يقول الناقد الإيطالي جرمانو سيلو أن "الفن يخلق فضاءً فنيا، ونفس الشيء، فإن البيئة تخلق الفن"1، فقد ظلت البيئة خطابا استيتيقيا حاضرا بشكل كبير داخل الأعمال التشكيلية لمجموعة من الفناني، طيلة التاريخ الفني، إذ تناولتها الفنون التشكيلية كموضوع/وأداة، بأساليب وأشكال مختلفة تنوعت من فنان إلى آخر. فالبيئة، بكل أشكالها، كانت -ولا تزال- مصدرا للإلهام لدى فنانين عدة على مر التاريخ... إذ يعتبر "الفن البيئي" طريقة للتعبير من لدن الفنان عبر أعمال لها علاقة مباشرة مع البيئة، التي قد تعتبر مفهوما سياسيا أو تاريخيا أو اجتماعيا... يتخطى "الفن البيئي" اللوحة والتصوير والأدوات التعبيرية التقليدية، ويقترب إلى الإيجاز في المواد المركبة للأثر الفني، الإيجاز باعتباره أقصى الرؤية الجمالية والتوظيفية المبتغاة من لدن الفنان للتعبير عن رؤيته وتمرير خطابه/رسالته. يخبرنا الناقد الأمريكي هال فوستر بكون الأعمال المنجزة داخل هذا التيار الفني "مواد مأخوذة من البيئة لخلق أشكال جديدة أو إعادة توجيه رؤيتنا نحو البيئة؛ مشاريع تشمل مفردات جديدة، غير طبيعية في سيناريو طبيعي؛ (....) إنها ابتكارات مدروسة نابعة من وعي اجتماعي". تأتي الأعمال الأخيرة للفنانة التشكيلية المغربية أسيا جلاب مندرجة بقوة داخل هذه المدرسة الفنية، من حيث طريقة الاشتغال والرؤية والرسالة التي تحملها هذه الأعمال المعروضة ضمن معرضها الأخير "الفن في خدمة الكوكب" برواق "2 مارس" بالدار البيضاء، متزامنة مع ما يعرفه العالم من حراك بيئي لإعادة الرؤية نحو المتغير العالمي... مما يجعل لهذه الأعمال قوة زمنيتها ويمنحها راهنية، إذ أن الفنان "عين زمنه"، وإنه مدعو بالضرورة إلى وضع العالم موضع السؤال داخل قالب فني يطبعه "السحر"، "فالفن ضروري، لكي يستطيع الإنسان أن يفهم العالم ويغيّره، ولكنه ضروري أيضاً بسبب السحر الذي يلازمه"2. فالفنان داخل مدرسة "الفن البيئي" يعمل على إعطاء الموارد الطبيعية شكلا تعبيريا جديدا ومغايرا عبر وسائل سحرية. في معرضها تضعنا أسيا جلاب أمام سؤال البيئة وضرورة إعادة النظر في المشاكل التي يحياها الكائن، كما تضعنا في مواجهة صريحة لما "أنجزه" الإنسان من "تدمير للطبيعة"، إذ في عملها التركيبي الذي عنونت له "لا فشل لا هزيمة" تجعل من لعبة الشطرنج مسرحا "لصراع" الطبيعة ضد المد الصناعي (الطبيعة/الإنسان)، جاعلة المتلقي يجد نفسه خلف "الأشجار" التي عوضت أدوات اللعب، كأني بها تحاول أن تدعوه لتحريكها غاية في "الزحف" ضد المصانع التي وضعتها في الجهة المقابلة، بُغية قلب الرؤية ودعوة لإعادة النظر في واقع اليوم. ولكون "الفن البيئي" "ذو رسالة تعبيرية تهدف لتغيير الذائقة البصرية" وقد جاء متجاوزا للتقاليد التصويرية فإن أعمال هذه الفنانة تأتي داخل هذا المعرض خالية من كل الصباغات الصناعية والمواد الغير طبيعية، مما يعطيها شرعية جماليتها وقوة رؤيتها التي تحملها كل الأعمال التي يمكن تصنيفها ضمن خانة "الإنشاءات الفنية" و"التراكيب الفنية". كما أن تقنية الروسيكلاج (التدوير) لها حضور مائز داخل الأعمال، خاصة في "الإنشاء الفني" الذي اختارت به عنوان "حلم ممكن" حيث عمدت لتدوير الأكياس البلاستيكية ذات اللونين الأزرق والأخضر، على سند خشبي دائري، لتشكيل صورة لقارة إفريقية (المعنية بشدة في قضية المناخ اليوم) خضراء يحيط بها محيط أزرق صاف. بينما في عملها "أنقذوا الأرض" عمدت الفنان جلاب للتعبير عن الأرض المتضررة إلى تضميد الكرة بضمادات طبية بالشكل الكامل كأني بها تحاول إرسال رسالتها التي مفادها أن الأرض في خطر كلي وشامل لدرجة نحتاج لإعادة معالجتها كاملة بحرا وبيئة وجوا.. فغاية هذه المدرسة الفنية، التي تنتمي غليها أعمال أسيا جلاب، جاءت تدعو إلى تغيير عادات الإنسان وسلوكياته من خلال توجيه رسالة فنية تربوية جمالية تحمل طابعاً فكرياً في قالب فني تشكيلي محبب إلى النفس يحفز المتلقي وينمي قدراته. أسيا جلاب المدركة لما يربو إليه وما يحمله هذا التيار من رؤية، تلمّ خاماتها من الطبيعة مباشرة (الأزهار، أوراق الأشجار، خشب، حبوب النباتات، الفحم، الصخر...)، جاعلة منها مفردات تركّب بها إنشاءاتها ومركباتها، التي تأتي متفردة في الاشتغال ومتوحدة في الرؤية والرسالة، التي تجعل من "خطاب البيئة" اليوم وضرورة طرحه داخل قالب استيتيقي يلمس الذائقة والحس الجماهيري، أولوية راهنة، لما يحمله هذا الخطاب من آنية وإلحاح طرحٍ لابد من وضعه موضع سؤال. إذ كان الفن البيئي، الذي يندرج ضمن موجة فنون ما بعد الحداثة، يبتغي بالضرورة تبليغ رسالة أنه كل شيء يمكن أن يكون عمالا فنيا إن أعيد تدويره بشكل فني، فإنه أيضا يحمل رسالة كبرى تجاه البيئة المحيطة بالإنسان... كما هو الحال في أعمال الفنانة التشكيلية المغربية أسيا جلاب (أنقدوا الأرض، كشف أيادي الشر، شتائل هائلة، بصمة خضراء للازدهار...). إن الفن بهذا يعتبر "بمثابة "بديل للحياة" ووسيلة لإعطاء الإنسان توازناً في العالم الذي يحيط به"3. وتيار "الفن البيئي" يبحث بقوة عبر أعمال لفنانين واعين بالشرط الجمالي للعمل، عن هذا التوازن، الذي يصعب الوصول إليه، لهذا تظل الآثار الفنية في تطور مستمر، كما نلمس ذات الحال في الأعمال المعروضة اليوم في معرض الفنانة التشكيلية أسيا جلاب. (Endnotes) 1 G. Celant, Ambiente/Arte, dal futurismo alla body art, Edizioni della Biennale di Venezia, Electa, Milano-Venezia 1976, p. 5. 2 إرنست فيشر، ضرورة الفن، ترجمة د. ميشال سليمان، ص 16. 3 نفسه، ص 7. (ناقد تشكيلي-المغرب)