إنّ السلطة هي التمثل الفعلي لصورة القوة وملامح الجاه والباه، عبر استلاب عناصر الرسم والتصوير وإخضاع البصر والبصيرة، أي بجعل أدوات الخلق الأصيلة حكراً على المتسلط. فالاستبداد، واحتكار ممارسة العنف، لا يتحققان إلا بعد إزلاج حواس المستبَد به. كذلك، يُشيّد الحكام أركاحا لإحداث الفرجة وتحكيم الإشاعة ونحت المشهد. تنحدر كلمة مشهد من جذر ش ه د، شين الشمس وهاء الهلال ودال الدلالة عليهما، ثم الدهشة منهما. يقوم جهاز الدولة إذن، في سعيه لفرض صورة للسلطة يحمي بها سلطته الصورية، شرعية كانت أم غير شرعية، إلى عزل الممارسات الجماليّة عن الشأن السياسي وتحييدها داخل المجال العام. هكذا يُحصر دور التفكير والأدب والفنون، القائمة أساساً بالتوعية والتذهيب والتحريض، في التثقيف الترفيهي أو المحاكاة الموجعة أو الضحك الساذج أو اللهو الخائب. ما يهمنا، ههنا، هي المعرفة باعتبارها عماد المشهد (نظام مشهودية)، والسلطة كجزء من الفرجة (نظام عيانيّة): الانتقال من تاريخ للصور إلى تاريخ للسّماع، ثم نحو تأريخ للصّور والسّماع والرؤية، نجتمع فيه داخل التقانة الشاملة بسرديّاتها وفنونها وتكنولوجياتها وباثولوجياها. لقد ظل المغرب الأقصى، وبين الأقصى والأدنى مئة وثمانون مغربا، مجالا موحشا وشبه مغلق، مع أن المدينية والمُلك فيه قديمان. فقد استعصى على الأغراب، شرقيين وغربيين، ولوج تلك الإمبراطورية المقطّعة بالأوبئة والحروب. ولمّا كان التحديث الاستعماري الغربي يجوب بآلاته وخرائطه ورهبانه وعساكره مصر والشام، أواسط القرن التاسع عشر، كان المغاربة خائضين في مسح عمش القرون الوسطى عن عيونهم: يراقبون بحذر ويتجادلون في مسائل الفقه وينظرون. نادرون هم أولئك الذين اخترقوا مضيق جبل طارق، ولعلّهم يُعدّون على رؤوس الأصابع بين جواسيس ادعوا الإيمان وفنانين حالمين طلبوا المغامرة، كان بينهم الرسام الرومانسي دولاكروا الذي افتتح مرحلة جديدة من الانفتاح على عهد المولى عبدالرحمن (1859-1789)، ولحقه في ذلك عدد من الرسامين والجنود مدججين بالبنادق والمصوّرات، دشنوا جميعهم الاستشراق الفني الذي بلغ أوجه مطلع القرن العشرين. كيف تشكلت الصنائع الجمالية المغربية، البصرية منها خصوصا؟ وما كان دور السلطة، حماية فرنسية أو مؤسسة ملكية، في توجيه الخطاب الجمالي والسياسي للمتون الفقهية والأدبية والإنتاجات الفنية الحديثة والمعاصرة؟ بؤبؤ المغاربة اعتنى المغاربة بالعلوم اللطيفة، من موسيقى وكاليغرافيا وفرجة شعبية، لكن فن الرسم اقتصر عندهم على الحِرف التقليدية والخطاطة والوشم، وذلك راجع إلى تجذر المذهب المالكي فيهم ولجذريته في قضية "التصوير"، فأخذ (الرسم) أشكال الحياكة والرقش والنقش على الجبس والمعادن والخشب، ونشأ خط مغربي اعتمده الفقهاء والسلاطين. يكتب ابن خلدون: "أما أهل الأندلس فانتشروا في الأقطار منذ تلاشي ملك العرب ومن خلفهم من البربر... فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية... وتعلقوا بأذيال الدولة، فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفا عليه (...) وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريبا واستعمالهم إياهم سائر الدولة ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يُعرف". نسيان عهد الخط هو تدشين مرحلة الرسم. رسم دولاكروا بورتريها للمولى عبدالرحمن، وسيصبح ذلك عادة في القصر السلطاني، إلاّ أن عامة المغاربة المسلمين سيرفضون لسنوات، وحتى توقيع معاهدة الحماية مع فرنسا، أن يكونوا موضوعا للصورة الاستعمارية إلا إكراها (تصوير القتلى وتحويلهم إلى بطائق بريدية دالة على النصر)، باستثناء الأقلية اليهودية والغانيات. عام 1908م، عزل أهل الحل والعقد السلطان المولى عبدالعزيز، فآل العرش إلى أخيه المولى حفيظ، بتهمة تنازله عن التقليد لحساب التحديث، وترك السلطة الشرعية لصالح تقنية ماتعة ومسرفة. فقد افتتن السلطان بمظاهر اللهو العصري وصرف عليها الكثير، ولحقه في الافتتان جلّ السلاطين والملوك والرّعايا مع تفاوت وفرق فيه. على هذا النحو، استغلت فرنسا انبهار السلاطين ورعاياهم بالحداثة الصناعية لكي تبسط سلطتها من خلال التقنيات، في الحكم والحرب والأثنوجرافيا وغيرها، على البلد بأكمله. مع نفي محمد الخامس وذويه (818 يوما)، ذاعت عام 1953م إشاعة مفادها أن السلطان الغائب سيظهر في القمر. صعد المغاربة فوق السطوح ونظروا عاهلهم وهم يلعنون السلطان البديل: "ابن عرفة يا وجه الحمار، شوف سيدك في القمر". حتى عاد كالعرجون القديم. إنّ عودة محمد الخامس ستكون، في بؤبؤ الشعب، عودة مثال هائل للصمود ورجوعَ رمز وطني ثائر، لكنها لن تكون، من خلال نظّارات فرنسا وولي العهد، سوى أيلولة صنم وديع إلى وطن ممزق كان الاستعمار قد حنّطه تاريخيا ورمزيا عبر توشيحه بعد نهاية الحرب الكبرى الثانية بوسام الصليب الأكبر كرفيق للتحرير. نظّارات البلاط للعين، كما للجنين، طفولة خفية وغامضة داخل رحم البصائر. نقول للمحبوب: أنت مومو العين. مومو تعني كذلك الطفل نفسه. الطفل المصوّر والمصون في العين. والطفل، كما العين، يصير كهلا. يضعف بصره، فيلبس النظارات ثم يؤول إلى العمى. عقب وصول الحسن الثاني إلى الحكم، لم تبق الصورة الذهنية التي ترسّخت لدى المغاربة عن السلطة مع محمد الخامس، السلطان الورع، متداولة ورائجة. فقد محق الحسن بن محمد والده كأيدولة (Idole) شعبية، بمعنى أنه أزاحه كأثر للسيادة وشبح للأبوة، ورسّخ لأيقونات (Icone) حسنيّة حاسمة في تاريخ المغرب الحديث. ولعلّ ذلك تبدّى بدءً في تلك المسرحة التراجيدية لموت السلطنة ومجيء المُلك، وتحول بعد ذلك إلى ذكرى للتخويف بالقداسة. يكتب ابن الهيثم في كتاب المناظر: "وإذا أدرك المبصر المبصرات المتفرقة متصلة فهو غالط في اتصالها، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لأن الاتصال يدرك بالقياس". لم يكن لمحو أيدولة الأب التحقق دون مغالطة بصرية وقياسية: إيقاظٌ مشهودٌ للسالف السحيق، من خلال التأكيد على "النسب الشريف" والحداد المستمر على الأب لنسيانه، بُغية تكريس علامة أصالة الأنموذج الحسني على اعتباره بداية المُلك ونهايته، ومصدر القانون وخرابه. يمكن القول إن الملك بلع حرفيا صورة السلطان، وتقيء منها علامات وشعائر يتعبّد بها الرعايا. فقد كان الحسن الثاني قد رفض إقامة تماثيل لوالده، ولزعماء الحركة الوطنية، توافقا مع "تحريم" الفقهاء المغاربة للنحت التشخيصي، واحتكاما لحديث الرسول: "إنّ أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون". فصار المغرب واحدا من البلدان العربية القليلة التي تغيب عن ساحاتها النصب التذكارية. في المقابل، أغرقت بورتريهاته الأوراق النقدية، وغزت خطاباته القنوات وصوره الفضاءات العامة والخاصة. لم يكن الحسن الثاني خاضعا لفقه أو مذهب، بل كانت له ضوابطه السيادية الخاصة، وبها أسند إلى نفسه صفة الأول في جميع المجالات: فهو الملك الأول والفنان الأول والرياضي الأول، إلى آخر ذلك من الأوائل. هكذا صار كل معارض، يرتجي أخذ صدارة جماهيرية أو التحول إلى أيقونة منافسة للأيقونة الحسنية، بمثابة غول غابوي يجب اغتياله: المهدي بنبركة، الجنرال أوفقير،... أما الفنون اللطيفة، فقد ازدهرت داخل البلاط وتراجعت بين الناس، فأضحت تجسيدا لإخضاع الصانع والمطرب والرسام والكاتب والمقرئ والفقيه لسطوة فعلية ووهمية مثلها ذاك الشرير المُبجّل والوحش الحكيم. الوجه وأقنعته في سلسلة "خرجة الملك"، قام الرسام حسن الكلاوي، وهو ابن الباشا الكلاوي الذي كان قد انقلب على السلطان لصالح الإقامة العامة الفرنسية، باستنساخ التقليد الاستشراقي لدولاكروا لتقديم "بيعة تشكيلية" للعرش العلوي. مات الملك، عاش الملك. إنّ الولاء لرمز الدولة في المغرب، عبر التجارة والشفقة والإحسان من جهة، والتشكيل والسينما والفوتوغرافيا والفنون المعاصرة من جهة أخرى، سيصبح العلامة الفاصلة لتعاقد مستجدّ بين الشعب والدولة، وبين النخب والقصر. قناعان لوجه السلطة: ملك للفقراء وملك للفنانين. معلوم أن الحسن الثاني منع ولي عهده ممارسة الرسم، وحذا في ذلك حذو والده عندما منعه من الخوض في الموسيقى. لكن محمد السادس لم يقتف أثر الجد ("جدّنا المقدّس") ولم يسر على سنّة الأب ("والدنا المُنعّم")، بل وحّد، بشكل ملفت للانتباه، كلا من الأيدولة والأيقونة في إجراءاته السياسية وممارساته الجمالية، وحّدها بالتّرك، متخليا عنها لحساب الفانتازم الذاتي والعيانية المؤسساتية: التصالح مع ماضي الأب المستبد، توزيع المؤونة على المعوزين في رمضان، شراء أعمال الفنانين التشكيليين والثناء عليهم، الاحتفاء بمشاهير البوب آرت في الغناء والفكاهة والتمثيل، تأسيس المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، تشييد متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط،... . تلك الإرادة على توحيد الأيدولة والأيقونة، سرت أيضاً في رغبته لتقريب اقتصادي بين الصناعة التقليدية والفن المعاصر باعتبارهما مصدرا للكسب. يقول في إحدى خطاباته: "يتعين رد الاعتبار للحرف اليدوية والمهن التقنية، بمفهومها الشامل، والاعتزاز بممارستها وإتقانها، عملا بجوهر حديث جدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما أكل أحد قط طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده...". كثير من أولئك الذين يحصون "أفضال" الملك على الفن وأهله، وعلى الحرف وأصحابها، تحولوا هم أنفسهم إلى مدراء غالريهات فنية أو متخصصين في الزليج والبخور. وصار الأكثر تعففا منهم عاشقا للوحة والصورة، يبيع ويشتري فيها للزيادة في المال والحظوة، وللتقرب من قصر مسح الدم عن يديه ولطّخهما بالألوان. ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. ولربما كان خوف العاهل الشاب من السقوط في فخ التقديس أو التبجيل هو ما صيّره طيفا حقيقياً لهما، فأضحى سوق السياسة والفن على عهده متجرا وثنيا للآلهة القديمة، يديره كوميديون مقنّعون يعرضون الرموز السيادية للدولة، بما فيها الدستور والملك عينه، في المزاد العلني. إنّ التوحيد معطى جمالي يكشف الوجه، يُعرّي عنه أقنعته المتعددة، ولا يرفض التجسيم (التّصوير) باعتباره فنا للرّسم والتحريك والإنشاء. وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام. وإنما يلفظه كقوّة لإخضاع الكائن، كذلك يُهذّب أذواق الناس ومعارفهم ويَعتقهم من سلط مركبّة، تأتي وتذهب وتعود في صيغ البنوّة والأبوّة والأمومة، وفي أشكال استعراضية للفولكلور تارة وللثقافة تارة أخرى، تستنزف كينوناتهم الخاصة وهوياتهم المتحوّلة، وتحدّ من سعيهم نحو الاتّزان والإبداع. لكن عن أي توحيد نتحدث؟ هل يكون تلك العملية الجامعة لليتم بالطبيعة، للمكان بالمعمار، بين الأخذ والعطاء والفقدان والإيجاد، أم أنّه أو يُراد له أن يكون مجرّد إجراء للسيادة السياسية، القبلية والتجارية، في شكلها الرأسمالي المشوّه؟ تعني كلمة "كمّارة"، في العامية المغربية، وجه منحوس أو قبيح أو ممسوخ حتى. وأفترض أنّها منحدرة من "Χίμαιρα/chimaera"، اسم الحيوان الأسطوري الذي يجتمع الأسد والثّعبان والماعز في بنيته الجسمية الواحدة. والكمّارة هي أيضا الوهم (Chimère)؛ الآتي الكذّاب والزمان الغرّار، أو الملامح المموهة لأشخاص بلا أسماء ولا أرسام. فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون. والعياذ به منه.