غريب .. وهو المغرب تَجَمَّع فيها وحولها حفدة من لقَّن الاستعمار الإسباني درسا في الرجولة والشجاعة والتضحية والوفاء لقضايا الوطن الكبرى لا ولن يُنسى ، وبخاصة هؤلاء الدارسين لتاريخ المجاهد الراحل عبد الكريم الخطابي بلغة "سرفانطيس". كان قدري أن أعيش جزءا من طفولتي فيها محصلا شهادتي الابتدائية من المدرسة المسماة "سيدي علي بن حسون" إن لم تخني الذاكرة ، وبكونها المدشنة من طرف "اللواء فرانسيسكو فرانكو" ارتبطت بتكوين نخبة المجتمع الحسيمي في تلك المرحلة التي طبعت في ركن من ذاكرتي التعاطف المطلق مع تلك المدينة الريفية بامتياز التي خلقها الباري على مقاس من تربى بين أحضانها من نساء ورجال على امتداد تاريخها المفعم بالشهامة وعشق الحرية لدرجة الذوبان مع قيمها الممزوجة بمسؤولية احترام حريات الآخرين في نطاق ما تسمح به الأعراف المتوارثة أبا عن جد عن سلف صالح ، لا زال ذكره محبوب استرجاعه متى شاءت الحسيمة كقبائل موغل تواجدها فوق تلك الأرض الشريفة في القدم . ... الحسيميون جديون في تعاملهم مع بعضهم البعض حذرون في نفس المجال مع الغير لسبب تحَوَّل مضمونه لميزة حميدة أبعدت الأهالي عن مشاكل عديدة ، سلطات الإدارة المركزية حاولت ذات زمن تفريق النسيج المجتمعي للحسيمة الأصيلة ولم تفلح ، صبَّت أكياسا من المال ولم تغير شيئا يُذكر ، بقيت كالناظور الذي لم يستطع "ألسوسي" فتح دكان فيها إلا بألف حكاية ورواية وتدخلات لها وزنها ، وتلك وضعية لم يشر الباحثون الاجتماعيون لها كظاهرة لها حسناتها وسلبياتها . نجحت السلطات المعنية في ذلك داخل مدينتي جرادة والفنيدق على سبيل المثال وليس الحصر ، أما الحسيمة بقيت وفية لتقاليدها تُطَوِّرُ القَابل للتطوير منها ، وتحافظ عما ارتأته تجسيدا لماضيها ثم ماضيها فماضيها ، كهوية تضيف هالة من وقار على هويتها الأولى والأخيرة المغربية ، في الحسيمة الوطنية لها طعم قوي اللذة شديد الإحساس بإنسانية الإنسان في اختياراته المبدئية غير القابلة للمساومة مهما تضاعفت وسائل الإغراء أو تشددت كقمع ، هناك الرجل رجل ، مسؤول عن حرمة بيته ، بمدونة الأسرة أو بدونها لا يتغير في هذه النقطة بالذات ، أولاده من صلبه شيء لا يناقش ، الأسرة عنده مقدسة لا يمكن تجاوزها لما يخدش الحياء تحت أي عنوان كان ، هذا لا يعني أن الحسيمة منغلقة على نفسها متأخرة معقدة محاربة للتقدم والتطور وسنة الحياة ، بالعكس الحسيمة بلد متفتح ولكن على هوى أهله وليس منجرا كالبعير لمذبحة التلف باسم الازدهار المبني على التقليد الأعمى للغرب ، الحسيمة مفتوحة أبوابها لمن شاء الاستثمار لكن بما يضيف لبنة تساعدها على النهوض الحقيقي للنهضة ، وليس مص دم الفقراء المغلوبين على أمرهم بدريهمات قليلة يصوتون على من يرهن مساحتهم لفائدة مصلحته الشخصية . الحسيمة تحارب الفساد والمفسدين على طريقتها حينما تضيق النطاق بكيفية غير مباشرة وبسرية متداولة مع أركان المجتمع الحسيمي الحازم في محاربة التمييع والانحلال مهما كان مصدره المرفوق بالاشتغال البشع لحقوق معمولة لكل البشر وليس لحفنة فاسدة مخفية تحت غطاء نفوذ ما . الحسيمة حينما تخاطب مسؤولا رفيع المستوى تخاطبه من قلبها النابض بالإقدام القويم والرغبة في تسجيل التاريخ لخطابها وتمتحن في قاعة الانتظار ما يسفر عنه ذاك التبليغ لتقرر ما تراه مناسبا متى حضرت المناسبة ، لاختيار استمرارية الخطاب ، أو الابتعاد الكلي حتى يجود العلي القدير برحمة الفصل بين الظالم والمظلوم . الحسيمة هُمِّشت عصرا ولم تطأطئ الرأس ، أُبْعِدَت دهرا ولم تعلن الإفلاس ، أُفرِغت حتى من ابسط حقوقها وما تجرعت المرارة في أي كأس ، بل انتفضت في صمت ، هجرت في شخص مواطنيها مجموعة تلو مجموعات ، لتسكن قلب أوربا المتحدة بداية ثم تفرعت ، كأغصان دوحة جذورها في تربة الحسيمة الطاهرة ، فأنجبت رجالا ونساء بقدر ما تقدموا هناك ، ظلوا على عهد أبائهم هنا ، مخلصين للغتهم الريفية ، وأصلهم الأصيل الطيب ، محترمين لمن هم أكبر في السن مِنَ المتجولين في شوارع المدينة التي تغيرت جدران دورها واتسعت مِنَ الداخل كمالياتها اعتمادا على عرق الجبين ، والادخار الحلال ليوم الحساب المبين. تعرضت الحسيمة لمحن اكبر من المحن حينما ضربها الزلزال أكثر من مرة ، فخرجت منها حامدة الله ، نفضت ما تضرر من مساحتها محولة الأنقاض مادة خام لمعاودة البناء بهندسة أجمل ومواصفات تساعد على تلقى مثل الضربات الطبيعية بأخف وطأة وأكثر سلامة ، الحسيميون لم يفروا تاركين عقاراتهم تُباع كما أراد السماسرة المستغلين لمثل المناسبات المحزنة منها قبل المفرحة ، أجابوا من جاء بنية الصيد في الماء العكر ، لو كان أهالي "سوس" تركوا بيوتهم المنهارة من جراء أخطر زلزال عرفه المغرب ، لما شُيدت "أكادير" لتبدو الآن جوهرة "سوس" اللامعة على المحيط الأطلسي ، الحسيميون مكثوا للتمكن من الحفاظ على أرضهم بما يرضي وصية الآباء ، يعمهم التضامن الفريد مراقبين الدولة ما عساها لهم تختار ، ومِنِ حُكامها مَنْ غاب عن أداء مسؤلياته اتجاه المصاب الجلل ومَنْ حضر ، الحسيميون في غنى عن "أغطية "لا تقيهم برد ما حدث لها بالتتابع من مآسي ، ولا قنينات ماء معدني يحصد أصحابه الملايين ، ولا صراخ قائد فاقد عنوان مكتبه يكون تلك اللحظات العصيبة ، ولا عامل (محافظ) ينسق شؤون الحكومة البعيدة عنه والحسينية معا ، كلما خاطبها خاطب أغرقته في إجابة لم تشبع منها أبدا، تخص انشغالها الأكيد في أولوية الأولويات ولا أحد في الحسيمة يعلم بأولوية لها أولوية أكثر من أولوية العناية بآلاف المواطنين أصبحوا في العراء بعدما كانوا محصنين في مقراتهم يملكون ما يعنيهم عن الحكومة وتماطل الحكومة السابقة . المطلوب من عامة المواطنين الإخلاص للوطن ، ويفسرون الأخير بحكام الدولة من حيث إبداء الطاعة والصمت عن طيب خاطر إن تكلموا مهما راق لهم أي موضوع أكان مرتبطا بالصالح العام كما يتظاهرون أو بمصالح كل واحد فيهم على حدة ، إذن لما لا يخلص الوطن لهؤلاء المواطنين ؟؟؟ ، أم القضية تعامل السيد مع عبده وكفي . الوطن مبني بعرق الشعب وتضحياته وصبره عما يراه ويسمعه ويلمسه ، ولنا في الحسيمة المثال الحي والدليل القاطع ، أن الوطن شعب والشعب وطن ، ومن بينهما متروك بخاطرهما معا ، وغير ذلك مجرد فلكلور ، يحتفي به من يعتبر أن عقول المغاربة لا تُكْتَسَبُ إلا بالمزمار والبندير ، ولو كان يعرف الحقيقة لقبل باب كل بيت متى ساقه القدر لمدينة مثل الحسيمة . (يتبع) مصطفى منيغ / مدير نشر ورئيس تحرير جريدة الأمل المغربية البريد الالكتروني :[email protected]