جددت مراجعة حسن الخطاب، زعيم ما يسمى بخلية "أنصار المهدي"، والمحكوم عليه ب30 سنة سجنا في ملف الإرهاب، النقاش داخل السجون المغربية حول دور المراجعات الفكرية في تقويم مسار الجهاديين بالمغرب. وفي خضم أحداث الثورات العربية وإفراج السلطات المغربية عن بعض المعتقلين السلفيين (190 معتقلا) وبعض المعتقلين في ملف خلية "بلعيرج" (القيادات السياسية)، طرحت وثيقة حسن الخطاب الدولة المغربية أمام خيار "استراتيجي" يمكنها من استثمار ملف المراجعات للقيام بعملية فرز وتصنيف للمعتقلين في قضايا الإرهاب، بحيث يكسب النظام السياسي بالمغرب سياسيا وحقوقيا وإنسانيا ثم أمنيا. وتذهب آراء حقوقيين ومعتقلين سابقين، أفرج عنهم أخيرا، إلى أن من شأن التجاوب العملي مع المراجعات المعلن عنها، وتثمينها بإطلاق سراح أصحابها ومنهم حسن الكتاني (معتقل ب20 سنة) وأبو حفص عبد الوهاب رفيقي (معتقل ب25 سنة)، أن يشجع المئات من السجناء للقيام بخطوات مماثلة تقي المغرب من روائح الملف "الكريهة" سياسيا وحقوقيا. فما هي الوصفات العلاجية لعلاج أمراض السلفية الجهادية؟ ولماذا فشل المغرب في التجاوب مع هذه المراجعات المعلنة؟ اختيارات ثلاثة بعيدا عن الملابسات الدولية لملف محاربة "الإرهاب" والوعي بتشابكه الخفي في مجال التعاون الاستخباري العالمي للمغرب مع حلفائه، تتوزع الوصفات المقترحة لعلاج أمراض ملف السلفية المغربية إلى ثلاثة مداخل: وصفة سياسية: ترتبط بالنظام الحاكم واختياراته في الملف بدرجة أولى، وباقي الأحزاب المؤمنة بالديمقراطية وحق الآخر في اختيارات السياسية والفكرية. والثانية حقوقية: وتهم المنظمات الحقوقية المحلية وتنسيقيات المعتقلين السلفيين، حيث يكون الدافع نحو براءة المعتقلين كونهم مظلومين وضمان المحاكمة العادلة للمتورطين اختيارا ناجحا. والثالثة علمية: وهي مهمة موكولة لعلماء المجالس العلمية وبقية العلماء، ذوي المصداقية العلمية داخل المغرب وخارجه. فالتجارب العربية، التي عرفتها السعودية ومصر واليمن وليبيا، في مداوة أمراض المد التكفيري والجهادي غير المعتقلين، أثبتت نجاحها في تضافر هذه المداخل، وقللت الأضرار المترتبة عن استشرائها، وهي اختيارات جعلت أفراد هذا التيار يتحولون بعد عمليات "ترويض" و "خلخلة" من "كائنات مشوكة" (ذات أشواك) إلى مواطنين صالحين يسعون لمصلحة بلادهم، ويساهمون في بناء نهضتها. فاستيعاب النظام اليمني قبل الثورة الراهنة لسائق "بن لادن" لمدة 15 سنة، جعلت من هذا الرجل فردا عاديا مثل غيره من اليمنيين، في حين تمكن النظام السعودي، رغم كونه المنتج للأزمة والباحث عن حلها، من تغيير قناعات المئات من المنضوين في شبكة الإرهاب إلى مواطنين مسالمين لأهلهم ووطنهم. ومقابل هذه النجاحات الظاهرة في تدبير ملف الإرهاب أو علاج أخطاء وأمراض السلفية الجهادية، أو التكفيرية على وجه أخص، ما يزال الموقف المغربي متذبدبا مكتفيا بمقولة: "يا ما عالجنا قضايا بتركها"، ناسيا أن تبعات التأخر في حل مثل هذه الملفات في ظروف قد تبدو ميسرة لذلك، تجعلها بركانا خامدا يتحين الفرصة لتعود له الحياة. الوصفة العلمية وتعد أفضل وصفة لعلاج الأمراض التصورية للسلفيين من وصفات "الأعشاب" الطبيعية والحبة السوداء، فالفكر الذي يبني قناعاته وتصوراته على فتاوى ونصوص شرعية لا تزعزعه عنها سياط السجون وظلمات زنازينه، بل تجعله يؤمن أنه على حق وأن الذي اعتقله هو "الطاغوت" فعلا، الذي يجب الكفر به حقا. فالخريطة الفكرية التي يتحرك بها أصحاب هذا الفكر تجعل قناعات الأتباع راسخة باعتمادها على نصوص شرعية وفتاوى مشرقية وتراثية (تراث ابن تيمية وسيد قطب خاصة)، مما يفرض تفكيكها لخلخلة قناعات هؤلاء الأتباع بكونها فقط مجرد فهوم واجتهادات نسبية لا علاقة لها بجهاد العدو القريب أو العدو البعيد، أو الكفر بالطاغوت، أو الخروج عن الحاكم، الذي لا يحكم بما أنزل الله.... فكتب مثل: "إسعاد الأخيار في إحياء سنة نحر الكفار"، الذي يبرر سلوك "الزرقاوي" في نحر الكفار، يشفي"صدور المؤمنين" (المعتقلين)، وكتاب "أعذار المتقاعسين" و"المستحيل إذ صار ممكنا"، و"لا تحزن إن الله معنا"، كلها أدبيات مؤسسة للفكر الجهادي والتكفيري، وهي تعد غيضا من فيض من الكتابات المؤطرة لتصورات هذا الفكر. ولذا فعدم التعامل معها رأسا والرد عليها علميا وفقهيا، سيجعل كل حوار مع هذه الشريحة مجرد "صرخة في واد" أو "كالطرشان في الزفة"، كما يجعل "كاريزما" التكفيري مهيمنة عن أي اختيار سلمي وتصالحي لدى هؤلاء الأتباع. وقد حاول المجلس العلمي الأعلى بالمغرب بتنظيمه ندوة علمية حول: "حكم الشرع في دعاوى الإرهاب"، أن يفتح نافذة ضوء لتفكيك هذه الذهنية التكفيرية والجهادية وإعادة تفسير بعض النصوص الشرعية المؤسسة له بمنهج الاعتدال، غير أن "تسييس" توصيات الندوة وعدم متابعتها واقعيا، أو تهيب العلماء أو عدم السماح لهم بمناقشة أصحاب هذا الفكر عطل مفعول الندوة العلمي والمستقبلي. وتجاوزا لهذا الواقع على مستوى المؤسسة الرسمية، فالدولة المغربية بإمكانها تدارك هذا الأمر بإفساح المجال لعلماء ذوي اطلاع على الأدبيات المؤسسة لهذا الفكر، ومن هؤلاء محمد الفيزازي، أو بعض من أعلنوا المراجعات (أبو حفص، الخطاب، العلام) للقيام بمحاضرات أسبوعية داخل السجون للتوعية بفكرة المراجعات وتأهيل غير المتورطين في أعمال عنف لاستيعاب الواقع المغربي والعربي والدولي والعودة التدريجية للتعايش المجتمعي. ويمكن في هذا الصدد الاستفادة من تجربة علماء السعودية ونقاشاتهم داخل السجون، حيث مكنت عملية الفرز بين المعتقلين وعزل السجين الحامل لهذا الفكر في ظروف عيش مغايرة لتأثيرات الاتجاهات المتطرفة والتكفيرية من تحقيق نجاحات معتبرة رغم كون الفكر الموجه للنظام السعودي ممهد لهذه التيارات. الوصفة السياسية أكيد أن الترابط الأمني الوثيق للمغرب وأمريكا أثر على اقتراح أية معالجة سياسية بشكل واضح وعلني لملف السلفية الجهادية بالمغرب، فأمريكا وحلفاؤها يعيشون على وقع توجسات تتحول بين الحين والآخر إلى صدمات من سلوكات هذا "البعبع" المارد، المختفي وراء "اللحى الكثيفة" و "القمصان القصيرة"، مما جعل للحرب على "الإرهاب" مسوغات سياسية تبيح التدخل في كل وقت وحين. فالإشارات المضمنة في بعض البلاغات الرسمية باستعداد المغرب الدائم لمحاربة الإرهاب وانخراطه المستمر في محاربته، أو من خلال تصريحات المعتقلين أنفسهم لمسؤولي التحقيق حول بعض الأسئلة "العابرة" للحدود، لا ينفي هذا الترابط، وإن كان الخوض فيه بدون معطيات موثقة أو تأكيدات رسمية يبقى "رجما" بالغيب ومجرد تكهنات، ربما ستكشف الأيام المقبلة وتحولات الأوضاع السياسية والدولية مدى صحتها. غير أن النظام السياسي بالمغرب، وبعد إعداد الترتيبات اللازمة والمتناسقة مع هذا المعطى، بإمكانه القيام بخطوات "سياسية" لحل الملف بأقل التكاليف، خاصة بعد أن قوبل الإفراج عن محمد الفيزازي، أحد مشايخ هذا التيار، بترحاب حقوقي وسياسي، مكن الرجل من توضيح مواقفه العلمية والسلمية نحو مجموعة من القضايا السياسية بالمغرب، ورسخت صوابية "العفو"، كآلية تعالج أخطاء القضاء والأمن، الناتجة عن صدمة 16 ماي 2003 الأليمة. فالإفراج عن بعض المعتقلين كان إشارة سياسية قوية، جنى منها النظام الحاكم بالمغرب ثلاثة أهداف سياسية مع أغلب الفرقاء: مع المؤيدين لمسلسل الإصلاحات لمرحلة ما بعد الدستور، وأكد أن الاستجابة لمطالب إطلاق سراح المعتقلين، غير المتورطين في الدم، أمر ممكن لطي ملف الإرهاب. مع المدافعين عن حقوق الإنسان على المستوى الدولي: بترسيخ القناعة بالتحولات الجارية بالمغرب نحو الديمقراطية، والتقليل من تقارير حول انتهاكات تمس حقوق الإنسان بالإشارة إلى كونها في طريقها للحل، وأن الأمر يحتاج فقط وقتا. والثالثة تخص البعد الإنساني، إذ مكن العفو والإفراج عائلات المعتقلين ومن يتعاطف معهم في موقف المسالم للنظام الحاكم بكونه عنصر "عدل واستقرار بالبلاد، لا يمكن التفريط فيه، ويدفعهم لإعادة النظر في ما ينعتونه به من ألفاظ مثل: الطاغوت، العدو القريب، المعطل لحكم الله.. أما على مستوى الأحزاب السياسية، فيبدو أنها مرتاحة من ترك الملف بيد الداخلية المغربية، تديره بالرؤية التي تراها، دون الخوض في عش "الدبابير"، تفاديا لتبعاته. وقد يبدو هذا الموقف طبيعيا مع أحزاب تختلف إيديولوجيا مع هذا الطرف من أجل نيل الرضى السياسي الرسمي وتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، لكنه يبقى غير مبرر لدى الفاعل السياسي ذي النزوع الإسلامي (العدالة والتنمية، الاستقلال، حزب النهضة والفضيلة، حزب الأمة، حزب البديل الحضاري...) رغم بعض المواقف الباهتة، التي تمليها اللحظة السياسية. فمن شأن التجاوب مع المراجعات، والقيام بعملية تصنيف للمعتقلين حسب اختياراتهم الموافقة أو الرافضة للمراجعات ومدى حجم "جرائمهم"، أن يمكن أنصار هذه المراجعات بسجون: عكاشة بالدار البيضاء، والسجن المحلي بالقنيطرة وسلا والجديدة، وهم يعدون بالمئات، من التفاعل الإيجابي معها وتحويل السجون إلى "منتديات" لخلخلة القناعات، بدل إبقائهم تحت هيبة شريحة تكفر أصحاب المراجعات وتعتبرهم "قد ارتدوا عن دينهم" أو "ركنوا إلى الطاغوت". الوصفة الحقوقية ويأتي على قائمة مكونات هذه الوصفة مبادرة "منتدى الكرامة لحقوق الإنسان"، التي سماها ب"المقاربة التصالحية" والداعية إلى ضرورة القيام بعملية فرز ما بين المعتقلين في الملف. وهي مبادرة ما تزال تراوح مكانها لعدم تجاوب الدولة معها خشية تحقيق مكاسب حقوقية أو سياسية من وراء تفعيلها أو إثبات نجاعتها. وهو الأمر، الذي أكده رئيس المنتدى الحقوقي "مصطفى الرميد" في تصريحات إعلامية بكون أن جهات داخل الدولة، لم يسمها "تريد أن يبقى الملف مغلقا لخدمة مصالحها والارتزاق به". أما على المستوى الميداني، فنقف عند تحركات "تنسيقيات المعتقلين السلفيين" من خلال الوقفات الاحتجاجية أمام وزارة العدل ومؤسسات حقوق الإنسان الرسمية، فضلا عن تواصلها المكثف مع الجمعيات الحقوقية والمنابر الإعلامية. إلا أن الإشكال الذي تقع فيه هذه التنسيقيات، ومن يساندها من جمعيات حقوقية أخرى، هي كونها لم تتمكن بعد من إدارة التدافع الحقوقي بين خيارين حاسمين في طي الملف: خيار يرى أن الأجدى هو الدفاع عن براءة المعتقل بكونه "بريئا" ومعتقلا ظلما بدون إثباتات مادية تثبت تورطه في أعمال عنف أو دم. والخيار الثاني هو تبرير الاحتجاج بكونه دفاعا عن اختياره الفقهي، أي أنه اعتقل بكونه"سلفيا"، ويغذي هذا المرض أو الخطأ محاولة "عولمة" هذا الاضطهاد دوليا أو عبر الشبكة العنكبوتية أو "الفايسبوك"، فليس مقبولا أن يتم استجداء العفو من السلطات الحاكمة وفي الوقت نفسه يتم نعتها ب"الطاغوت". ويرى قريبون من الملف، فضلوا عدم ذكر أسمائهم، أن بإمكان هذه التنسيقيات والجمعيات الحقوقية الدفع بعنصر البراءة لمن سجن ظلما والمحاكمة العادلة للمتورطين، واعتماد لافتة المراجعات الفكرية كرسائل طمأنة عملية للجهات الرسمية إن هي أرادت فعلا أن تنجح في معاركها الاحتجاجية. تلك كانت وصفات ثلاثة تبقى مطروحة أمام الدولة المغربية والعلماء والجمعيات الحقوقية لعلاج أمراض السلفية الجهادية بالمغرب والنأي بها عن السقوط العملي في التوجهات التكفيرية الدموية، التي لا ترحم حجرا ولا بشرا. http://www.islamonline.net