يُؤرخ الحوار الشهير الذي أجراه الملك محمد السادس مع يومية "إل بايس" الإسبانية في 16 يناير 2005 للتأسيس الرسمي غير المعلن عنه، لمراجعة خيار المقاربة الأمنية في التعامل مع موضوع التيار السلفي الحركي (أو "الجهادي")، ونقصد بذلك المقاربة التي تبنتها العديد من رموز المؤسسة الأمنية في الساحة المغربية آنذاك، وفي مقدمتها بالطبع، الجنرال حميدو لعنيكري، وواضح أن إقرار ملك البلاد، بوقوع انتهاكات حقوقية في حقبة ما بعد اعتداءات الدارالبيضاء الإرهابية يحمل الكثير من الدلالات التي ظلت غائبة أو مُغيبة في قراءة المتتبعين (من باحثين وصحافيين)، ولتبيان مدى أهمية هذا التصريح، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن التصريح/صادر في آن بيت القصيد عن القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية وأمير المؤمنين. يحيل الحديث عن القائد الأعلى للقوات المسلحة، على سمو المؤسسة الأمنية، بينما يحيل الحديث عن أمير المؤمنين على سمو المؤسسة الدينية، وتكمن أهمية هذا الربط بين المؤسستين، في الإسقاط على قلاقل التدبير الأمني والديني لملف "السلفية الجهادية". إشارات ملك البلاد الصريحة في اليومية الإسبانية، مهّدت فيما بعد لإبعاد الجنرال سالف الذكر من تدبير الملف، وترجمت أيضا، مدى قلاقل الطريق الذي توّرط فيها المغرب من خلال تبني خيار المقاربة الأمنية لملف مليء بالألغام والألغاز على صعيد العالم بأسره، وليس في المنطقة المغاربية (يكفي، أنه بعد مرور أكثر من تسع سنوات، لم يتم القبض على أسامة بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة"، ولا أيمن الظواهري، الرجل الثاني في التنظيم، ولو من باب تذكير من يهمهم الأمر أن اعتقال هذين الرمزين، لا يعني نهاية التنظيم أو أفوله، ما دمنا قد أصبحنا اليوم إزاء تنظيم شبكي مُعولم، وصريح في فتح جبهات حرب كونية على الإدارة الأمريكية، وليس بالضرورة الأنظمة العربية والإسلامية، بدليل أن أهم "جبهات الحرب الكونية" تلك، قائمة اليوم في العراق وأفغانستان دون سواهما). زيادة على دلالات الإقرار الملكي في الحوار إياه، مهم جدا تأمل طبيعة الجهاز المفاهيمي للمسؤولين الأمنيين المعنيين بتدبير الملف، بين حقبة ما بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، وبين ما نطلع عليه اليوم. بين أيدينا مثال غني بالمعطيات والخلاصات على التطور النوعي في تدبير الملف، ويُترجم بعض معالم التراجع على المقاربة الأمنية دون التخلي عنها نهائيا طبعا، كما سنتطرق إلى ذلك لاحقا لأسباب بدهية. يتذكر المتتبعون الأخبار التي تداولتها بعض المنابر الإعلامية على هامش التحقيقات التي ميّزت اعتقالات ما بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، ومنها خبر مثير، كان يُترجم مدى تواضع العدة المعرفية للأجهزة الأمنية بخصوص التعامل مع التيار السلفي (في شقيه العلمي/التقليدي أو الحركي/الجهادي)، ومفاده أن أحد المحققين الأمنيين، سأل أحد المعتقلين السلفيين عن معرفة هذا الأخير بابن تيمية، وعن مكان لقاءهما وتفاصيل من هذه الطينة، وقد أكدت هذه القصاصة الإخبارية أننا إزاء جهل مفاهيمي لا يُبشر بُحسن التدبير، وجاءت موجة الاعتقالات وفورتها السابقة واللاحقة لتؤكد هذا المعطى. بعد مرور بضع سنين على هذه "الزلات الأمنية" التي لم تكن بأي حال تُشرف أداء المؤسسة الأمنية، اتجاه باقي المؤسسات الأمنية في المنطقة العربية على الأقل، انتقلنا اليوم، إلى تكوين ضباط ورجال أمن متخصصين في الدراسات الإسلامية، وتوظيفهما في بعض مقتضيات التعامل مع هذا الملف المؤرق، وواضح أن هذا المعطى كان من سابع المستحيلات مغربيا في حقبة ما بعد منعطف 11 شتنبر سيئة الذكر، وأقرب إلى مرتبة "اللامفكر فيه"، إذا استعرنا أحد المفردات العزيزة على الراحل محمد أركون، تغمده الله برحمته. أعطاب المراجعات الأمنية إذا سلّمنا بأن المقاربة الأمنية أثبتت نجاحها في الساحة، وتحديدا خارج أسوار السجون المغربية، فإنه يصعب التسليم بأنها كانت كذلك داخل أسوار السجون، لاعتبارات عدة، يمكن أن نوجزها في معطيين اثنين على الأقل: يبرز المعطى الأول من خلال ظهور حالات العود، وقد يكون أبرزها حالة عبد الفتاح الرايضي؛ الذي فجّر نفسه ليلة 11 مارس 2007 بإحدى مقاهي الإنترنت بالدارالبيضاء، وهو محكوم عليه سابق في اعتداءات 16 ماي، قبل مغادرته السجن لاستفادته من عفو ملكي؛ أما المعطى الثاني، ولا يقل أهمية من وجهة نظرنا، مادام يحيلنا على جدية أو لا جدية صناع القرار في تسوية الملف، فيتعلق بعدم وجود أجوبة مقنعة وصريحة بخصوص "عرقلة" مشروع "المراجعات" في السجون المغربية، والاستفادة من دروس تجارب عربية سابقة في هذا المضمار، (بالرغم من اختلاف الظروف الزمنية والمكانية) ومعلوم أنه في الحالة المصرية مثلا، تميزت موجة "المراجعات" بصدور العديد من المؤلفات المرجعية التي أسست لأدبيات "المراجعات"، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، المؤلفات التالية: "نهر الذكريات: المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية"، ثم "سلسلة تصحيح المفاهيم"، وتضم أربعة كتب: مبادرة إنهاء العنف: رؤية شرعية ونظرة واقعية؛ حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين؛ تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء؛ النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين، وهناك أيضا القيّم الذي يحمل عنوان: "استراتيجية وتفجيرات القاعدة: الأخطاء والأخطار"، ونعتبره أهم ما حُرّر في النقد الفقهي الرصين ضد أدبيات "الجهاديين". مُحق لنا التساؤل عن عدم "قصف" مكتبات السجون المغربية، بمؤلفات من هذه الطينة، زيادة على مؤلفات أخرى ظهرت مؤخرا، وتندرج في نفس خانة "المراجعات"، وصدرت عن "الأب الروحي" السابق لأيمن الظواهري دون سواه: سيد إمام عبد العزيز المعروف بلقب الشيخ فضل ويحمل عنوان "مستقبل الصراع في أفغانستان". (لم يتطرق أي منبر إعلامي مغربي لحيثيات هذا الكتاب القيّم، بما في ذلك المنابر الإعلامية المحسوبة على الحركات الإسلامية، بسبب ثقل حسابات "ساس ويسوس" على الجهاز المفاهيمي لقادة هذه الحركات، وهو ما يُفسر قُرب صناع القرار من التخلي نهائيا على أي أمل لأن تلعب قيادات هذه الحركات الإسلامية (وخاصة حركة "التوحيد والإصلاح")، دورا نوعيا في مشروع "المراجعات"، وقد انتهينا من إنجاز قراءة في هذا العمل، وسوف ننشرها لاحقا لأهميتها القصوى). ويمكن استحضار معطى مرجعي لا زال غائبا في موضوع النهل الفقهي "للجهاديين" المغاربة من الأدبيات الإسلامية الحركية المتشددة، مفاده أن أغلب معالم هذا النهل تمّت من مراجع مشرقية بالدرجة الأولى (على غرار نهل الحركات الإسلامية "المعتدلة" من المراجع المشرقية من أجل تأصيل المشاركة في اللعبة السياسية)، وبَدَهي أنه كان من الأولى ترويج أدبيات "المراجعات" المشرقية (المصرية على الخصوص، مع مراجعات "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد"، في أورقة ورفوف مكتبات السجون المغربية، من باب تشجيع "مراجعات" المعتقلين الإسلاميين في المغرب. توقفنا عند نموذجين اثنين من بعض أعطاب "مراجعات" المقاربة الأمنية، وآن الأوان للتوقف عند بعض أعطاب "مراجعات" المعتقلين الإسلاميين. أعطاب "مراجعات" المعتقلين الإسلاميين يمكن التأريخ لأولى محطات هذه "المراجعات" في نسختها المغربية مع مبادرة على العلام، أحد رموز الجيل الأول من "الأفغان المغاربة"، عندما دعا إلى تأسيس تيار "السلفية الحركية"، تأسيسا على "قاعدة المصالح والمفاسد، ومراعاة السياسة الشرعية، وضرورة استحضار خصوصية الزمان والمكان والإنسان المغربي"، مضيفا أن اختيارات التيار الجديد "تُتيح الفرصة للدولة كي تقوم اعوجاج سياستها وتعيد النظر في مقاربتها الأمنية، وكذلك تتيح الفرصة للمعتقلين بالتصحيح والتصويب وبمراجعة ما يستدعي المراجعة، والنقد الذاتي يتيح إعادة ترتيب الأفكار والتحركات حسب الأولويات". ويُحسب لعلي العلام أنه راسل المسؤولين في السجون المغربية بخصوص ملف المراجعات، كما طالب بالسماح بإدخال جريدة الشرق الأوسط اللندنية لأنها كانت تنشر حلقات "مراجعات" الجماعة الإسلامية، وطلب أيضا بإدخال كتاب "تفجيرات القاعدة: الأخطاء والأخطار"، (سالف الذكر) واعتبره "كتابا منصفا، لأنه أهم رد قامت به حركة إسلامية ضد القاعدة، وإن كان يُؤخَذُ منه ويُردُّ، لكنه كتاب مهم وقد أحدث رَجَّة وزعزع الكثير من المعتقدات لدى المعتقلين الإسلاميين"، مضيفا أن "أغلب المعتقلين الإسلاميين مما يسمى "السلفية الجهادية"، يرفضون سياسات القاعدة وتهديداتها ضد الدول العربية والإسلامية، وهذا يمس أيضا مواقف أبو حفص والكتاني والفزازي". (صدرت هذه التصريحات في منابر إعلامية مغربية في غضون شهر مارس 2007) ولأهمية مراجعات العلام، فقد حرّر بعض المعتقلين الإسلاميين في السجون المغربية، رسالة موجهة إلى حكومة الوزير الأول عباس الفاسي، في منتصف الشهر الجاري (شتنبر 2010)، يدافعون من خلالها عن الرجل، وتميزت الرسالة بتوقيع حوالي "29 أميرا" من "أمراء" المعتقلين الإسلاميين، لأن يتحدث باسمهم مع السلطات في معرض تقييم وترويج مشروع مراجعات علي العلام. (أشرف العلام أيضا على تحرير مبحث يمكن اعتباره بالمرجعي في موضوع "المراجعات"، ويحمل عنوان: "سلسلة قراءة في العقل السلفي الجهادي"، (وثيقة غير منشورة، حصلنا عليها من مؤلفها، ونشرت بعض موادها في مواقع إلكترونية، منها هذا الموقع)، وتتضمن مجموعة من المقالات الهامة، نذكر منها على وجه الخصوص الدراسات والمقالات التالية: "لماذا المراجعات الفكرية؟"، "ماذا يجب على الدولة المغربية تجاه السلفية الجهادية كفكر داخل السجون وخارجه"، "إعتقال العقل السلفي الجهادي.. فضيحة لا يطويها النسيان"، "لا تجهضوا مراجعات السلفية الجهادية بالمغرب"، "السلفية الجهادية وقطرة مداد"، "رفع من مستوى التحليل للسلفية الجهادية"..) بالطبع، برزت فيما بعد، مراجعات عبد الوهاب رفيقي (الملقب بأبي حفص)، والذي وجّه نداءا إلى "شباب الأمة" من المعتقلين السلفيين، يحثهم على إدانة الأعمال التخريبية عقب أحداث 11 مارس 2007، وهو النداء الذي شككت في جديته وجرأته بعض الأقلام الإعلامية المقربة من الدوائر الأمنية، مما مهّد لصدور بيان مطول ومؤرخ شهر بالضبط بعد تاريخ اعتداءات 11 مارس، أكد فيه مجددا على إدانته للاعتداءات الثانية "إدانة صريحة واضحة لا تقبل التأويل ولا التورية أو التعريض"، ومؤكدا على "تجريم هذه الأعمال، شرعا وعقلا، لما فيها من الاستهانة بأرواح المعصومين ودمائهم، والخوض فيها بغير حق، وقد علم ما جاء في الشريعة من تعظيم شأن الدماء، والتحذير من الوقوع فيها"، كما نقرأ في ذات البيان: "استعدادي لمراجعة نفسي في كل ما أثبت علماء الشريعة بطلانه، أطالب الجميع بالركون إلى الحق، وإحسان الظن"، و"إني أملك كل الشجاعة بحمد الله - لأقرر أن تجربتي الدعوية المتواضعة شابتها جملة من الأخطاء، لأنها عمل بشري مجرد عن العصمة، خاصة مع ما رافقها من حماسة الشباب وقوة العاطفة وفوران الغيرة مما أوقعها في مسالك ضيقة وأخطاء قاتلة". (كما جاء في بيان حرّره محمد عبد الوهاب رفيقي، بالسجن المحلي بوركايز بفاس، بتاريخ أبريل 2007، وأضاف أبو حفص في ذات البيان: "لقد زعم البعض أني سلكت مسلك التقية، وما علم الزاعم أني رجل من أهل السنة والجماعة، ولم أكن يوما شيعيا يجعل التقية مرتكزا من مرتكزات فكره)، دون الحديث عن وثيقة "أنصفونا" التي حرّرها عبد الوهاب رفيقي ربيع السنة الجارية. مطلوب أيضا إضافة "مراجعات" حسن الخطاب، المدان بتهمة تزعم خلية "أنصار المهدي"، التي تورط فيها مسؤولون في الأمن والجيش، حيث أعلن عن تبني مبادرة تحمل شعار "المناصحة والمصالحة"، وتعهد الموقعون على نسخته من "المراجعات" على "عدم تكفير المجتمع والمسلمين بغير موجب شرعي"، كما أنه يعمل على تحرير تأصيل لتيار "السلفية الجهادية". هناك عطب يكاد يكون بنيويا في تعامل أغلب المعتقلين الإسلاميين مع مبادرات/"مراجعات" علي العلام وعبد الوهاب رفيقي وحسن الخطاب، ويرتبط بتشتت رؤى وتوجهات هؤلاء، في ظل غياب مراجع علمية مُجمع على أهليتها لقيادة تيار عريض في السجون يُروج ويُناقش ويُشجع قنوات وتبعات خيار "المراجعات"، وما يزيد الأمور تعقيدا، وما يُكرس ويُغذي هذا العطب البنيوي، أن أغلب "المشايخ" الذي تراهن عليهم السلطة (صناع قرار وأجهزة أمنية) من أجل التسريع بتسوية الملف، وإذا استثنينا نوعا ما حالة محمد الفيزازي وبدرجة أقل عمر الحدوشي، فإن الأمر يتعلق بطالبي علم وليس بعلماء مرجعيين (نتحدث هنا من منظور "شرعي صرف"، يفهمه جيدا أغلب المعتقلين الإسلاميين)؛ بمعنى آخر، حتى لو سلّمنا بأن صناع القرار والأجهزة الأمنية تراجعوا بالكلية عن إعادة سيناريو أخطاء الماضي وأنهم تجاوزا بعض أعطاب "مراجعات" المقاربة الأمنية، فإن بقاء هذا العطب "البنيوي" يُساهم في إطالة عمر الملف مفتوحا، ومن هنا، أهمية تشجيع مبادرة رسالة منتصف الشهر الجاري الموقعة من بعض "الأمراء"، ونتحدث مُجددا عن طلاب علم، حتى لا يعتقد الأمر أن الأمر يتعلق ب"أمراء" أو "مشايخ" أو "مراجع" فقهية لا يأتيها الباطل من هنا أو هناك، لولا أنه يُحسب لكل "أمير" من هؤلاء، ضبط والتحكم في قرارات وخيارات مجموعات نوعية من المعتقلين، كأن يكون "الأمير"، كذلك على بضع أفراد أو مجموعات.. أو قطرات.. قد يكون أول غيث تسوية ملف المعتقلين الإسلاميين، قطرة من هذه القطرات، شرط تجاوز أعطاب "مراجعات" المقاربة الأمنية، (مجرد الحديث عن مراجعات في المقاربة يعتبر مكسبا حقوقيا في حد ذاته)، و"مراجعات" المعتقلين الإسلاميين (ومجرد الحديث عن مراجعات المعتقلين الإسلاميين، لا يقل أهمية في الدلالات والقطرات..)