الإنفاق مشروع أمة يرتبط بالدخل والمعيشة ومعالجة الفقر في الريف والمدن، رؤية اجتماعية للتنمية، نظرية في توزيع الثروات بين من يملك ومن لا يملك، حركة تفاعل اجتماعية ذات بعد اقتصادي، إنه بلغة الاقتصاد "عدالة توزيع الثروة" و ليس إرشادات وعظية تترك للإنسان الاختيار. فالهدف من الثروات هو إسعاد الناس وتلبية حاجياتهم الحقيقية وليس هدفها زيادة الثراء؛ فلقمة العيش حق لكل إنسان، يضمنها التعاقد الاجتماعي، مع مسلمة العمل الواجب على الجميع بالطبع، فليست هناك مصاريف دون منافع. إن مشكلتنا ليست في إمكاناتنا بل في سياسة تخطيطنا، في سوء توزيع الثروة، مصدر المشاكل وعائق التنمية، والمعلوم أن نظرية التوزيع تحدد طبيعة الاقتصاد. نظرية "الإنفاق الاستثماري" نظرية الإنفاق لا تعني شيئا في ذاتها؛ لكنها تأخذ قيمتها من التساؤلات المطروحة والإجابات المقترحة، والإنفاق لا يحقق تنمية اقتصادية فحسب بل يبني حضارة. بحس اقتصادي بسيط، حين تتركز الأموال بيد فئة قليلة من الناس (أي بدلالة مفهوم الاكتناز القرآني المقابل للإنفاق الاستثماري)، فالباقي لا يستطيع تلبية الطلبات، ولا يوجد إنفاق استثماري، فتبدأ مشاكل البطالة وتخفيض الأجور ونقص السيولة النقدية وضعف القدرة التسويقية المرتبطة بالقدرة الإنتاجية وبالتالي تتعطل الآليات الاقتصادية، فينعكس ذلك على المستوى الاجتماعي والأمني ثم السياسي، وتنعدم الثقة بين الفرد وبين الدولة، وتصبح العلاقات إلزامية لا اختيارية. فيأتي الإنفاق كتشريع بناء وتشريع صيانة، وقد اقترن بالعبادات كالصلاة (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) إبراهيم 31، وهو أنواع: الإنفاق الخيري والاستهلاكي والاستثماري، الأول بابه مفتوح والثاني مرتبط بالأسرة ولو بعد الطلاق، والثالث بناء تنموي حضاري، الإنفاق الخيري والاستهلاكي جزء من الثروة، أما الإنفاق الاستثماري فهو كل الثروة وهو مقابل تحريم الاكتناز، بهذا تتحرك الحركة الاقتصادية في المجتمع، وقد جاء توجيه الإنفاق الاستثماري واضحا في القرآن وبشكل كلي لا تبعيضي: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) البقرة261 ثم (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) البقرة 274. فالدعوة إلى الإنفاق خشية وقوع الكساد (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) إبراهيم 31، وفي سياق آخر يرتبط الإنفاق بمقصدية التجارة التي لن تبور. كما ارتبط الإنفاق بالتهلكة (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين) البقرة/ 195 أي أنفقوا وأنقذوا أنفسكم من التهلكة أو بمعنى أن التهلكة قد تكون نتيجة عدم الإنفاق، ويترتب عن ذلك الارتدادات الاجتماعية. فعدم الإنفاق، أي سوء توزيع الثروة، لا يذهب بالبيع فقط بل بالمحبة والتعاون (لا خلال). والملاحظ أن تشريع الزكاة لا علاقة له بالإنفاق؛ فالزكاة حق الفقير في مال الغني يرده إليه، أما الإنفاق فهو أن يضع الإنسان ماله في خدمة المجتمع، وهو الفرق بين (آتى المال) و(آتى الزكاة ). قانون المضاعفة للإنفاق الاستثماري إن المضاعفة الناتجة عن الإنفاق الاستثماري لها معنى مفتوح لم يبينه الله تعالى لتغير الظروف ولمدى تحقق أبعاد الإنفاق ومستويات "سبيل الله"، فمن درجاتها "عطاء من لا يخاف الفقر" و"عطاء الريح المرسلة " و"أجود ما يكون في رمضان"؛ فقانون المضاعفة قد يكون محددا أو غير محدد، وفق معايير واقعية، فهي ترتبط بحالة المنفق وإيمانه وإخلاصه، وما مدى قدر النفقة وموقعها والنفع الذي تقدمه، وهذا ما يعرف في علم الاقتصاد بنوعية الاستثمار وموقعه وزمنه وآثاره الارتدادية المباشرة وغير المباشرة، ويسمى "مضاعف الاستثمار"، وهو أهم شروط الاستثمار الكامل المنفعة. فالمضاعفة غير المحددة التي وعد بها الله نوعية وكمية حسب جودة الإنفاق وحسن الاستثمار، فالإنفاق الاستثماري الذي يلبي حاجة المضطر أكثر مضاعفة عند الله، والذي يلبي الاحتياج الحقيقي لا الوهمي أكثر جزاء. إن المضاعفة مرتبطة بجلب المنفعة وبالإبداع في الإنفاق وتحسين جودته، وبالتالي تحسين نوعية الحياة. والمضاعفة شأن إلاهي حسب حكمته، فهو خبير بخلقه (والله يضاعف لمن يشاء) من ناحية، وعطاء الله ليس حقا لك واجبا عليه تعالى، بل هو فضل منه. إن عدالة التوزيع تمنح ضمانات اجتماعية وتحرك كل طاقات المجتمع وتغير النفوس والسلوكات، وتقلل من "الارتدادات" الواقعية. فالسر في ظلم الإنسان لا في قلة الموارد (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار) إبراهيم 34.