الجناح البلانكي منذ فجر الاستقلال ترسخت النزعة الجمهورية في صفوف الجناح البلانكي، كتيار الفقيه البصري في صفوف الاتحاديين، الذي تلقى ضربات قاسية في بداية السبعينيات، جعلته يعيش مأزقا تاكتيكيا واستراتيجيا. وقد رأى الجل المحللين السياسيين، غير المناهضين لهذا الجناح، أن أصحابه ارتكبوا أخطاءا عسكرية ولم يتوفقوا في اختيار الشروط السياسية المناسبة لانطلاق خطتهم، لاسيما اعتمادهم النهج التآمري المغامر. فقد تمكنت بعض شبكات هذا الجناح من انجاز بعض العمليات لكن سرعان ما اصطادتها المخابرات البوليسية، وهكذا كان الحال في 1963 ونهاية الستينيات وغشت 1972. وخلال هذه المرحلة تم اعتماد خط تآمري، اتخذ شكل البحث عن الانقلاب أو تنظيم شبكات تقنية مسلحة لقلب النظام بالمغرب، وذلك مع استمرار المراهنة على خلق طرف ثوري من شأنه جر الجماهير إلى معمعة النظام لإسقاط النظام الملكي وإقامة نظام جمهوري، أو المراهنة على انفجار تناقضات في صفوف الجيش، في شكل انضمام قوات الجيش الملكي إلى المجموعة المقاتلة. وقد نشرت عدة صحف مستقلة بالمغرب معلومات عن التقارب الذي كان حاصلا بين الجنرال محمد أوفقير، صنيع الاستعمار والمخابرات وخادمهما، وبعض قادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك بخصوص قلب النظام الملكي وتعويضه بنظام جمهوري. وكان ذلك في وقت أيقن فيه قادة الحزب أن النظام الملكي وصل إلى نقطة اللارجوع ولم يعد ينفع معه إلا التنحية. آنذاك رأى العسكريون أنه لابد من ملء الفراغ السياسي الذي أضحت تعيشه البلاد. ولكن أحمد رامي، وهو أحد القريبين من الجنرال محمد أوفقير وأحد المساهمين في انقلاب الصخيرات، ظل ينفي أي علاقة بين الاتحاديين والانقلابيين، وذلك بالرغم من أن كل من الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي – حسب قوله – ظلا يفهمانه أنهما على استعداد لدعم ومساندة الجيش، معتقدين أنه (أحمد رامي) مازال على علاقة بالجيش رغم فراره إلى الخارج. النزعة الجمهورية عند اليساريين (الحركة الماركسية اللينينية) في نهاية الستينيات وفجر السبعينيات ظهرت تنظيمات ماركسية لينينية، لاسيما في صفوف الطلبة والشبيبة المدرسية، تحكمت بقوة في الحركة الطلابية التي لعبت دورا حيويا في النظام العام من أجل التغيير الجذري. في السبعينيات كانت فصائل الحركة الماركسية اللينينية تتبنى خيار الحرب الشعبية كطريق للثورة للاستيلاء على الأرض، وتأسيس الكتائب الأولى للجيش الأحمر المغربي على شكل قواعد حمراء متحركة، لتجنب سرعة تدخل قوات القمع وتوسيع النظام الجماهيري الحضري، وفي المرحلة الموالية الوصول إلى إنشاء مناطق محررة لإعلان جمهورية مجالس العمال والفلاحين. وانطلاقا من هذه المناطق المحررة سيكون العمل على توسيع جبهة الكفاح إلى حد الوصول إلى معركة تحرر وطني قد يشمل منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي. هكذا كان حلم الماركسيين اللينينيين المغاربة على امتداد السبعينيات والثمانينيات من أجل إقامة الجمهورية الديمقراطية الشعبية. وظل اقتناع الماركسيين اللينينيين قائما بخصوص بناء التنظيم المستقل للطبقة العاملة وعموم الكادحين، وتبوئه لقيادة حركة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، بواسطة جبهة الطبقات الشعبية، لأنه يشكل الضمانة الوحيدة لتحقيق المهام المرحلية وضمان الانفتاح على الأفق الاشتراكي. وظل الهدف الأسمى، بالنسبة لهم، هو إقامة نظام اشتراكي، أما الهدف المرحلي فيتمثل في بناء المجتمع الديمقراطي. النزعة الجمهورية الإسلامية ظهرت النزعة الجمهورية الإسلامية بالمغرب مع نشأة الإسلام السياسي، في بداية السبعينيات، خلال بزوغ حركة "الشبيبة الإسلامية" التي تبنت في انطلاقتها فكر "الإخوان المسلمين"، علما أن مهمتها آنذاك حددت في مواجهة النفوذ الكبير للحركة الماركسية الينينية واليسار الجذري، بمباركة النظام السياسي وأجهزته البوليسية، إلا أن عدة عوامل أدت إلى تفريخ هذه الحركة من محتواها الثوري عبر انقسامها إلى عدة تيارات وتوجهات متباينة، لاسيما بعد اغتيال عمر بن جلون. سبق للحركة الإسلامية أن أعلنت شعار "القرآن دستوريا"، أي الإسلام المرفوع إلى مرتبة المبدأ المطلق الذي يخضع له كل مطلب وكل نظام وكل إصلاح وكل تغيير مرتقب، بمعنى آخر الرغبة في العودة إلى الإسلام. ففي البداية كانت مكونات الحركة الإسلامية ترى أن الحكام المسلمين طواغيت، وجب الجهاد ضدهم. آنذاك تباينت تمظهرات النزعة الجمهورية في صفوف الإسلاميين بين الجموح إلى إقامة جمهورية إسلامية والاستقراء بالقوة (النظام القائم) لمواجهة الخصوم مع المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة. وهذا التباين حكمه الاختلاف في فهم مضمون الإسلام، إذ هناك من يقبل بالاجتهاد في حدود، ومن يطالب بالحاكمية (الشريعة لله وحده وبالتالي فالسلطة تستمد مصدرها من الشريعة وليس من الشعب). ومما ساهم في تأجج النزعة الجمهورية الإسلامية مواجهة النظام للتيارات الإسلامية بالقمع الشرس منذ فجر الثمانينيات. ويبدو أن النزعة الجمهورية الإسلامية ظهرت بجلاء عندما شرعت جملة من الاتجاهات في المناداة بإسقاط الطاغوت، وبالجمهورية الإسلامية، ترديدا لجملة من الشعارات المبلورة انطلاقا من تداعيات وتأثيرات الثورة الإيرانية وكتابات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي... لكن سرعان ما تعرض أكثرها للتخبط والتأرجح والتقلب. ويكاد يجمع المحللون أن من بين الأسباب الرئيسية التي رسخت النزعة الجمهورية الإسلامية، في صفوف الكثير من التيارات الإسلامية، القمع الموجه للحركة نفسها حينما بدأت تتجاوز الدور المرسوم لها وزج العديد من أفرادها في السجون، وبموازاة مع ذلك ركز النظام على الطابع الإسلامي للدولة وعلى دوره في حماية الإسلام. بعد المصادقة على قانون الإرهاب، وفي غضون شهر مايو 2004، تم توزيع بيانات ومناشورات تهاجم بعنف المجتمع المغربي وبعض زعمائه والقائمين على الأمور ويصفهم ب "المارقين والمرتدين"، ويطالب بوجوب الجهاد من أجل تغيير الوضع والعمل على إحلال شريعة الله بدل من "القانون الكافر". ويرى هؤلاء الجمهوريين الإسلاميين أن لا سبيل لتغيير هذا الواقع إلا بإقامة جمهورية إسلامية قوامها وشريعتها الإسلام في مختلف مجالات حياة المواطن. ويرى الكثيرون في النزعة الجمهورية الإسلامية أنها تتبنى تصورا جمهوريا يحكمه الفقهاء ورجال الدين. النزعة الجمهورية الأمازيغية بدأت تظهر هنا وهناك أفكار توحي بالنزعة الجمهورية الأمازيغية، كما أنه في جملة من اللقاءات راجت فكرة مشروع مجتمعي يتوق لجمهورية أمازيغية. ويرى الكثير أن النزعة الجمهورية الأمازيغية مطبوعة بالتطرف والشوفينية، وبعض أصحاب هذه النزعة انتقلوا من بناء تصور مجتمع يحتل فيه الأمازيغ الدور الريادي، وتتمكن فيه اللغة الأمازيغية من أن تتبوأ المكانة الأولى، إلى مستوى الترويج لنوع من الحقد والكره والرفض لكل ما هو غير أمازيغي، وهنا يكمن الخطر البين. وإذا سرنا إلى نهاية التصور، فسنصل منطقيا إلى ضرورة إعادة كتابة التاريخ المغربي قصد تخليصه من التزوير العربي – حسب تعبير أصحاب هذه النزعة – والذين يرون أن الإسلام لم يكن ولا زال – في نظرهم – إلا سبيلا من سبل الهيمنة العربية، وبالتالي فهم يطالبون بإصلاح ما أفسده العرب، هكذا يفكر ذوو النزعة الجمهورية الأمازيغيون. ندية ياسين بغض النظر عن تداعيات تصريحاتها التي أقامت الدنيا وأقعدتها، واستدعت محاكمتها، وتدخلت واشنطن فتم تعليق ملف القضية بين السماء والأرض، مما دفع الكثير للتساؤل هل ندية ياسين، نجلة مرشد جماعة العدل والإحسان، جمهورية وذات نزعة جمهورية؟ صرحت ندية ياسين أنها تفضل العمل بنظام جمهوري بالمغرب بدلا من النظام الملكي، وقد سبقها للتصريح بذلك علانية وفي واضحة النهار عبد الله زعزع ولم يحرك أي طرف ساكنا، فهل مرد ذلك أن هذا الشخص فرد، والأولى وراءها جماعة متجذرة في أوسع فئات الشعب المغربي؟ ومن المعلوم أنه عند إعلانها عن موقفها، بخصوص تفضيل النظام الجمهوري، لم تساندها أي جهة، باستثناء الموقف الذي تبناه الأمير هشام الذي اعتبر محاكمتها ذات علاقة بحرية التعبير، مؤكدا على تمسكه بثوابت النظام المغربي. بعد التداعيات التي أثارها تصريح ندية ياسين اعتبرت هذه الأخيرة أن النظام الجمهوري أقرب لما تتصوره أكاديميا، كنموذج ونهج للحكم وممارسة السلطة، هذا مع التأكيد أنها لا تدعو إلى تغيير نظام بآخر، إلا أن قناعتها تكمن في كون نظام الشورى يعتمد على الاختيار الكامل للشعب المغربي حتى يكون اختياره مبنيا على أسس سليمة، وآنذاك إن اختار الملكية فله ذلك، لأنه من المفروض أن يكون هو صاحب الكلمة الأخيرة. وصرحت ندية ياسين متسائلة: "هل من الضروري أن نبقى متشبتين بالملكية إلى يوم القيامة؟" فمفهوم ندية ياسين للنظام السياسي يرتكز بالأساس على الشورى. وما دامت كل السلطات متمركزة بيد الملك والمؤسسة الملكية، فإن هذا الوضع يحول دون تنفيذ نظام الشورى. وترى ندية ياسين أن "وظيفة الملك وليس شخصه" والسياسة المتبعة، تسببت في شل البلاد اقتصاديا واجتماعيا مما ترتب عن ذلك مآسي ذاقت وبالها أغلب فئات ساكنة المغرب. ويبدو أنه بقدر ما كانت آراء ندية ياسين السياسية بخصوص المؤسسة الملكية راديكالية، بقدر ما كان موقفها من قضايا المرأة متحررة من وجهة نظر الإسلاميين المتشددين. وعموما، دأبت جماعة العدل والإحسان على المطالبة والدفاع من أجل إقامة دولة إسلامية ترتكز على الشورى كنهج لتدبير الأمور. سلام أمزيان زعيم الانتفاضة الريفية بعد الاستقلال بعد الاستقلال شعر أهالي الريف أن منطقتهم حكم عليها بالإقصاء والتهميش بالرغم من أنها ظلت أرض الكفاح والمقاومة بامتياز، لقد اعتبر الريفيون أنهم مقصييون من دوائر صناعة القرار التي احتكرها خونة الأمس وأبناؤهم وعملاء الاستعمار. انتفض أهالي الريف وارتبط اسم سلام أزيان بهذه الانتفاضة في نهاية الخمسينيات. تزعم الانتفاضة ودعا في البداية إلى الصعود إلى الجبال وعدم التعامل مع المخزن والاستمرار في العصيان المدني، ثم عمل على تنظيم الصفوف وأعلن عن تشكيل حركة التحرير والإصلاح الريفية. بعد مفاوضات "إيكس ليبان" ظهرت حركة الريف تحت اسم حركة سلام أمزيان، سعت إلى إعادة إحياء فكرة الجمهورية التي انطلق منها محمد بن عبد الكريم الخطابي. وأصدرت هذه الحركة ميثاقا في أكتوبر 1958، وهو مكون من 17 نقطة من ضمنها إعلان النظام الجمهوري (الجمهورية المغربية الثانية) تذكيرا بجمهورية الريف الأولى. وسعت الحركة إلى إقامة مؤسسات ديمقراطية، بواسطة انتخابات حرة وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بالعدل، وانضم إليها جملة من قياديي جيش التحرير من مناطق الأطلس المتوسط وانخرطوا في صفوف الثورة الريفية. ومنذ الوهلة الأولى ساند محمد بن عبد الكريم الخطابي الحركة الريفية، واتصل في الأيام الأولى بالملك محمد الخامس، وعرض عليه مطالب الثوار الريفيين، لاسيما تلك المتعلقة بالطابع الاقتصادي والاجتماعي والإداري. ومع بداية سنة 1959 ترأس الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) رفقة محمد أوفقير ما يناهز 20 ألف جندي تجمعوا بمدينة تطوان، وبعد منح مهلة 48 ساعة للثوار للتراجع عن مساعيهم والاستسلام بدأ الهجوم عليهم بقصف جوي مكثف دام أسبوعا كاملا لم يتوقف. وفي هذا الهجوم أصيبت طائرة الحسن الثاني برصاص الثوار الريفيين، في أجواء مطار الحسيمة، وأرغمت على النزول. وظل المخزن يواجه جوهريي الريف بقمع شرس إلى أن أقبر الحركة، باستعمال كل الأسلحة المتاحة له آنذاك، بما في ذلك الغازات السامة. محمد بن عبد الكريم الخطابي عميد جمهوريي المملكة يعد محمد بن عبد الكريم الخطابي عميد جمهوريي المملكة المغربية وقيدومهم، وهو الذي هندس لثورة الفلاحين بالريف فيما بين 1919 و 1926. ويعد الزعيم الخطابي رمز حرب التحرير والكفاح ضد الاستعمار وقد ناضل إلى آخر رمق في حياته من أجل تحرير أقطار شمال إفريقيا. وهو من مواليد 1882، تابع تعليمه الأولي بأجدير ثم انتقل إلى تطوان لاستكماله قبل الالتحاق بجامعة القرويين بفاس، وبعد رجوعه استقر بمدينة مليلية. وفي سنة 1906 أشرف على إصدار جريدة "تلغراف الريف"، وفي 1907 أصبح كاتبا بشؤون الأهالي ثم قاضيا سنة 1914. غادر الإدارة الإسبانية ليستقر بأجدير وشرع في تأليب قبيلة بني ورياغل ضد الاستعمار الإسباني. بدأ الصراع والمناوشات، وانتصرت جماعة محمد بن عبد الكريم الخطابي على الجيش الاسباني في العديد من المعارك، توجت بملحمة الانتصار في معركة أنوال (2000 قتيل وآلاف الأسرى). وتمكن الريفيون من غنيمة أسلحة وذبابات وسيارات، فألهب هذا الانتصار الريفيين، وبذلك قامت جمهورية الريف. ولم ينهزم محمد بن عبد الكريم الخطابي إلا في سنة 1926 بفعل التحالف القائم بين الجيش الإسباني والجيش الفرنسي بعد أن استمرت المقاومة والكفاح من 1919 إلى 1926. كان الزعيم الخطابي يعرف حق المعرفة أنه يواجه قوتين عظيمتين (إسبانياوفرنسا)، وكان ينقص الثوار الريفيين السلاح، إذ لم يكن يتوفر لديهم في بداية الأمر إلا الإيمان بعدالة قضيتهم وإيمانهم الراسخ بالعقيدة الإسلامية. سنوا في رمضان سنة 1921 هجوما بالحجارة على الجنود، وبواسطة الحجارة حصلوا على السلاح والذخيرة. فكل هزيمة من هزائم العدو كان يتلوها استيلاء على سلاح. وكانت آنذاك أبجدية حرب العصابات تترسخ على أرض الواقع الملموس. لقد قال محمد بن عبد الكريم الخطابي للثوار، قبل الهجوم على حامية إسبانية بضواحي مدينة مليلية في 14 غشت 1921: "لا نملك الآن إلا الحجارة، وبها علينا وضع اليد على سلاح الإسبان، فلا سبيل أمامنا إلا هذا، فالسلاح يجب أن نأخذه من يد العدو ومن يد العدو فقط، فلا خيار أمامنا"، وبالحجارة تمكن الثوار من غنيمة ما يناهز 400 بندقية وأربع ملايين رصاصة وأربع رشاشات ومدفع ميدان، وبفضل هذا السلاح انتصروا على الإسبان في معركة أنوال، ليغتنموا المزيد من السلاح والذخيرة، وتلى ذلك الهجوم على مراكز القوات الفرنسية آسرين العديد من الجنود. اضطرت فرنسا للبحث عن سبيل التفاوض مع الزعيم الخطابي الذي اشترط أولا الاعتراف بالجمهورية الريفية المقامة على الأقاليم المحررة، وإلغاء الحماية قبل الشروع في التفاوض. وبعد هذا اللقاء قدم المارشال الليوطي استقالته، وعوضه الجنرال "بيتان" بعد أن عقدت فرنسا اتفاقا مع إسبانيا لإنزال ثقل قواتهما في الريف لمحاربة محمد بن عبد الكريم الخطابي رئيس الجمهورية الريفية، وهذا ما حدث في نهاية مايو 1926. ولم تكن الثورة الريفية تقتصر في رؤيتها الثورية على تحرير المغرب، وإنما كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يرتكز على رؤية ثورية شاملة ومترابطة الأجزاء، إذ أن الهدف كان هو تفعيل ثورة عارمة ضد الاستعمار. من المحيط الأطلسي على أقصى شرق تونس، مما جعله أول من فكر في إستراتيجية وحدة المغرب العربي بالكفاح والنضال ضد المستعمر، الشيء الذي أرعب فرنساوإسبانيا، لاسيما أنها ثورة نبعت وانبعثت من الفئات الشعبية بعيدا عن مساومة السياسيين. ولم تترك أي مجال للعملاء وتوابع الاستعمار، وأقفلت الباب في وجه المخزن آنذاك اعتبارا لانصياغه وراء الاحتلال وتخليه عن واجبه الجهادي. وقبل استسلامه، أقر الزعيم الخطابي بأن المعركة لازالت قائمة، في ظل إستراتيجية تحرير المغرب العربي، ثم نفي إلى جزيرة "رينيون" حيث مكث بها رفقة عائلته أكثر من عشرين سنة. وفي 1947 قرر الفرنسيون ترحيله على فرنسا، وفي طريقه إليها أرست السفينة التي كانت تقله بميناء بور سعيد بمصر فتمكن من الفرار، واستقبله الشعب المصري استقبال الأبطال. وثمة قرر الانطلاق من جديد لتفعيل إستراتيجية الأصلية الرامية إلى تحرير المغرب العربي، وهناك أسس لجنة تحرير المغرب العربي التي ترأسها. وظل محمد بن عبد الكريم الخطابي بمصر إلى أن وافته المنية بها سنة 1963. التجربة الريفية جاءت الحركة الريفية في ظرف تميز بعجز المخزن، في ظل أزمة مؤسسية، بعد أن بدأ الاستعمار الفرنسي والإسباني يرسخ قدمية بالبلاد، وفشل السلطان عبد الحفيظ في تحقيق بنود عقد البيعة. في ذلك الوقت بدأ غليان بالبادية وانفجرت المقاومة القروية في الأطلس المتوسط وفي الجنوب والجبالة، غير أن هذا العصيان وهذا الغليان لم يرق إلى مشروع تغيير مفكر فيه كما وقع آنذاك في الريف، باعتبار أن التجربة الريفية اهتمت بإشكالية الدولة ودورها. وبشهادة الكثيرين، كانت قبيلة بني ورياغل النواة المركزية التي كونت التحالف الريفي. وبعد الانتصار في معركة أنوال تم الإعلان عن جمعية وطنية مكونة من ممثلي القبائل وأفخاذها، وأعترف بتنظيم السلطات وبوضع دستور مكتوب. وحسب شهادة البغدادي، الكاتب الخاص لمحمد بن عبد الكريم، كان نص مشروع الدستور يضم 40 بندا، إلا أنه لم ينص على مبدأ انتخاب الأجهزة القيادية للسلطة. وأقرت الجمعية الوطنية بميثاق ينص على انسحاب إسبانيا من كل منطقة الريف وعلى عدم الاعتراف بالاستقلال الكامل لدولة الريف، وإقامة علاقات صداقة مع كل البلدان وعقد اتفاقيات معها عند الاقتضاء. كما أقرت الجمعية الوطنية بأن محمد بن عبد الكريم الخطابي هو رئيس السلطة التنفيذية، والمسؤول عن الحفاظ على النظام وقيادة حرب التحرير، وتساعد على ذلك حكومة مكونة من منذوب عام، واضطلع بهذه المهمة امحمد شقيق عبد الكريم، وآخر مكلف بالمالية، عبد السلام الخطابي، والمكلف بالقضاء الفقيه الزرهوني، والمكلف بالشؤون الخارجية القائد ليزيد، ووزير الحرب أحمد بودرا كما تم تأسيس جيش شعبي، وارتكزت فيه التراتبية فيه على قواد الألف والخمسمائة والخمسون والخمسة والعشرون والاثني عشر. وتساهم فيه القبائل بتجنيد رجالها. وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي يتوفر على ما يناهز 75 ألف من الأنصار، منهم 30 ألف من المسلحين بالبنادق، مرتكزين على حرب العصابات وهي إستراتيجية خاصة بالخطابي. وبخصوص تأثير الثورة الريفية على الحركة الوطنية، يذكر علال الفاسي أن هذه الأخيرة ساهمت بقوة في التعريف بما جرى في الريف سنة 1924، وأن عددا من الشبان المغاربة بقيادة عبد القادر التازي، توجهوا إلى أجدير للانضمام إلى صفوف المقاتلين الريفيين، وأن العمال المغاربة بفرنسا وجهوا برقية سنة 1925 لمساندة رئيس الجمهورية الريفية. إلا أنه، على العموم، تبين أن الحركة الوطنية لم تظهر أي اهتمام سياسي حيال التجربة الريفية، وهذا ما أقر به عبد الله العروي. وحسب جملة من المؤرخين كان التعامل مع الثورة الريفية يشبه إلى حد كبير التعامل مع "كمونة باريس" التي ظلت منسية نسيانا ممنهجا، إذ تم الاقتصار بخصوصها على التذكير بالقمع الرهيب الذي ووجهت به. وقد ذهب أغلب المؤرخين المغاربة إلى اعتبار الجمهورية الريفية كإجراء مؤقت فقط فرضته الظروف، في انتظار استكمال تحرير البلاد من أجل إعادة السلطة إلى مآلها الشرعي، وهذا ما كان يركز عليه دائما علال الفاسي. لكن الذي يضعف هذه الأطروحة تلك القطيعة الحاصلة بين محمد بن عبد الكريم الخطابي وقادة الحركة الوطنية بعد الثلاثينيات. النزعة الجمهورية بالريف إن التجربة الريفية في العشرينيات انطلقت من قناعات فطرية وطبيعية، إنها قناعات القتالية والكفاح لمن لا يملك من العدد والعدة سوى الإيمان الراسخ بعدالة قضيته. إن جمهورية الريف كانت الشكل التنظيمي الأنسب لحظتئذ، في إطار علاقتها بدول المعسكر الشرقي؛ كما أن قيام النظام الجمهوري، كان ينسجم أكثر مع واقع الخدمات المقدمة للمواطنين مهما اختلفت طرق اشتغالهم، وهو ما أكد نجاعته في نظر سكان الريف آنذاك رغم ظروف الحرب والحصار. لاسيما وأن محمد بن عبد الكريم الخطابي حول، عن طريق اعتماد النظام الجمهوري، اختلاف ونزعات القبائل الريفية إلى قوة دحرت جبروت المستعمر بكل ترسانته البشرية والنارية. والتجربة الريفية بشهادة الزعيم الصيني، ماوتسي تونغ وغيره، كانت ميلاد لأشهر مدرسة تحريرية في القرن العشرين: حرب العصابات، والتي اعتمدها واعتنق مبادئها أبرز زعماء حركات التحرر والتحرير الوطني في العالم، بدءا بماوتسي تونغ، مرورا بشي غيفارا وكاسترو وهوشي منه وتوار التوباماروس بأمريكا اللاتينية وغيرهم. إن اختيار نظام جمهوري في الريف آنذاك بدا الأقرب من أي نظام آخر للتقاليد "الديمقراطية" القبلية السائدة وسط قبائل الريف. فابتداء من يوليوز 1923 ربط محمد بن عبد الكريم الخطابي علاقات بالفرنسيين والانجليز. وبعد فترة وجيزة داع صيت جمهورية الريف عبر العالم. كما سعى الزعيم الخطابي إلى دعم "الكومنترن" لجمهوريته وكذلك لدعم الحزب الشيوعي الفرنسي. ورغم أن جمهورية الريف أقيمت في الجزء من المغرب المحتل من طرف إسبانيا، فإنه شكل خطرا كبيرا على المخزن وعلى فرنسا، الشيء الذي أدى إلى مواجهات بين الأمير الخطابي والاستعمار الفرنسي. وابتداء من سنة 1924 ضاعف الريفيون من هجوماتهم على القوات الإسبانية التي انزوت إلى الساحل. وفي سنة 1925 أعلن الأمير الخطابي نية التوجه إلى فاس، وواصل الريفيون زحفهم والتحقت بهم قبائل جبالة ووصلوا إلى مشارف منطقة الغرب (القنيطرة) غير البعيدة عن مدينة الرباط. وبعد التصريح بالرغبة على الاستيلاء على فاس بدأت القوات الفرنسية تعد العدة لمواجهة الريفيين. ولذلك عقد الفرنسيون اتفاقا مع الإسبانيين للقيام بمواجهة مشتركة ضد الريفيين. هذا بموازاة مع بداية المفاوضات مع الأمير الخطابي بمدينة وجدة في مارس 1926، إلا أنها وصلت إلى الباب المسدود بسرعة. وفعلا تجمعت القوات الفرنسية والإسبانية تحت إمرة المارشال "بيتان"، وضمت نصف مليون جندي مجهزين بأحدث المعدات الحربية الأرضية منها والجوية، وفي مايو 1926 اضطر الأمير الخطابي إلى تسليم نفسه. والمؤسف حقا أنه تم التكالب على طمس وتغييب مجد وبطولات الريف الصامد والشامخ، كيف لا وهو الأرض التي أنجبت محمد بن عبد الكريم الخطابي ومجاهدي الريف الذين نسجوا ملحمة بطولية ظلت منقوشة على صفحات تاريخ القرن العشرين، أراد من أراد وكره من كره، لأنها نقشت بالشهادة والتضحية في سبيل الحرية والكرامة والانعتاق. هل هناك نزعة جمهورية لدى جماعة العدل والإحسان؟ إن الغرض من هذه الورقة ليس هو الإجابة على هذا السؤال مباشرة، وإنما عرض جملة من القضايا والأفكار التي ترتكز عليها جماعة العدل والإحسان، وذلك قصد إثارة فضول تمحيصها للبحث عما إذا كانت تحمل في طياتها جوانب من النزعة الجمهورية. فمن المبادئ والمنطلقات التي تأسست عليها الجماعة الآية الكريمة "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون". وبالتالي فهي جماعة تسعى لفهم الإسلام فهما شاملا متكاملا يجمع بين الدين والدنيا، بين الدنيا والآخرة، وتتوق إلى العمل الدؤوب على إقامة الدين الإسلامي في الأرض استجابة للآية الكريمة "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" (آية 13 من سورة الشورى). وتختزل الجماعة إستراتيجيتها البعيدة المدى، وعملها المرحلي، وممارستها اليومية، في شعار "العدل والإحسان" على اعتبار أنهما لب القضية في الدعوة والدولة، وفي المصير السياسي والمصير الأخروي. إنها ترى في العدل عماد المشروع الإسلامي والركيزة الأساس، كما ترى فيه ظل الله في الأرض، وبالتالي فهو تعبير صريح للرفض التام للاستبداد السياسي وللأنظمة المتسلطة والمهيمنة على خيرات وثروات البلاد. وترى الجماعة في الإحسان قرين العدل من أجل إعداد أفراد المجتمع الصالح، سواء على صعيد العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي. وعبر العمل بشعار "العدل والإحسان"، تسعى الجماعة إلى إقامة حياة إسلامية وفق النموذج النبوي والراشدي، وذلك عبر التوق لإيجاد الدولة الإسلامية القطرية، وإرساء دعائم الخلافة على منهاج النبوة. وذلك كسبيل لتجاوز وضعية قهر الملك الجبري ووضعية التخبط في اختلاط الحق بالباطل والخير بالشر، لكن دون قبول عنف أو دعوة إليه أو ممارسته أو اعتماده كوسيلة لتحقيق التغيير المنشود، بل اعتماد التسيير والتبشير والإقناع والحوار. وأقرت كل الأدبيات الأخيرة أن جماعة العدل والإحسان تسعى إلى تحقيق أهدافها دون الركون للظالمين مهما كان موقعهم، باعتبار أنها تقر بأن جوهر الأزمة التي تعيشها البلاد هو استبداد الحكام واستحواذ الأقلية على الاقتصاد، وبذلك تدعو إلى إعادة بناء الدولة وهياكلها على أساس العدل والشورى والإحسان، لتكون الدولة والحاكم في خدمة الشعب وتحت مراقبته. وترى الجماعة أن السلطة لابد أن تستمد من إرادة الشعب، والقائمين على الأمور يجب اختيارهم من طرفه ويراقبهم ويحاسبهم ويعزلهم عند التجاوز والخطأ. أليس هذه المنطلقات كافية للقدرة على الجواب؟ فليجب كل حسب منطلقه وقناعاته. الأمير هشام هل هو أمير أحمر حقا؟ عرف الأمير هشام بن عبد الله، ابن عم الملك محمد السادس بانتقاداته لعمه الملك الحسن الثاني وللملكية، ودعوته إلى إصلاحها. وقد تعرض بسبب هذه الجرأة لعدة مضايقات أمنية، دفعته في نهاية المطاف إلى اختيار الهجرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية للاستقرار بها بصفة نهائية. وبالرغم من أن الأمير هشام نعت بالأمير الأحمر إلا أنه لم يسبق أن صرح بما يدلي عن قرب أو عن بعد بما يمت بصلة بنزعة جمهورية. وعلى إثر تصريح ندية ياسين، بخصوص النظام الملكي ونزعتها الجمهورية، قال الأمير هشام عندما سئل عن تداعيات تصريحات نجلة مرشد جماعة العدل والإحسان: "جوابي سيكون بالرجوع إلى التاريخ، لقد كان هاجس المسلمين بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) هو الخوف من نموذج الملكيات الفارسية والهندية، باعتبارها أنظمة ثيوقراطية مغلقة، وقد أهداهم تفكيرهم إلى نظام الخلافة، وهو نظام مستنبط واجتهاد رأي وليس تطبيق نص". وختم الأمير هشام جوابه مؤكدا: "فما المانع اليوم من الرجوع إلى المنطق ذاته والاستفادة من نماذج الملكيات البرلمانية الناجحة في أوروبا لإصلاح أوضاع الملكية العربية". عبد الله زعزع، جمهوري الارميتاج المشاغب اختار زعزع عبد الله التحرك على أرض الحي الشعبي الذي يقطنه والاهتمام بشبابه وأطفاله، بعيدا على اللغط السياسي والصراعات الإيديولوجية. وعبد الله هذا من الأشخاص القلائل الذين لم يخفوا نزعتهم الجمهورية، إذ ظل يعلن جهارا أنه يطالب بأحداث حزب جمهوري. بل يعتبر عبد الله أن الديمقراطية في المغرب لن يعلن على ميلادها الفعلي إلا إذا تم فعلا تأسيس حزب جمهوري، وإجراء استفتاء وانتخابات حرة ونزيهة تكفل للمغاربة اختيارا حرا. وقد صرح عبد الله زعزع عن نزعته الجمهورية ومطالبته بتأسيس حزب جمهوري وإقامة استفتاء شعبي، في لقاءات أجراها مع بعض وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية، لاسيما الإسبانية منها، ظل يقر خلالها بأن بنية النظام السياسي بالمغرب لم تتغير، وأن كل الخطوات التي تم تحقيقها لم يتم دسترتها ومأسستها، وأن دواليب الحكم مازالت كلها بيد الملك والمخزن. وإذا كان لا يخفي كونه جمهوريا، فإن ما يهمه ليس الشكل وإنما المضمون، وفي هذا الإطار صرح أكثر من مرة أنه يريد أن يكون الشعب هو صاحب القرار من خلال استفتاء حر ونزيه. عبد الحميد أمين، الجمهوري الحقوقي ظل عبد الحميد أمين شيوعيا، ثابتا على درب المبادئ والمواقف التي أعتقل من أجلها، ويقول إنه لازال يدافع بقوة عن فكرة بناء مجتمع ديمقراطي، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يناهض أي مشروع مجتمعي رجعي وفاشي يعادي حقوق الإنسان. حوكم من أجل مواقفه الرامية إلى التغيير الجذري بالمغرب نحو إرساء مشروع مجتمعي جمهوري باعتباره ينسجم تمام الانسجام مع قيم ومعايير حقوق الإنسان. وقد صرح بنفسه وأكثر من مرة أنه جمهوري وأنه لم يغير من قناعاته وأفكاره التي قمع وأعتقل وعذب من أجلها مضيفا، "إنني لم أغير مواقفي منذ مظاهرات مارس 1965" إنه لازال سائرا على نفس الدرب سائرا إلى حد الآن. ظهرت نزعته الجمهورية في شبابه المبكر، منذ أن شارك في مظاهرات مارس 1965 التي ووجهت بالقمع الشرس. كما ساهم مع مناضلي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بباريس احتجاجا على نفي قادة أوطم إلى الصحراء (مدينة طانطان)، وكان آنذاك فتح الله والعلو رئيسا له. كما شارك وهو طفل في المظاهرات التي اندلعت بفاس بعد نفي محمد الخامس، وسنه لا يتجاوز بعد تسع سنوات. يعتبر عبد الحميد أمين، السجلماسي الأصل، من المغاربة الذين مازالوا يؤمنون إلى حد الآن بالنظام الجمهوري الذي ناضل من أجله في السرية، منذ فجر السبعينيات، في إطار المنظمة الماركسية اللينينية "إلى الأمام" والذي يعتبر أحد مؤسسيها. المهدي بن بركة وعمر بن جلون لا يمكن الحديث عن النزعة الجمهورية بالمغرب دون الحديث عن المهدي بن بركة وعمر بن جلون وجيلهما، وعن الاختيار الثوري الذي سارا على دربه، والذي أقر بالمحدودية السياسية للبرجوازية المحلية، وبالتالي بالحاجة إلى قطيعة جذرية مهما كان الثمن. آنذاك كانت مهمة التواقين إلى التغيير الجذري تتمحور حول التحرر من الإمبريالية ومن تبعيتها والتخلص من الاستبداد السياسي. أي تحقيق مهام الثورة الديمقراطية حسب القاموس الثوري آنذاك، بمعنى الوقوف في وجه سيطرة القوى الحاكمة، أو بعبارة أكثر وضوحا إزاحة الحكم القائم بصفته عقبة في وجه التحرر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وتعويضه بنظام آخر يسعى إلى تحقيق التحرر في مختلف الميادين وعلى مختلف الأصعدة. على هذا الدرب سار المهدي بن بركة ورفاقه بعد القطيعة مع القصر. ترك المهدي بن بركة بصماته بخصوص هذا التوجه، وتسلم المشعل بعده عمر بن جلون الذي وجهت إليه في 16 يوليوز 1963 تهم المؤامرة ضد النظام والمس بالأمن الداخلي، وحكم عليه بالإعدام إلى جانب جملة من رفاقه من ضمنهم الفقيه محمد البصري. وبدوره ترك عمر بن جلون بصماته على مختلف المستويات، السياسي والاجتماعي والنقابي والتنظيمي، ولاسيما على المستوى الإيديولوجي. كان يؤمن بالاشتراكية العلمية ومتشبعا بضرورة مقاومة الاستغلال ومناهضة المستغلين (بكسر الغين) وحتمية إعادة توزيع الثروات والأراضي، في إطار مشروع مجتمعي تكون فيه السيادة للشعب دون غيره خصوصا بعد التغيير الجذري للهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية. ولم يكن ليتحقق هذا المشروع في تصور عمر بن جلون ورفاقه إلا بفضل الطبقة العاملة التي يعتبرها طليعة النضال ضد الحكم الإقطاعي والمخزني. يعتبر أحمد رامي الجندي الوحيد الذي تمكن من الفرار إلى الخارج بعد فشل المحاولة الانقلابية الأولى في صيف 1971، وكان آنذاك من الضباط الشباب المتأثرين بشخصية وأفكار جمال عبد الناصر. طيلة فترة وجوده بالديار السويدية، الحامل لجنسيتها حاليا، ظل أحمد رامي يؤمن بضرورة إسقاط النظام الملكي لإقامة نظام جمهوري إسلامي بالمغرب. وبالرغم من أنه لم يتأكد إلى حد الآن وجود أي تيار سياسي أو حركي في صفوف الجيش الملكي، بقي أحمد رامي يروج لفكرة وجود "تنظيم الضباط الأحرار المغاربة" المتأثرين آنذاك بالناصرية، والذي كان يسعى لإقامة جمهورية. وقد أجمع كل المحللين السياسيين والمؤرخين على عدم وجود ضابط مغربي معارض بالمغرب وعلى عدم وجود أي حركة أو تيار سياسي أو مذهبي في صفوف الجيش المغربي. ويعتبر أحمد رامي أن المغرب لازال في حاجة إلى ثورة إسلامية ثقافية سياسية شاملة بغية إعادة ترسيخ دعائم الإسلام؛ ومنقذ المغرب، في نظره، هو التيار الإسلامي. هل كان الجنرال أوفقير جمهوريا؟ عموما كان النظام المغربي يخشى كثيرا احتمال حركة التوق إلى التغيير وسط الجيش الملكي، لاسيما في اتجاه نموذج الثورة الجزائرية بتحالف مع بعض الفعاليات السياسية. ومهما يكن من أمر فإن محاولة الانقلابين (1971 – 1972) كان هدفها إقرار نظام جمهوري كشكل. لكن هل كان الجنرال أوفقير جمهوريا أو ذي نزعة جمهورية؟ الأكيد هو أنه بعد أحداث الصخيرات بدأ الجنود يشعرون بأن موقف الجنرال أوفقير تجاه الملك بدأ يتغير في نحو الكراهية البينة. فأوفقير لم يمارس في الجيش المغربي أي عمل، إذ مر مباشرة من الجيش الفرنسي ليصبح مساعد أركان شخصي للملك، قبل تعيينه مدير الأمن ثم وزيرا للداخلية والقائد العام للجيش الملكي، بعد انقلاب الصخيرات. ومن النكت التي ظل الجنود يتناقلونها فيما بينهم، أن أوفقير لم يعلم بتنصيبه كوزير الدفاع إلا عبر المذياع كباقي المغاربة، فلم يكن على علم بذلك مباشرة بعد أحداث 1971 بالصخيرات، آنذاك عين الحسن الثاني الكولونيل الليوسي كقائد على القوات الجوية والكولونيل حاتمي على رأس القوات المصفحة، وهذا دون علم الجنرال أوفقير ودون إخباره بالأمر. وحسب أحمد رامي، أحد الانقلابيين الفارين إلى الخارج، إن الجنرال أوفقير في حديثه معه كان يكشف له على جملة من أسرار القصر : للملك حريم مكون مما يناهز 150 امرأة، بينهن نساء اختطفن من الشارع العمومي من طرف خدامه..."، وقد جاء أيضا في حديث أحمد رامي: "... أكد لي الملك أنه كان يتعاطى للمخدرات... وأن ولده الذي لم يكن سنه يتعدى 7 سنوات كان يحضر معه الاجتماعات وكان الجيمع ملزما بتقبيل يده، وهذا أمر كان يتقزز منه الكثيرون"، كما قال له يوما: "علينا التخلص من الملكية بأي ثمن لأنها باعت المغرب لفرنسا وقادت البلاد إلى الهوة منذ بداية القرن العشرين". وإذا كان الجنرال أوفقير قد سعى إلى تغيير النظام وإقامة نظام جمهوري محله، فإنه لم يكن ذي نزعة جمهورية كفكرة أو قناعة. لقد كان يتوق إلى السلطة، هذا كل ما كان يهمه ليس اعتمادا على مشروع مجتمعي أو قناعات، وإنما اعتمادا على المخابرات الأمريكية والموساد واستغلالا للظرف العام. فعندما كان الصراع على أشده في فجر السبعينيات بين المغرب ومصر وإسرائيل، بخصوص التقرب من واشنطن والفوز بموقع حليفها الاستراتيجي باعتبار أن من لا يتحكم في شمال إفريقيا لن تتحكم في الشرق الأوسط، قامت المخابرات الأمريكية بالتقرب من الجيش الملكي سعيا للتحكم في البلاد. وفكرت، اعتمادا على الجنرال أوفقير، في أن يصبح المغرب دولة يحكمها الجيش كما هو الحال بالجزائر. آنذاك سعت واشنطن، عبر مخابراتها، في تعويض الحسن الثاني بعسكري حليف. هذا هو الإطار العام الذي تحرك فيه الجنرال لتحقيق حلمه في السلطة. الجمهوريون الصحراويون كان من الطبيعي جدا أن يعتمد الانفصاليون الصحراويون النزعة الجمهورية منذ انطلاقة حركتهم، فعدد من العناصر التي ساهمت في تأسيس جبهة البوليساريو كانوا منظوين تحت لواء تنظيمات ماركسية لينينية مغربية وأحزاب يسارية والتيار الراديكالي في الوسط الطلابي. أعلن هؤلاء عن تأسيس جبهتهم في 1973، وكان الأمر آنذاك يتعلق بتنظيم حرب عصابات، تربط مهام تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني بإنشاء "جمهورية ديمقراطية عربية" كجزء من الثورة العربية المعادية للامبريالية والصهيونية والإقطاعية والرجعية، وهي الثورة التي كان يعول عليها لتوحيد الوطن العربي. فكر الصحراويون في الهجوم على نواكشوط في عهد ولد دادة لأنه تراجع على ما اتفق عليه معهم، بخصوص توحيد الصفوف، لتمكين كل الذين يتكلمون اللهجة الحسانية، من التكتل في دولة واحدة أو ضمن كنفدرالية يترأسها، تضم موريتانيا والصحراء. وعلامات إعادة إحياء النزعة الجمهورية في صفوف الصحراويين أن هناك رأي أخذ يطفو على السطح، وهو القائل بأنه من الممكن العودة إلى اعتماد ما ساد من قبل من أفكار، بخصوص تعبئة الجماهير ضد الإمبريالية ومن يتعامل معها، والعمل انطلاقا من هذا على توحيد مصالح الصحراويين الانفصاليين بالمغاربة الجزائريين الراغبين في التغيير لتحقيق غد يضمن احترام حقوقهم الإنسانية والوطنية. ويرى هذا الرأي أن النظام الثوري ما زال من الممكن أن ينطلق من الصحراء ومن الجامعات على قاعدة المطالبة بالتشغيل ومن أجل توفير الخبز للجميع ومن الديمقراطية الحقة، كسبيل للتوصل إلى أوسع الفئات الشعبية. علي المرابط منذ حرمانه من مزاولة مهنته كصحفي، أضحى علي المرابط لا يخفي انتقاداته الواضحة والمباشرة للنظام السياسي المغربي. وفي كل مرة ينكشف أمر ميوله إلى النزعة الجمهورية. فكل انتقاداته تصب في اتجاه واحد، وهو أنه لا "يحب النظام القائم بالمغرب" لأنه يستحسن نظاما ديمقراطيا، ويرى أن النظام المغربي ليس نظاما ديمقراطيا، هذا لأن أول ما في الديمقراطية، هو أن يختار الشعب من يحكمه، ويضيف أنه عندما لا يتمكن الشعب من اختيار من يحكمه فإنه لا يمكن الحديث عن أي شكل من أشكال الديمقراطية. ويذهب علي المرابط أبعد من هذا بكثير، حيث يقر بأنه يجب أن تمنح للشعب فرصة الاختيار ليعرف بنفسه ما هي الديمقراطية ويمارسها بالفعل وليس بالوكالة، كما هو قائم إلى حد الآن. فالديمقراطية، في نظره، لا يمكن أن تهدى، فترسيخها يستوجب، أولا وقبل كل شيء، وجود ديمقراطيين، وفي نظره لا وجود لديمقراطيين يحكمون المغرب حاليا. آيت باعمران ورفض المذلة في نوفمبر 1957 سجلت قبائل آيت باعمران (سيدي افني من جيوب الاستعمار الإسباني بالمغرب) ملحمة رفض المذلة بانتفاضتهم. آنذاك كان الصراع من أجل السلطة بالمغرب بدأ يطفو بحدة، وبرزت اغتيالات رجالات المقاومة وملاحقة الشباب أصحاب الخيار التقدمي. وبذلك لجأ بعضهم إلى آيت باعمران، من ضمنهم بن سعيد آيت ايدر وشيخ العرب (المقاوم الذي أزعج المخزن) وحسن الساحلي، كلهم كانوا ممن يحملون النزعة الجهورية. هؤلاء وغيرهم سيحضرون المؤتمر المفتعل لأعضاء جيش التحرير إلى الجنوب بمدينة إنزكان، لكنهم فوجؤوا بحضور تجريدة الجيش الملكي تحت إمرة القائد العام للجيش (الحسن الثاني ولي العهد آنذاك) وأجبرهم على التخلي عن سلاحهم بالقوة ثم أمرهم بتوقيف مقاومتهم. وجاءت معاهدة فاس في 19 مايو 1969 الموقعة بين وزير الخارجية المغربي، العراقي، وبين ممثلي الحكومة الإسبانية. وكانت هذه المعاهدة مرفوقة ببروتوكول يضم العديد من الالتزامات التاريخية بخصوص منطقة آيت باعمران، منها الاهتمام بمواطني وشباب المنطقة، لكن لا شيء من ذلك تحقق وظلت المنطقة تتجرع مرارة سياسة التفقير والتهميش الممنهج ولم تشملها أية تنمية. هذه هي الخلفية التاريخية لانتفاضة المنطقة التي ظل سكانها متشبثين بالحرية والعزة وعدم الاستسلام والخضوع. وهي واحدة من الأحداث التاريخية التي ساهمت في تقوية النزعة الجمهورية في الأوساط السياسية الساعية للتغيير. الصراع على السلطة والنزعة الجمهورية إن تاريخ الصراع السياسي بالمغرب هو بامتياز تاريخ صراع على السلطة. وقد زاد هذا الصراع حدة واستفحالا بفعل إخراج الحركة الوطنية وفعالياتها من دوائر السلطة بالمغرب، من طرف الحسن الثاني منذ بداية الستينيات بطريقة ممنهجة. ويعتبر هذا العامل من بين العوامل الأساسية التي ساهمت في تزكية ترعرع النزعة الجمهورية بالبلاد، كسبيل من سبل الخلاص من الاستبداد والانفراد بالحكم. وقد تبدو الصورة مبسطة، الصراع من أجل السلطة بالمغرب دار بين فريقين، النظام القائم (الملك / القصر) من جهة والحركة الوطنية وورثتها من جهة أخرى. وهذان الطرفان اشتركا معا، بشكل أو بآخر في المعركة ضد الاحتلال والاستعمار، لكن كل بطريقته وانطلاقا من أهدافه. وحين شرع وفد الحركة الوطنية يفاوض الفرنسيين في مفاوضات "إيكس ليبان" سنة 1955، طرح كل من المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد شرط عودة الملك محمد الخامس إلى عرشه. ولم يكن هذا إلا تعبيرا واضحا عن العلاقة التحالفية بين القصر ورموز الحركة الوطنية على الأقل منذ منتصف الأربعينيات. وتأكد ذلك بمشاركة الحركة الوطنية في الحكومة المغربية الأولى، بعد الحصول على الاستقلال، والتي ترأسها أحد المقربين للقصر وللسلطات الفرنسية، مبارك البكاي، وتلتها حكومة عبد الله إبراهيم أحد أقطاب الحركة الوطنية، ساد آنذاك الشعور بالشراكة في الحكم، لكن سرعان ما ولى هذا الشعور بإعفاء حكومة عبد الله إبراهيم بالقوة، وبذلك انقطع الوصال بين الملك والحركة الوطنية التي ولجت ركح المعارضة من بابه الواسع. آنذاك زرعت بذور النزعة الجمهورية التي مافتئت تترعرع وتتقوى إلى أن وصلت إلى اعتماد العنف كسبيل وحيد، لا ثاني له، لتحقيق التغيير المنشود بالمغرب. تأجج الصراع على السلطة منذ منتصف الستينيات، مع بروز حركة البلانكيين، تحت إمرة الفقيه محمد البصري الذي كان وراء أحداث 3 مارس 1973بضواحي مولاي بوعزة، وقبلها ووجهت مظاهرات مارس 1965 بالقمع الدموي واغتيل المهدي بن بركة في أكتوبر 1965، حينئذ انطلقت المحاكمات السياسية الصورية والمخدومة وحظر نشاط الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم) في 24 يناير 1973، والتصدي القمعي لإبادة تنظيمات اليسار الماركسي- اللينيني المغربي. في معترك هذه الظروف عرفت النزعة الجمهورية أوجها في تاريخ المغرب؛ ففي خضم الصدام الدموي برزت بوضوح فكرة إسقاط النظام الملكي وقلبه بالعنف الثوري لتعويضه بنظام جمهوري شعبي، ليصبح هذا التصور عقيدة إستراتيجية بالنسبة لجملة من القوى السياسية، منها ما أعلنت عن ذلك ومنها من تسترت عليه نظرا للقمع الشرس والوحشي السائد آنذاك. في تلك المرحلة ولج الجيش، بإيعاز من المخابرات الأمريكية والموساد، حلبة الصراع على السلطة، فحدث انقلابان فاشلان. وفي 30 يوليوز 1972 اتخذت اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إنهاء علاقة الحزب مع التيار النقابي والتيار المسلح، ورغم ذلك لم يحصل أصحاب هذا الرأي على ود الحسن الثاني، بل ذاقوا مرارة تداعيات ضريبة التمرد المسلح ليوم 3 مارس 1973، وجاءت قضية الصحراء لإرجاء إشكالية الصراع على السلطة وظلت النزعة الجمهورية حاضرة. وفي المرحلة الممتدة من منتصف السبعينيات و 1996، تاريخ الإقرار بالتعديلات الدستورية انتقل الصراع من الشارع إلى قاعدة البرلمان. يبين آنذاك بجلاء أن الصراع على السلطة انتقل من حيازة السلطة عن طريق الإقصاء والإلغاء وبكل الوسائل المتاحة بما في ذلك استعمال العنف إلى حيازة السلطة عن طريق المنافسة السياسية السلمية قصد اقتسامها، وساد الحديث عن خيار التطور الديمقراطي. ولم يتم تحقيق هذه الطفرة بطريقة سلسلة، وإنما ظل القمع ساريا على امتداد أعوام ما بين 1979 و 1981 وبين 1984 و 1990، ومحاكمات هنا وهناك في مختلف أرجاء المملكة، وتوالي الحكومات الصورية التي سرعان ما كانت تسقط تباعا بدون أي جدوى، وهذه مفارقة غريبة خصت المغرب بامتياز، وجعلت النزعة الجمهورية حاضرة بامتياز. وفي مارس 1998 عين وزيرا أولا، تحت يافطة التناوب والتغيير اللذان سرعان ما انكسرا على صخرة الواقع المعيش، إذ برزت حكومة لا تختلف ملامحها عن حكومات عصر ما قبل الحديث عن التناوب. لكن تأكد أمر جوهري، وهو في الحكومة المشاركة بقدر ما تسمح به الظروف. وهذا أقصى ما وصلت إليه الحركة الوطنية بالمغرب بالرغم من التضحيات الجسام على امتداد ما يناهز نصف قرن: انتقال مشوب بالعديد من الشوائب والنواقص. وهذا الواقع دفع الكثيرين بالمناداة بأولوية الإصلاح الدستوري، ومن ضمنهم من كانوا بالأمس القريب مقتنعين حتى النخاع بضرورة إقامة نظام جمهوري بالمغرب. ودعوة هؤلاء إلى أولوية المناداة بإصلاحات دستورية جوهرية، تنبع من اعتقادهم الراسخ بطبيعة النظام السياسي القائم، وهو المبني بالأساس على الشرعية الدينية التي تتماهى فيها القيادة مع الإمامة والولاية السياسية مع الولاية الدينية المتمثلتين في شخص ملك المغرب أمير المؤمنين، وهو نظام يعيد إنتاج نفسه باستمرار عبر إنتاج وإعادة إنتاج مؤسساته وقيمه السياسية وثوابته. والآن، يبدو أن النزعة الجمهورية لازالت حاضرة بالأوساط السياسية الإسلامية، غير المشاركة في اللعبة السياسية وغير المسموح لها بالنشاط الشرعي والرسمي في واضحة النهار، وحتى وإن لم يتم الإعلان عن ذلك. فإذا كانت النزعة الجمهورية غائبة قبيل الحصول على الاستقلال، فإنها برزت بشكل واضح منذ فجر الستينيات وتزامن ذلك مع إصرار الحسن الثاني على الانفراد بالحكم. وللإشارة إن الطريقة التي حصل بها المغرب على استقلاله من الأمور التي تحكمت بقوة في المسار الذي سار عليه المغرب. لقد اعتبر الكثيرون أن استقلال المغرب هو استقلال ممنوح، إذ أن الاستعمار الفرنسي قد هيأ لقوة، من خلال الوظائف والمناصب ومن خلال التبعية الثقافية والمصالح الاقتصادية، من تجارة وصناعة وخدمات. تضمن مصالح الاستعمار الأساسية بالمغرب. وبذلك ظل حاضرا رغم رحيله الرسمي. وما دامت فرنسا قد هيأت تلك القوة التي ستمكنها من دوام حضورها رغم الإعلان عن الاستقلال، فإنها اقترحت على الوطنيين المغاربة أن يتمتعوا بالاستقلال ويضعوا دستورا ويؤسسوا ديمقراطية، وبعد ذلك إذا تبين أن المغاربة يريدون رجوع الملك فسيكون لهم ذلك. إلا أن الوطنيين رفضوا الاقتراح، وطالبوا بعودة الملك وبالاستقلال في آن واحد. وهذا من شأنه أن يبين أن النزعة الجمهورية لم تكن حاضرة آنذاك، ولم تظهر إلا بعد الإقرار بالقطيعة بين الملك (لاسيما في عهد الحسن الثاني) والحركة الوطنية. آنذاك قبل رموز الحركة الوطنية تأجيل قضية الديمقراطية مقابل إسناد جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والإشراف على جهاز القضاء، ذلك اعتقادا منهم أن عودة الملك هو ضمانة للديمقراطية ولتحقيق الاستقلال الحقيقي، لكن التاريخ خيب أملهم بامتياز وأدى الشعب الثمن باهضا. التعامل مع الأحزاب قادت تدابير الدولة في تعاطيها مع الأحزاب السياسية، الحاملة لمشروع مجتمعي، إلى إفساد الحياة السياسية عموما، وذلك على امتداد ما يناهز نصف قرن من الزمن بالمغرب. لقد تمكنت الدولة من تفويض أسس الحياة الحزبية بالبلاد رغبة منها في تحقيق توازنات ظرفية وآنية ذات طبيعة هشة دون بعد نظر. وهذا ما أدى إلى ما نلاحظه حاليا من عزوف طاقات واسعة من المشاركة في الحياة السياسية والحبل مازال على الجرار كما يقال في هذا الصدد. وبذلك تمكنت الدولة من إضعاف الأحزاب الحقيقية وخلق كيانات سياسية غريبة لا تستند على قاعدة اجتماعية، ولم تتوفر يوما لا على مشروع مجتمعي ولا على برامج سياسية واضحة المعالم ومحددة الآليات. ذلك للتصدي لكل التيارات والتوجهات الحاملة للنزعة الجمهورية. وعملت الدولة بسخاء منقطع النظير على توفير الدعم السياسي والمادي واللوجيستيكي لهذه الكيانات، كخطة منها لمواجهة الأحزاب السياسية المعارضة. وهكذا خلقت الدولة الحركة الشعبية في 1958، وجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية في سنة 1964، والتجمع الوطني للأحرار في سنة 1977، والاتحاد الدستوري في سنة 1983، وجملة من الحركات الأصولية لمواجهة الحركة الماركسية اللينينية والتيارات اليسارية في الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الحاملة كلها للنزعة الجمهورية وذلك على امتداد السبعينيات والثمانينيات. لقد اعتمدت الدولة هذا الحل لأن المقاربة الأمنية ظلت ثابتا من ثوابتها في التعاطي مع الحقل السياسي بالمغرب منذ أمد طويل جدا. لذلك تعرضت أحزاب المعارضة بشكل خاص للقمع الشرس والمتواصل على امتداد أكثر من أربعين سنة. وغذت الدولة انشقاق الأحزاب القوية وتشتيتها أو بالتدخل في شؤونها الداخلية كما حصل في تحديد مرشحي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وكذلك تعيين بعض الوزراء في حكومة إدريس جطو ضدا على إرادة الأحزاب التي ينتمون إليها. وكانت النتيجة هي المأزق الذي يعيشه الحقل الحزبي المغربي اليوم، إلى أن أصبح دوره منحصرا بالكاد في لعب الوساطة بين قاعدتها الاجتماعية والنظام السياسي.بهذا النهج تمكن النظام من التصدي للنزعة الجمهورية بالمغرب يقال إن بلدا بدون تاريخ وبدون ذاكرة جماعية كالجسد بدون روح، وبالتالي لا يمكن بناء المستقبل إلا بتذكر الماضي بمفاخره ومآسيه، وهذه ضرورة لسببين على الأقل: اغتراف الاستعداد والقوة للاستمرار في استخلاص الدروس من الأخطاء والانحرافات المقترفة من جهة، ومن جهة أخرى العمل على توفير الشروط حتى لا تخلف البلاد، مرة أخرى، مواعيدها مع التاريخ ولا تضيعها، لأن المستقبل، في واقع الأمر، يجب الإعداد له البارحة وليس اليوم. وملف هذا العدد لا يطمح لعرض خبايا فترة تاريخية، ما دام أغلبها تم الكشف عنها بفضل الفعاليات الصحفية المستقلة، وإنما الهدف هو بالكاد الإحاطة بجملة من جوانب إشكالية النزعة الجمهورية بالمغرب. إن تاريخ المغرب المعاصر يعد فترة حملت الكثير من الملابسات والطمس وتزييف الحقائق، وهذا ما أقره الجميع، من رسميين وغير رسميين، كما أجمع الكل على حقيقة مفادها، أن التاريخ الشعبي وتاريخ القرب ظل مغيبا مقارنة بالاهتمام المبالغ فيه بتاريخ الأسرة الملكية والقصر الملكي وانجازاته، وبقدر ما كان هذا التاريخ يفرض نفسه فرضا بالترويج القسري، بقدر ما ظلت الانجازات الكفاحية للشعب المغربي وآلامه ومعاناته خارج دائرة التاريخ الرسمي، إلى درجة أن أجيال اليوم اكتشفت أنها كانت جاهلة لتاريخ بلادها. وفي هذا الصدد، فإن الحديث عن النزعة الجمهورية أو عن جمهوريي المملكة قد يشبه الحديث عن "قنبلة موقوتة" في نظر بعض ضيقي الأفق، باعتبار أن النظام الملكي يظل بالنسبة لجميع الفرقاء السياسيين ثابتا من الثوابت التي لا تقبل التشكيك. لكن شروط ومقتضيات حرية التعبير لا تستثني، بأي حال من الأحوال، الحديث في مثل هذه القضايا، أراد من أراد وكره من كره، لأن ذلك يعتبر ضريبة اختيار اعتماد هذه الحرية والعمل بها. فالنزعة الجمهورية بالمملكة ارتبطت بالمشاريع المجتمعية التي كانت ترى أن طريق التغيير تمر بالضرورة عبر إسقاط النظام القائم، وهذا أمر لا يخفى على أحد. وبذلك برزت معالم هذه النزعة، بوضوح أو ضمنيا، على امتداد الهزات الاجتماعية التي عرفتها البلاد منذ 1958 إلى بداية الألفية الثالثة، مرورا بمارس 1965 وأحداث 1969 وانقلابي 1971 و 1972 وأحداث 1973 وانتفاضات الثمانينيات ومشروع أحمد الدليمي الانقلابي الذي أجهض في المهد وحركات التسعينيات النضالية، لذلك ووجهت كلها بعنف شديد، ساهم في تأكيد قناعة ظلت قائمة طيلة المرحلة في أوساط النخب السياسية، مفادها أن خلاص البلاد هو تغيير جذري نحو نظام جمهوري، بالرغم من عدم الإعلان الواضح عن ذلك. إذن، كاءت نشأة النزعة الجمهورية بالمملكة انطلاقا من الرد على واقع مزري ظل يتأزم. بفعل الإحباطات المتتالية، منذ حصول البلاد على استقلالها، وبفعل رفض التهميش والإقصاء، وبفعل الرغبة في المشاركة وصنع القرار السياسي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وبفعل الرغبة في تجاوز تقاسم أعباء التنمية إلى تقاسم فوائدها ونتائجها كذلك، والتي ظلت حكرا على قلة من المحظوظين لا تكاد تبين، وبفعل التوق إلى تجاوز وضع الرعية المتدني نحو إرساء الحق في المواطنة الكاملة غير المنقوصة والعدالة والديمقراطية واحترام كرامة الإنسان المغربي المداس عليها جراء آليات الحكم الاستبدادي. ومن المعلوم أن المطالبة بالنظام الجمهوري قد بدأت تلوح معالمها منذ بداية الاستقلال، وتأكد هذا المنحى كمطلب رئيس خصوصا بعد تنحية أول حكومة وطنية برآسة عبد الله إبراهيم. مع العلم أن المهدي بن بركة والفقيه البصري، على سبيل المثال لا الحصر، كانا يطمحان آنذاك إلى ملكية من نوع خاص، وإن ظل موقف الأول أكثر غموضا فيما يخص نظام الملك بعد الاستقلال. وبعد أن جدد الحكم الفردي أسسه ودعائمه لاحت في الأفق المغربي معالم حركات جماهيرية – شعبية مؤيدة للنظام الجمهوري، بل أكثر من ذلك أعلن أشخاص تأييدهم لهذا النظام مع بزوغ أول شمس للاستقلال، وعلى رأس هؤلاء محمد بنونة (شيخ العرب) وإبراهيم التزنيتي (النمري) وغيرهم. لا ينبغي أن ننسى أن حركة الشبيبة قد شكلت، منذ منتصف الستينيات، بؤرة أساسية لعدة تيارات، أهمها الحركة الماركسية – اللينينية والخيارات الثورية الأخرى التي زاوجت بين الطرح الماركسي وطروحات ذات توجهات ثقافية ماوية وغراشية – وهما حركتان جمهوريتان بامتياز. ومن المعلوم أيضا أن قانون الأحزاب ألزم احترام المقدسات (الطابع الملكي للنظام، الدين الإسلامي، الوحدة الترابية)، وبالتالي لا يمكن تصور قيام حزب جمهوري أو حزب أمازيغي أو حزب إسلامي بالمملكة المغربية خارج التصور السابق. لكن هذا لا ينفي وجد مغاربة بالمملكة المغربية ذوو نزعة جمهورية، بعضهم كشفوا ذلك بوضوح، وبعضهم يضمرها. مع أن هناك إجماع على كون تبني النزعة الجمهورية وفكرة النظام الجمهوري يدخل في نطاق حرية التعبير، ولا يمكن اعتباره إلا كذلك ولو كره الكارهون، لأن هذه هي ضريبة من ضرائب الإقرار بالديمقراطية الحقة وحرية التعبير التي من المفروض أنها لا تخدم مصالح البعض دون البعض الآخر، وإنما هي مبدأ وحرية يستفيد منها الجميع، خلافا للنصوص القانونية التي تميل لخدمة هذه الفئة من المصالح أو تلك. عهد الحسن الثاني في سطور: التربة التي ترعرعت فيها النزعة الجمهورية إن التاريخ الرسمي ("المخزني" حسب نعت البعض)، خلافا لما يراه التاريخ الشعبي، يرى أن عهد الحسن الثاني تميز أساسا بتثمين استقلال البلاد وإعادة بناء وحدته على أسس صلبة قبل الانطلاق في سنة 1962 لإجلاء القوات الأجنبية (الأمريكية) من البلاد، في حين يرى الكثيرون أن الاستقلال بدأ أعرجا وقد شكل صفقة غيبت طموحات الشعب وساوم فيها القصر الملكي والإقطاع على مصالحهما، الشيء الذي أدى إلى اغتيال حلم المغاربة في المهد بعد معركة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال. ويرى التاريخ الرسمي "المخزني" أنه اعتبارا للصعوبات السياسية والأزمة الاقتصادية تميز عقد الستينيات باللجوء إلى تقوية مركزية الحكم، في حين يرى التاريخ الشعبي أن النظام اهتم أولا بتقعيد أجهزته القمعية وعيا منه بضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات على أساس أن كل الطموحات الشعبية تم استبعادها منذ الوهلة الأولى. وفي سنة 1965 اعتمد الإصلاح الزراعي، والذي لم يكن في نظر التاريخ الشعبي إصلاحا، وإنما تكريسا لنظام الاغتصاب الذي أقره الاستعمار الفرنسي، إذ لم يتم التفكير ولو لحظة في إرجاع تلك الأراضي لأصحابها الشرعيين الأصليين وإنما تم توزيعها من طرف الدولة على القصر والمقربين وعلى خونة الأمس وأبنائهم الذين سرعان ما عادوا إلى احتلال المواقع الأساسية في صناعة القرار. (ويرى التاريخ الرسمي المخزني في استرجاع مدينة سيدي إفني من الاستعمار الإسباني سنة 1969، في حين أنه تأكد الآن أن هذا الإنجاز لم يكن قد انطلق من إستراتيجية تحرير المناطق المستعمرة وإنما لم يكن إلا ترجمة لخطة مبلورة من طرف الموساد والمخابرات الأميركية التي كانت ترمي إلى تكريس توازن بالمنطقة يخدم أولا وأخيرا التبعية غير المشروطة للامبريالية وتقوية أسس الاستعمار الجديد). وعلى الصعيد الدولي، تميز عهد الحسن الثاني حسب التاريخ الرسمي المخزني بإرسال تجريدات عسكرية إلى الجولان (سوريا) وأخرى إلى سيناء (مصر) للتصدي إلى الاعتداءات الإسرائيلية، وفي ذات الوقت كانت علاقات القائمين على الأمور بالموساد والمخابرات الأمريكية في أوجها، علما أن المغرب لعب دورا حيويا في تمرير الإستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية بخصوص القضية الفلسطينية في الخفاء. وكان الحدث الأكبر هو المسيرة الخضراء في نوفمبر 1975 ورئاسة الملك لجنة القدس التي سعت إلى إنقاذها من التهويد، علما أن قضية الصحراء ظلت مستبعدة من التصور منذ حصول المغرب على الاستقلال، إذ تم حرمان الشعب المغربي وفعالياته من المشاركة في صنع القرار بخصوص هذه القضية خصوصا أن القائمين على الأمور كانوا حريصين على التمسك بما تقره الإمبريالية بهذا الصدد، وبذلك لم يتحمل لا الشعب ولا قواه الحية أي مسؤولية بشأن ما قرر بهذا الصدد قبل 1999، لاسيما أن كل القرارات الحاسمة بهذا الخصوص تم اتخاذها بشكل فردي بالأساس. وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي تميز عهد الحسن الثاني، حسب التاريخ الرسمي المخزني، بسياسة فلاحية متميزة ساهمت في إرساء القاعدة الاقتصادية المغربية عبر بناء السدود وتوزيع الأراضي على صغار الفلاحين، ومن أجل تطوير القاعدة الصناعية أنشئت معامل ومصانع وشبكة طرقية وموانئ ومطارات. لكن في المنظور الشعبي لم تخرج نتائج كل هذه السياسة على آليات خدمة مصالح القصر والمقربين وتكريس سيرورة التفقير والتهميش والإقصاء لإغناء أقلية لا تكاد تبين، هذه هي النتيجة الفعلية على أرض الواقع اليومي في المنظور الشعبي. وفي هذا الصدد يتذكر المغاربة القرار الملكي الرامي إلى تخفيض السومة الكرائية بالثلث، والتي لم تعط أية نتيجة بفعل أن كل البنيات القانونية لم تؤد إلى فرصة للمزيد من المضاربات وبالتالي لإثقال كاهل المواطنين وليس للتخفيف عليهم في، وقت ظلت أزمة السكن تستفحل منذ حصول البلاد على الاستقلال بدون توقف. وبخصوص إرساء القاعدة الديمقراطية يقول التاريخ الرسمي المخزني إنه تم الإقرار بمجالس حضرية وقروية وبرلمان وإحداث ولايات جديدة لتحسين التقسيم الإداري للمملكة، في حين تبين على أرض الواقع اليومي، أن الأمر لم يتعلق في نهاية المطاف إلا "بتجنيد" عبر انتخابات صورية لأناس يلعبون دور "الكراكيز" لخدمة تصور قائم أصلا، ولتكريس سياسات واختيارات لم يسبق لأوسع الفئات الشعبية أن شعرت أنها تأخذ بعين الاعتبار همومها أو أنها شاركت في بلورتها إطلاقا. فمنذ بداية 1961 وعد الملك بإرساء نظام ديمقراطي بالمغرب في إطار ملكية دستورية، لكن دور البرلمان ظل قاصرا ومعوقا وظل دور الملك هو السائد والمهيمن على اتخاذ القرار بدون حسيب ولا رقيب. وقد ابتدأ العهد الحسني بغليان شعبي واسع المدى في مختلف المدن المغربية، وتم التصدي إليه بالنار لاسيما بعد الإعلان على حالة الاستثناء في يونيو 1965 وتمركز كل السلطات بيد الملك. وفي السبعينيات تكرس عهد ما سمي بسنوات الجمر والرصاص التي أسقطت من الضحايا ما يفوق شهداء الحرية والاستقلال، وذاق فيه المغاربة ويلات لم يذقها حتى في أوج الحماية الفرنسية. بعد الوصول إلى الباب المسدود اضطر الحسن الثاني سنة 1973 إلى محاولة تليين الحكم، وأعلن عن مغربة الأراضي المسترجعة، وهو خيار استفاد منه القصر والمقربين والأقلية التي لا تكاد تبين، ثم جاءت قضية الصحراء لفرض سلم اجتماعي وافتعال إجماع وطني وظلت الأوضاع الاجتماعية تتردى في وقت ظلت مصالح القصر والمقربين والأقلية بعيدة عن كل هذه المشاكل. ومع تردي الأوضاع عمت حالة من الاستياء والاستنفار فشهدت البلاد في بداية الثمانينيات ومنتصفها انتفاضات شعبية عفوية ووجهت كالعادة بقوة النار. وبعد 38 سنة من الحكم ترك الحسن الثاني ما يناهز 50 في المائة من المغاربة أميين وخلف وراءه نظاما مهترئا ولازال في سيرورة تردي وفقر مدقع في كل أرجاء البلاد ورشوة متجذرة حتى النخاع بالمجتمع من أعلى الهرم إلى أسفله والخوف المغروس في ملايين المغاربة الذين أضحوا يكرهون ويمقتون المخزن وكل توابعه وكل من ارتبط به، كما ترك ما يناهز 85 في المائة من الثروات والخبرات الوطنية بيد ما يناهز 3 في المائة من سكان المغرب، وقدم للواجهة بضعة "كراكيز" وهمش رجالات كان بإمكانهم خدمة البلد بصدق عوض نهبه. هكذا يقيم المنظور الشعبي عهد الحسن الثاني على أرض الواقع المعيش. فعهده ظل مطبوعا في الذاكرة الجماعية بسنوات الجمر والرصاص والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبالانتفاضات الشعبية ضد الظلم والقهر والاستبداد، بدءا من أحداث الريف سنة 1959 ومرورا بمارس 1965 وتازمامارت ووصولا إلى قمع مظاهرات الثمانينيات بالرصاص، هذا في وقت تكرست فيه آليات إنتاج وإعادة إنتاج الفقرقراطية والخوفقراطية والإهانقراطية. هذا ما يراه التاريخ الشعبي خلافا لما يراه التاريخ الرسمي المخزني، وهو ما شكل تربة خصبة لترعرع النزعة الجمهورية بالمملكة المغربية. الحلم الجمهوري بالمغرب بدأ الحلم الجمهوري بالمغرب مع اقتناء بعض المغاربة فكرة إقامة جمهورية للتمتع بالحرية والعدالة الاجتماعية وتمكين المواطن من المساهمة في اختيار من يمثله للدفاع عن مصالحه؛ وأغلب هؤلاء الحالمين بالجمهورية المغربية كانوا من النخبة المنحدرة من الفئات الشعبية أو المنحازة إليهم، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. ففي السبعينيات كان شعار إقامة الجمهورية بمثابة قناعة يحملها جملة من المغاربة، بعد أن صرحوا أن النظام القائم لا يمكن أن يغير من طبيعته المخزنية وسوف يتشبث بها مهما كان الثمن ولو أدى ذلك إلى تصفية ثلثي المغاربة والاحتفاظ بالثلث "الصالح". وللإشارة منذ أن حصلت الجزائر على استقلالها، ساد الشعور بأن المسلسل الثوري والتحريري لا يجب أن يتوقف إلا بعد القضاء على النظام القائم بالمغرب، وقد فسر الرئيس الجزائري هواري بومدين، هذا الموقف قائلا: "في الواقع، يعتقد إخواننا المغاربة، أنهم قد ساعدونا في تحقيق استقلالنا عن فرنسا، والآن يتوجب علينا أن نساعدهم في التحرر من الملكية". وفي سنة 1963 قامت حرب الرمال بين المغرب والجزائر، وهي الحرب التي ساندها حزب الاستقلال وعارضها الجناح اليساري في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأدانها المهدي بن بركة من منفاه بالجزائر، وتلت هذه الحرب مرحلة طرحت خلالها إشكالية العنف بقوة. لاسيما وأن هذه القضية عرفت عدة مسارات آنذاك في صفوف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انبثق منه الاتحاد الاشتراكي وحزب الطليعة وفصائل من الحركة الماركسية، ومن أهم تلك المسارات مسار اتجه نحو حمل السلاح تعزز بعد اغتيال المهدي بن بركة، ومسار آخر له ميولات انقلابية. وظل المساران يتحكمان في الحركة الاتحادية بين 1967 و 1973. آنذاك تأكدت فكرة أنه لا يمكن الوصول إلى السلطة إلا باعتماد العنف المضاد للتصدي لعنف الحكم (عنف الدولة). وهذه قناعة كانت منتشرة بقوة وسط كل أطياف المعارضة المغربية التي كانت تناضل من أجل غد أفضل. لكن في غضون سنة 1975 فصل المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وتم اعتماد الاشتراكية الديمقراطية ونبذ كل أشكال العنف. يومئذ ساد الاعتقاد أن اللجوء إلى حمل السلاح ضد النظام ومن أجل التغيير الجذري ليست مسألة إرادية، وإنما العنف ارتبط بشروط سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية، بل ارتبط أساسا بالاضطرار للعمل في السرية. أسلوب الملكية في الحكم شجع بروز النزعة الجمهورية إن ما يهمنا في مجال الحديث عن ارتباط أسلوب الملكية في الحكم وبروز النزعة الجمهورية بالمغرب ليس هو تاريخ النظام الملكي وإنما فقط بعض محطات الحقبة التي أسست للمغرب المستقل، لأنها خلفية من الخلفيات المهمة للصراع على السلطة بالمغرب. وقد يكون من الأفيد الانطلاق من الأربعينيات، ومن أهم أحداث هذا العقد، وثيقة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944). لقد كانت في واقع الأمر عبارة عن عقد سياسي بين المؤسسة الملكية، ممثلة في الملك محمد الخامس والحركة الوطنية ممثلة في حزب الاستقلال، ومنها رغبة الطرفين (الملك والحركة الوطنية) في استبعاد الشعب المغربي وقواه الحية المستقبلية في لعب الدور الأساسي، كما هو شأن كل شعوب الدنيا في مرحلة التحرير، وهذا ما تأكد بجلاء بعد الاستقلال في نهج التعامل مع جيش التحرير وأقطاب المقاومة المسلحة. لقد كان الهدف المشترك بالنسبة للمؤسسة الملكية هو البحث عن الإقرار بالشرعية خصوصا بعد التهميش بفعل سلطة الوصاية. أما بشأن الحركة الوطنية، فالهدف كان هو العمل على إحلال البرجوازية التقليدية (لاسيما الفاسية منها) محل المعمرين الأجانب. هكذا كان منطلق المسلسل الذي كانت حصيلته على الدوام وفي أي مرحلة، تقوية المؤسسة الملكية عبر المزيد من مركزة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري بيدها بدون منازع أو مشارك. ولولا هذا المنحى الذي لعبت فيه الأحزاب السياسية المغربية دورا حيويا لما تمكنت المؤسسة الملكية من الخروج دائما من الأزمات المتكررة أكثر قوة وصلابة. وكلما كانت هذه القوة وهذه الصلابة تزدادان كانت النزعة الجمهورية تزداد حضورا في صفوف المعارضة وقوى التغيير. وبدأت النزعة الجمهورية تستوطن في صفوف قوى المعارضة والتغيير منذ رجوع الملك محمد الخامس من منفاه وحصول المغرب على استقلاله "المعوق" سنة 1956، لاسيما عندما شرعت البرجوازية الفاسية في الاستحواذ على المراكز الإدارية والاقتصادية، وبذلك قامت مقام المعمرين القدامى، وهكذا تحولت رموز الحركة الوطنية إلى معمرين جدد. ومنذ الحكومة الأولى في عهد الاستقلال، حكومة مبارك البكاي وبعدها حكومة بلافريج، تبين بوضوح أن التحالفات بين المؤسسة الملكية والحركة الوطينة كانت مبنية أساسا على الفصل بين السياسي والاقتصادي. وبذلك انصرفت البرجوازية المغربية التقليدية إلى الاستحواذ على جزء مهم من الثروات والخيرات الوطنية ومراكز القرار، وبالمقابل انفرد القصر بالركح السياسي دون منازع أو منافس، ومن هنا تأسست أرضية احتكاره للمجال السياسي. لكن سرعان ما تأكدت رغبة القصر في التحكم كذلك في الحقل الاقتصادي مع ترك هامش ضيق جدا لرموز الحركة الوطنية ذات البنية الاقتصادية. وتكرس هذا الوضع بشكل نهائي سنة 1975 حيث أقر في مؤتمره الاستثنائي بقطع العلاقة مع البلانكي، ذي التوجه الجمهوري بامتياز، الذي كان يقوده الفقيه البصري، وكذلك مع التوجهات الراديكالية، ذات النزعة الجمهورية أيضا، والتي كان قد أسس لها المهدي بن بركة من قبل. وتميز فجر السبعينيات (1971، 1972) ببروز حركة الجيش، التي كانت هي كذلك ذات نزعة جمهورية بالرغم من ارتباطها أصلا بالمخابرات الأمريكية والموساد، وكذلك الشأن بخصوص مشروع أحمد الدليمي الذي انتهى في مهده. ومن أبرز معاقل النزعة الجمهورية في السبعينيات، بداخل المغرب وليس خارجه، الحركة الماركسية اللينينية (منظمات "إلى الأمام" و "23 مارس" و "ولنخدم الشعب")، والتي لعبت دورا جوهريا في كشف خبايا الخيارات السياسية وتأجيج الصراع السياسي والاجتماعي على امتداد عقدين (السبعينيات والثمانينيات) هذا في الوقت الذي فقد فيه الشباب المغربي الثقة في الأحزاب السياسية بفعل تركيزها على شعار الإجماع الوطني مع تغييب كل المطالب السياسية والدستورية والاجتماعية التي ظل المغاربة ينتظرونها منذ الاستقلال. وفي 4 مايو 1990 تمكنت الأحزاب أخيرا من تحقيق أكبر خطوة في حياتها، تقديم ملتمس الرقابة ضد الحكومة، وبعدها كان دستور 1992 حيت تمت الانتخابات التي علقت تجربة حكومة التناوب، وربما أعدمتها. وعند اقتراب المغرب من السكتة القلبية كان دستور 1996 الذي أقر بمكر واضح اعتماد الغرفتين. وتوفي الملك الحسن الثاني في صيف 1999، فذاقت النخبة السياسية لذة كعكة الاستوزار والتزمت بالصمت على كل شيء وتنكرت لكل الأفكار التي كانت مستعدة للموت من أجلها، كما كان يقول بعضهم الذين كرسوا في السابق كل كتاباتهم للتصدي للامبريالية وعملائها. وبرزت نخبة جديدة من المثقفين والتقنوقراط أضحت تمارس كل الاختصاصات والأدوار بواسطة اللجان والصناديق والهيئات الموازية التي ضيقت الخناق على الحكومة، إذ كانت تبلور كل القرارات الحاسمة خارج الحكومة ودون علمها. وبذلك انتهت المرحلة الافتراضية لحكومة التناوب بشكل هادئ وبدون ضجيج كأن شيئا لم يحدث، لاسيما بعد تحقيق انتقال الحكم والعرش بهدوء، وبالتالي انتهت مهمة تلك الحكومة. هذه بعض المحطات التي من شأنها تبيان كيف شجع أسلوب ونهج القصر الملكي في تدبير أمور النزعة الجمهورية بالمغرب. ""