"السمك" هو أساسا ما أفاض الكأس..إنه ثروة الأرض ومن عليها..كان ينظر إليه الحسيميون على أنه سبب تهميشهم وعزلهم عن تدبير ثروة بلادهم..كانوا يرون الغرباء عن إثنيتهم وترابهم ينهبون هذه الثروة، ويستأثرون بها هنيئا مريئا...وحينما تقرب منها مواطنهم الريفي "محسن" انسحق، فشعروا بالظلم والمهانة والاحتقار... لقد سطا الاستغلال بشتى أشكاله على البلاد والعباد...ومعروف أن سيكولوجيا الريفيين حادة، وذات رواسب تنتظر إشعال الفتيل لتنفجر..فالاحتقان بالغ..حتى القليل من السمك في يد أحدهم محرم عليهم مسه والتقرب منه..وأخطر ما في الشعوب الصامتة لأنفتها هو صمت يغلي مرجله، دون أن يعلن عن نفسه إلى حين...لكن لو كان هذا السمك محررا من قبضة الريع والفساد والاحتكار لانطلقت تنمية الإقليم تلقائيا..إن المحتجين لا يطلبون الإحسان إليهم، لكن يلحون على رفع الحيف عنهم. أما أخطر عود ثقاب أشعل غابة كانت وراء شجرة تخفيها هو حدث "البلوكاج" الذي كان مناورة مكيدة للانقلاب على الشرعية الديمقراطية، بشكل استغفل واستبلد الشعب المغربي الذي كان يأمل التغيير عبر نخب جديدة..وكل الحكاية وما فيها أنه كانت هناك أول حكومة منتخبة بديمقراطية جدية، كتجربة فريدة من نوعها، بعد دستور 2011..ولأول مرة عمل الجميع، بحماس وطموح، من أجل ترسيخ الوعي بالتجربة الديمقراطية، إذ تم فضح الريع جهرا، كما فتح الباب على مصراعيه لتصالح المواطنين مع هذا الوعي السياسي الجديد... ومرت الولاية الخماسية لهذه الحكومة بكثير من التعثرات المعيقة للمسار الجاد في تناول قضايا الشعب الملحة..ومن فرط التخوف على المصالح الشخصية، الفردية منها والفئوية النافذة في البلاد، جيء بصخرة مضخمة انسد بها ممر الإصلاحات الديمقراطية..إنها العودة الفجة إلى التحكم بنهج رديء، أي "البلوكاج"، دون اعتبار لتطلعات القاعدة الشعبية، وبانتكاسة لبعض المؤسسات الحزبية التي كممت أفواهها وحصرت في مقاعدها..هكذا إذن قطع الأمل في التغيير، ثم بلغ الغضب أوجه بعد فرض حكومة مصطنعة ومفبركة وهجينة، لا يرجى منها أي طائل.. وقد كانت الحسيمة هي التي تجسد فيها الاحتقار، واكتملت "الحكرة" لديها وللشعب، الذي عاد مرتدا عن السياسة مرة أخرى، وفقد الثقة كليا في مؤسسات الدولة... وهكذا اتضح جليا أن الداء الذي يعاني منه الوطن هو الاستهانة بالمسؤوليات، وهضم مكتسبات وأحلام الشعب بمعاول الهدم الريعي والفساد السياسي والمالي... ماذا يضير لو طالبت الدولة بتعيين لجنة من المحتجين تجلس مع ممثليها للتراضي، بحس راق ومتحضر، ينم عن جدية في النوايا للعمل من أجل طي هذا الملف الذي تحول بفعل المقاربة الأمنية المضخمة إلى صراع بالفر والكر والمزيد من الاحتقان، والتراشق بالاتهامات على شاكلة حديث "الصم"..؟ فلا مجال هنا لحالة غالب ومغلوب.. بل يجب أن تبسط تفاهمات، تغلب الوطن على التنافر بين مكوناته، وبين القاعدة والقمة، بشكل سلس يعطي الاعتبار للجميع...كلنا مواطنون ببطاقة هوية من وطننا، لا من فيها لأحد على الآخر.. فلا فرق بين وظيفة سامية وعطالة شغل، أو بين حقيبة مليئة وخف خاوي الوفاض، إلا بالمواطنة وحدها.. فحذار من حديث الصم.. يجب الإصغاء إلى نبض الشارع، والعمل على تقصي أسباب كل احتجاج ..وما تمت هيكلة الديمقراطية في بلادنا إلا لخدمة الشعب بعناية ومسؤولية دون تلكؤ...فالوطن أولا وأخيرا، لأنه في حاجة إلى الجميع.