ماذا يحدث بالريف في الآونة الأخيرة؟ وكيف يمكن قراءة الأحداث المتسارعة التي تشهدها هذه المنطقة؟ ما هي بواعث عودة حالة الاحتقان من جديد؟ هل هناك جهة/ جهات ما تغذي الصراع المحموم الذي يطبع الريف؟ ومن هو الطرف المستفيد مما حدث ويحدث؟ هل الأمر له علاقة بنوع من الردة بعد أن كانت الدولة قد دخلت مسلسل “المصالحة” مع الريف و”دفن” الماضي الأليم؟.. هذه جملة من الأسئلة التي تطرح ونحن نتتبع شريط الأحداث المتواصلة عبر سيناريو أقرب ما يكون إلى الوقائع التي شهدتها المنطقة خلال أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وكأن التاريخ يعيد نفسه! فبعد حصول المغرب على الاستقلال الشكلي سنة 1956، تنامت وتيرة المطالب المشروعة للمغاربة في العديد من المناطق، كالجنوب الشرقي، الأطلس المتوسط، والريف أساسا من خلال ما يعرف ب “ثورة الجلاء” ل 1958/1959. لكن تعامل الدولة آنذاك، وبدل الاستماع لصوت هذه الهوامش، أصرت على تعميق الجرح وراحت تنسج المؤامرات وراء المؤامرات، فكان ذلك باعثا على ظهور مزيد من الانتفاضات والاضطرابات التي لم يحسن المسؤولين التعامل معها، فكان قمع وسحق هذه الحركات هو اللغة الوحيدة التي سادت آنذاك، فكان ما كان من تبعات سياسة الأذان الصماء والكيل بمكيالين وكاد المغرب أن يتيه وسط أحداث ومنزلقات وخيمة العواقب، وأدى المغاربة عقب ذلك فاتورة غالية. اليوم، وبعد مضي أزيد من نصف قرن على هذه الأحداث، وبعد أن أصبح الاعتقاد بأن ذلك الزمن قد ولى، وأن كل جهة يمكن أن تنال حقها، وأن الدولة بمختلف مؤسساتها وأجهزتها قد استفادت من دروس الماضي، فقد بدا من جديد أن سيناريوهات الأمس تعيد نفسها، وأن منطلقات وثوابت التعامل مع الريف هي نفسها التي ظلت قائمة منذ عقود من الزمان، وأن نفس العقليات والملابسات تؤثث المشاهد الخطيرة التي نعيشها باستمرار، وما الأحداث الأخيرة- اعتقالات، محاكمات، قمع واستعمال العنف والقوة وتسييد المقاربة الأمنية- التي تسجل على صعيد الكثير من مناطق وقرى الريف، لاسيما بأيت بوعياش، إمزورن، وبوكيدان، وتازة، والناظور.. هو الدليل والمؤشر على عودة الاحتقان والتوتر من جديد، الأمر الذي سينعكس من دون شك على علاقة الريف والريفيون بالدولة المركزية، في غياب مقاربة ومعالجة جذرية لتراكمات الماضي ومشاكل الحاضر. إن هذا الواقع الماثل أمامنا أقرب ما يكون إلى صورة الأم التي تأكل أبناءها، فلا الحكومة تحركت ولا المسؤولون يحسنون الإنصات وحل المشاكل والاستجابة للمطالب، ولا المجالس لها القدرة على التعبير عن حاجيات المواطن، ولا السياسيون والحزبيون يلعبون دورهم… وحدهم أبناء الشعب يناضلون من أجل كرامتهم، وما حدث مؤخرا يكاد يقطع شعرة معاوية بين هؤلاء وأولئك، وليس من السهولة الاستهانة بهذا الأمر، لأنه يعيد عقارب الساعة إلى الصفر ويضرب في العمق جملة الشعارات المرتبطة بالإصلاح والتغيير والتنمية والمصالحة ومحاربة الفساد… الأمر الذي سيكون له وقعه الخاص وتداعياته المستقبلية في ظل اعتماد الدولة على المقاربة الأحادية، في غياب معالجة حقيقية لمشاكل التشغيل والغلاء والسكن وتدهور الخدمات العمومية والظروف الاقتصادية والاجتماعية… وهو ما يؤسس حتما لبواعث وشروط عودة شبح الأحداث الجماعية، التي لا تحسن الدولة التعامل معها إلا بمنطق الردع والقوة والسحق باسم مقولة “هيبة الدولة” و”إعمال القانون” و”حفظ الأمن”… منطق يظهر وكأن الدولة غير راشدة. ليس بالقمع وحده يعيش الإنسان، وليس بالقوة وحدها تعالج المشاكل، وليست الدولة النموذجية ودولة المواطنة الحقة، هي تلك التي تحسن أشكال الردع فقط، نموذج الدولة التي قال بخصوصها الحكيم عبد النبي أنه بمقدوره أن يصنع منها سبعة.. وهو الذي خبر أسرار فترة تاريخية جد حساسة أقرب ما تكون إلى الوضع الراهن، وما نراه اليوم ورأيناه من قبل لا يولد إلا رد فعل سيكون مشروعا مهما كانت طبيعته مادام أن الأمر مفروض وخيار ليس أمام أصحابه إلا الأخذ به وقد تراكمت وتعددت أشكال التهميش والإقصاء ومظاهر الانتقاء والريع السياسي من جهة، واستمرار جعل الريف الكبير ورقة ورهان سياسي لتصفية الحسابات من جهة أخرى، وهو أخطر منطق يمكن التعامل به مع أهل المنطقة بعيدا عن منحهم كل الإمكانيات المادية والوسائل المؤسساتية والقانونية والآليات السياسية الممكنة لتدبير شؤونهم وتسيير/تدبير مجالهم في إطار نموذج دولة فيدرالية وديمقراطية تحترم إرادة السكان في تقرير مصيرهم السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي… وهو السيناريو الذي كان ممكن التحقق منذ السنوات الأولى لما بعد 1956، لكن تم إجهاضه بنفس الطريقة التي تدبر به الدولة الآن هذا الظرف وهذه الاحتجاجات ومطالب الساكنة. فهل ستعي الدولة هذه المرة دروس الماضي والحاضر، أم أنها ستمضي فيما دأبت على المضي عليه وسيكون الثمن باهظا أكثر. إن الحكمة والمسؤولية لا تقتضي التعامل الأمني الأجوف مع ما يحدث، حتى لا يتحول الريف إلى بؤرة توتر دائمة، وقد بدأت العديد من مؤشرات ذلك تطفو على السطح، ولا أدل على ذلك الإهمال الفظيع الذي تعيشه الساكنة حتى أن لا أحد من المسؤولين لم يحرك ساكنا ولا أحد منهم عمل في اتجاه إخماد نيران الغضب والاحتجاج، وكأن هؤلاء المواطنون هم من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة وأن مطالبهم مستحيلة التحقق. الريف على الدوام منطقة يتداخل في أحداثها السياسي بالتاريخي بالحقوقي… لكن الدولة لا تأخذ من ذلك إلا ما تشاء، ولا تعطي منه إلا ما تريد، رغم أن قوة الوقع أقوى من قوة الإرادة. وهكذا يبدو أن هذه الدولة وأجهزتها لم تستخلص بعد الدروس السياسية والتاريخية، في مقابل إصرارها على إعطاء الدروس الأمنية، وهذه طبيعة الدولة المخزنية، مثلما هم أهل الريف بطبيعتهم وطابعهم وتطبعهم. فهل سيرفع القائمون على شؤوننا يد التسلط، ويكون الوطن متسعا للجميع نتقاسم فيه السلطة والثروة والقيم والانتماء؟