال... والسامي المتعالي"، جماليته تستند إلى الخط متنوع المشارب والأصول وإلى رموز تراثية قوية الدلالة، كاللولب والنجمات الخماسية والسداسية والثمانية... كل منها له مدلولاته وحمولاته الفكرية والثقافية، لا يسع المجال هنا لذكرها. جمع شتات هذه العناصر التراثية ليشكل أنساقا تعبيرية جديدة "تسهم في تصور وإبداع أسلوب فريد ينهل من اعتقادات مختلفة وخيالات روحية". نحن أمام أعمال ذات أبعاد تفوقية Suprématiste، ولا أقصد المرجعية إلى الاتجاه التفوقي الذي أسس له كازيمير مالفيتش. أبدا، بالرغم من التقاسم الروحاني بين هذا وذاك. ما نحن بصدده هنا يكشف عن تفوقية الحساسية الخالصة في الصور الهندسية المجردة من أي تعبير ماضوي؛ لكن حاضرها الآني المرئي يكتسب ميزة مطلقة، "بسبب مضمونه الهائل الكامن في الماضي، في المستقبل وغيره الذي يعلن عنه والذي يخفيه" وفق تعبير مرلوبونتي. * ناقد فني