أثار قرار الإحالة الذي أصدرته الغرفة الجنائية بمحكمة النقض بناء على ملتمس الوكيل العام للملك لديها، والقاضي بنقل الاختصاص المكاني من محكمة الاستئناف بالحسيمة إلى محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، جدلا قانونيا اتخذ أبعادا سياسية صدرت إثره العديد من البيانات من طرف الجمعيات الحقوقية، والتي تدفع بعدم قانونية الإحالة وتعتبرها قرارا سياسيا، مطالبة بالإقرار ببطلان قرار الإحالة لخرقه أحكام المادة 270 ق م ج التي تقضي بضرورة اتخاذ هذا القرار في إطار مسطرة التحقيق أو المحاكمة. هذه القراءة الخاطئة ساعدت على انتشار فكرة بفعل البيانات والمقالات التي تصدت للموضوع، مفادها أن محكمة النقض أخطأت بقرارها هذا، الذي علاوة على خرقه القانون (المادة 270) فإنه يخفي بين طياته قرارا سياسيا هدفه تهريب الملف من الحسيمة إلى الدارالبيضاء. إن هذه القراءة المتسرعة والخاطئة، علاوة على كونها تكشف انعدام الإلمام الدقيق بأحكام قانون المسطرة الجنائية، فإنها تكشف جهلا فاضحا بأصول وقواعد علم تفسير القانون وفق ما سوف نوضحه أدناه. 1 سوء الفهم الكبير كل من سعى إلى مناقشة موضوع الإحالة من أجل الأمن العمومي لم ينتبه إلى أمر في غاية الأهمية يرتبط بطريقة تنظيم المشرع للإحالة بصفة عامة بنوعيها للتشكك المشروع وللأمن العمومي؛ فالمشرع في تنظيمه لمؤسسة الإحالة ميز صراحة بين مؤسسة الإحالة من أجل التشكك المشروع وخصها بأحكامها، وهي المادة 270 و271 فهو نظام مبدئيا مستقل عن الأحكام المتعلقة بالإحالة من أجل الأمن العمومي. ولا يمكن تطبيق أحكام نظام الإحالة من أجل التشكك المشروع على الإحالة للأمن العمومي إلا في الحدود الضيقة التي يرتضيها المشرع صراحة. إن مبدأ الاستقلالية الذي لا يأخذه دعاة نقد موقف محكمة النقض بعين الاعتبار لا يستحضر هذه الحقائق، إذ خص الإحالة من أجل التشكك المشروع بمادتين في إطار الفرع الثالث، وخص الإحالة من أجل الأمن العمومي بنظام مستقل في الفرع الرابع؛ ولو كانت نية المشرع غير ذلك لعمل على دمجهما في نظام متكامل. وهكذا حدد المشرع في الفرع الثالث شروط مسطرة ممارسة الإحالة من أجل التشكك المشروع، والتي يتعين لوضوح أحكام المادة 270ق م ج أن تتم خلال مرحلتي التحقيق والمحاكمة. وباستقلالية شبه تامة نظم المشرع الإحالة من أجل الأمن العمومي في الفرع الرابع في مادة فريدة، وهي المادة 272 م ج. لا يمكن حقيقة إنكار فصل نظام الإحالة من أجل التشكك المشروع عن نظام الإحالة للأمن العمومي، والذي تعزى أسبابه إلى اختلاف نظام الإحالة للتشكك المشروع عن نظام الإحالة للأمن العمومي. وهذا الاختلاف هو الذي يرتب اختلاف الزمن الإجرائي الذي يمارس فيه نظام الإحالة للأمن العمومي، إذ خلافا لما تنادي به بعض القراءات الخاطئة من ضرورة قصره على مرحلتي التحقيق والمحاكمة، تطبيقا للمادة 270 التي لا تتعلق بالمطلق بنظام الإحالة للأمن العمومي الذي يعد نطاق تطبيقه أوسع من ذلك، يشمل حتى مرحلة البحث التمهيدي. إن المشرع أمام وضوح أحكام المادة 272 حين حدد صراحة المرحلة الإجرائية التي يمكن فيها ممارسة مسطرة الإحالة من أجل التشكك المشروع فإنه لم يفعل ذلك بالنسبة للإحالة من أجل الأمن العمومي. وما يعضد هذا التفسير هو أن المشرع أحال في توضيح شروط ممارسة الإحالة للأمن العمومي على المادة 271، وبالتالي فإن السعي إلى تمديد نطاق أحكام المادة 270 التي تشير إلى مرحلة التحقيق والمحاكمة وتطبيق أحكامها على المادة 272 هو أمر خاطئ يتعارض مع مقاصد المشرع الذي أشار صراحة في الفقرة الأخيرة من المادة 272 إلى ...."حسب الكيفيات المنصوص عليها في المادة السابقة"؛ وهو يقصد المادة 271، ولم يقل المادتين السابقتين ليشمل نطاق التمديد حتى المادة 270، إذ لا اجتهاد مع وضوح النص. 2 الاختلاف صحيح أن المادة 270 ق م ج واضحة في تحديد المرحلة المسطرية لممارسة الإحالة من أجل التشكك المشروع، وهي مرحلة التحقيق أو المحاكمة، ولكن يلاحظ أن المشرع لم يحدد المرحلة المسطرية لممارسة الإحالة للأمن العمومي إذ تركها بدون تحديد. والبعض نتيجة للقراءة المتسرعة يعتقد أن أحكام المادة 270 تخص الإحالة للأمن العمومي الذي ورد في فرع مستقل؛ وبالتالي حتى محاولة إعمال القياس في هذه الحالة سيصطدم بخرق مبدأ الشرعية الإجرائية التي لا تجيز ذلك إلا في نطاق ضيق. ومن جهة ثانية فإن المشرع حين سعى إلى تحديد شروط ممارسة الإحالة للأمن العمومي اكتفى صراحة في السطر الأخير من المادة 272 بالإحالة على الأحكام الواردة في المادة 271، مستعملا تعبيرا لا يمكن بأي حال أن يكون موضوع نقاش حسب الكيفيات المنصوص عليها في المادة السابقة، وهو يقصر نطاق الإحالة على المادة 271، ويستثني المادة 270 التي تربط بين الإحالة للتشكك المشروع ومرحلتي التحقيق والمحاكة. إن تعبير المادة السابقة أتت بصيغة المفرد وليس الجماعة، والمادة السابقة لا تعني المادتين السابقتين. وبالعودة إلى الفقرة الأولى من المادة 271 المحال عليها بالمادة 272 لتحديد شروط ممارسة الإحالة للأمن العمومي سنلاحظ أن المشرع حدد الزمن الإجرائي الذي يمكن فيه ممارسة الإحالة، بالإشارة إلى "قبل كل استجواب أو دفاع في الجوهر". ونحن يهمنا فهم قبل كل استجواب لتحديد المرحلة الإجرائية الممكن في إطارها اتخاذ قرار الإحالة. فالمرحلة الإجرائية التي يقصدها المشرع "قبل كل استجواب" هي مسطرة البحث التمهيدي، أو حتى قبل الشروع في الأبحاث التمهيدية؛ إذ إن استجواب المتهم وسماع أقواله وتصريحاته تتم في هاته المرحلة (المواد 80،74،73،67،66،47،24 قانون المسطرة). إن مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 271 المحال عليها بالمادة 272 المنظمة للإحالة للأمن العمومي لا تشير صراحة لا إلى هيئة التحقيق أو الحكم كما سعت العديد من القراءات إلى ترويجه، عن طريق الربط الخاطئ بين المادة 270 الخاصة بالإحالة للتشكك المشروع وبين الإحالة للأمن العمومي المنظم بمادة فريدة تحيل لتحديد شروط ممارستها حصرا على المادة السابقة، وهي المادة 271؛ وبالتالي يتضح أن نطاق ممارسة مسطرة الإحالة للأمن العمومي أوسع نطاقا من الإحالة للتشكك المشروع، بحيث تتضمن مرحلة البحث التمهيدي. 3 خلفيات التمييز بين الإحالة للتشكك المشروع والإحالة للأمن العمومي لا تشترك مسطرة الإحالة للتشكك المشروع في الأسباب المبررة لاتخاذها مع مسطرة الإحالة للأمن العمومي، إذ إن لكل منها أسباب مختلفة، الأمر الذي اقتضى تمييز نظامهما القانوني. إن أسباب التشكك المشروع لا تكون بادية في معظم القضايا إلا خلال مرحلتي التحقيق أو المحاكمة وبالتالي نفهم لماذا نص المشرع في المادة 270 على هاتين المرحلتين الإجرائيتين لاتخاذ قرار الإحالة؛ فأسباب التشكك لا تكون بارزة ومعروفة خلال مرحلة البحث التمهيدي، التي لا يخشى فيها على المتهم لأنها لا تنتهي بقرارات حاسمة في قضيته كما هو عليه الأمر في نطاق مسطرة التحقيق الإعدادي والمحاكمة؛ لذا أرجأ المشرع ممارسة هذه المسطرة إلى غاية إحالة الملف على هيئة التحقيق أو الحكم. وخلافا لذلك فإن الإحالة للأمن العمومي تستهدف دفع خطر حال يهدد الأمن العمومي، وهذا التهديد قد يقع في أي مرحلة إجرائية ومن ضمنها مرحلة البحث التمهيدي، الأمر الذي دفع بالمشرع إلى توسيع نطاق ممارسة الإحالة للأمن العمومي. إذ لو أرجا المشرع اتخاذ قرار الإحالة حسب بعض القراءات الخاطئة لغاية عرض الملف على هيئة التحقيق أو الحكم فإننا قد نكون تأخرنا كثيرا في الحفاظ على الأمن العمومي، وعلى ضوء الاعتبارات السابقة. * دكتوراه الدولة في القانون، أستاذ قانون المسطرة الجنائية، جامعة المولى إسماعيل مكناس