كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل الرابع عشر: (رسالة من خالد إلى معاذ) عزيزي معاذ، أشكرك كثيرا على رسالتك. فاجأتْني تماما وأنا في وحدتي هنا في سجن سات فيلاج بطنجة في انتظار المحاكمة. أوْصلها لي أحد الحراس وهي في حالة يرثى لها. يبدو أنهم لم يقرأوها فقط، بل كانوا يفتشون بين حروفها عن شيء يستعمل ضدي كي يرسلوني إلى غوانتانامو ربّما.. لقد أعادتني رسالتك سنوات طويلة إلى الوراء عندما كانت الرسائل الورقية تحمل لنا شوق المغتربين وجديدهم الذي يكون قد مرّ عليه شهر أو أكثر.. لكن شهرا بالنسبة لذلك الزمن المتباطئ كان يعدّ "زمنا قصيرا".. تلك المظاريف بأطرافها المزيّنة بالأزرق والأحمر والمكتوب عليها "باغ آفيون"، أي "بالطائرة".. تذكرها عزيزي مراد؟ الآن، شهرٌ واحد فقط كاف جدا لتكسب ألف صديق وتمسح خمسمائة آخرين من على فيسبوك، وتتسلم عشرات الرسائل الجامدة التي تحمل مشاعر مكتوبة لا يصلك منها أيّ شيءٌ إلا فيما ندر.. تسألني عن أحوالي عزيزي معاذ.. ماذا أقول لك؟ سؤال بسيط سهلٌ من كلمتين، وإجابته طويلة مركّبة عميقة.. كيف يكون يا ترى حال شخص تم ترحيله من بلد أجنبي سافر له من أجل لقاء أدبي، نحو بلده الأصلي بعد خمسة أيام بتهمة التهريب والمشاركة في سرقة لوحة فنية وجدوها مدسوسة في حقيبته؟! قد يكون صدمة أو خبرا حزينا بالنسبة لشخص قام بتلك الفعلة لكنهم كشفوا أمره.. لكن كيف يكون حال شخص لاهٍ غافل لا يعلم أي شيء عن الموضوع؟! الطريف والمحزن في آن واحد أنهم يتهمونني بسرقة لوحة فنية من إرث طنجة التاريخي.. أيعقل هذا؟ أنا.. ابن طنجة.. العاشق الولهان الذي قضيت سنوات طوال من عمري أكتب مقالاتٍ دفاعا عن طنجة وعن تاريخها ومآثرها وتراثها كلّه ينتهي بي المطاف متهما بسرقة طنجتي؟ أحيانا أشك، بصدق، أنني في كابوس وأقول أنني قد أنهض في أية لحظة لأجدني أهرش شعري متسائلا أين أنا، قبل أن أكتشف أنني لازلت في غرفتي وكأن شيئا لم يكن. لكن لا شيء يحدث من هذا. يقولون أننا نرى الكوابيس والأحلام بدون ألوان.. وما أراه للأسف ملوّن.. ملوّن جدا في الحقيقة.. بالنسبة لجديدي، فهو أنني أتلقى زيارات منتظمة من صديقينا المهدي ومنير، وبعض أفراد عائلتي أيضا.. وطبعا من "عزيزة رحمة"، تلك المرأة الطيبة التي كنّا نبيت عندها من حين لآخر أنا وأنت عندما نصل متأخرّين عالمين أن الأمور بالبيت لن تمر على خير.. فنقول لها أننا كنا نذاكر مادة الطبّ (وغالبا يكون ذلك في شهر يوليوز!!) في كل مرة، فتصدقنا باعتبار حلمها هو أن نكون جميعا دكاترة.. "أكليوفوبيا".. لقد كانت "عزيزة رحمة" تعاني من فوبيا الألم، ولازالت، لذا كانت تريدنا دكاترة ً نحميها منها.. الحقيقة أنني لم أكن أريد لأحد أن يعلم بالأمر، لولا ثورة التكنولوجيا التي نشرت الخبر كنار ٍ في هشيم ٍ. من الأمور القليلة جدا التي أعترف لنفسي أنني أجيدها هي قدرتي على تحمل المصائب لوحدي. لا أريد لأحد أن يحمل همّي. يكفي الناس همومهم.. عندما أشعر بحزن المقربين من أجلي أزداد حزنا.. لذا، دعوني أصارع الهم ويصارعني وأنت أقعدوا فقط خارج الحلبة وادعوا لي بالتوفيق.. هذه رسالتي لهم.. لكنك في آخر المطاف لا تستطيع أن تحرم الناس من حقهم في حبك والتعاطف معك. كيف يتم هذا التعاطف والحبّ؟ للأسف هم من يقررون ذلك وليس أنت.. هكذا جاءتني عزيزة رحمة تمشي على استحياء قالت: - ولدي... فقط قالت هذا ثم انهارت تقبّل يدي.. بالله عليك من يستطيع تحمّل موقف كهذا؟ قبلت أنا يدها، كتفها، رأسها.. بكيت أخيرا بعد مقاومة دامت شهرا تقريبا.. بكيتُ وبكيتُ حتى شعرت أن مقلتيّ قد جفتا.. جاءتني عزيزة رحمة ب"الحلوى د كيكس"، وبكعكة أعدّتها من أجلي، وببضع حاجيات تخصني أحضرتها من الشقة.. بل زادت على ذلك أن أدخلت يدها في القفة وأخرجت آخر شيء أتوقعه: قطتي.. كانت آثار عناية عزيزة رحمة قد بدت عليها.. تحتكّ القطة بي وكأنها تعلم كل شيء.. أحادثها أنا: - هيه.. لا تقلقي يا حلوة.. صديقك تعوّد على كل شيء.. أعرف أن الحياة ليست مطعما يحاول أن يرضي زبائنه.. الحياة هكذا، كلها مفاجآت.. ترضيك مرّة وتحزنك مرّات.. هو المحك والاختبار فلأكونن الرجل الذي يتحمّله أو فلأذهب لأزغرد في الأعراس.. - الله يرزقك الصبر آ وليدي.. تقولها عزيزة رحمة معلقة فأؤمّن سرا. - أرى أن كسر ساقها قد بدأ يشفى.. - لقد قمت بعلاجه ببعض الأعشاب.. اللئيمة.. بالكاد أستطيع أن أمسكها لأصنع لها تلك الجبيرة التي ترى.. كما أنني أريد أن أشكوها لك.. لقد أكلت لي مرّة ربع كيلو كفتة.. أرأيت؟ كنت سأؤدبها لكنني تراجعت من أجلك.. لم أتمالك نفسي وأنا أقهقه حتى دمعت عيناي.. إنه أرذل العمر يا معاذ.. عندما يصبح المرء طفلا مجدّدا.. طفل قادر على أن يشعرك بالعطف والحماية رغم كل شيء.. - لكن، كيف استطعت أن تعبري بكل هذا يا عزيزة رغم المراقبة المشددة... - واش سحابلك عزيزاك رحمة ساهلة أولا؟! - حاشا لله.. من يستطيع قول هذا؟! أنت قادرة على العبور بفيل ٍ إن أردت... عزيزي معاذ، أعذرني لأنني أشغلك بكل هذه التفاصيل، لكنك أشعر أنك جالس بقربي فأسترسل وكأنني أحادثك. المهم أن المحامي وعدني أنه سيبذل كل جهده كي تكون الأمور على ما يرام.. وكيف قد تكون الأمور على ما يرام؟ لم أشأ أن أسأله في الحقيقة.. قال لي إن لدينا بضع نقاط لصالحنا: مثلا، أن اللوحة بقيت في الحقيبة خمسة أيام، وهذا غير معقول لمن يريد تهريب لوحة! أكيدٌ أنه سيسلمها لصاحبها بمجرد الوصول إلى بلجيكا.. أيضا، تأكيدي في كل التحقيقات، سواءٌ تلك التي أجراها معي البوليس الدولي ( الإنتربول) في بلجيكا، أو الشرطة هنا، أنني لا أعرف أحدا من العصابة التي سرقت اللوحة.. يستحيل أن أعترف بشيء لا أعرف عنه شيئا أصلا.. وبالتالي سيّد الأدلة يقف هنا معي وليس ضدي.. بل إن المحامي تمادى في تفاؤله وحماسه وقال لي أنه سيضيف مقالاتي عن طنجة كدليل للاستئناس.. تبقى النقطة الوحيدة السوداء المسجلة ضدي هي زيارتي لصديقنا المهدي في المتحف (والذي طرد منه بالمناسبة)، والتي اعتبروها أجمل تطبيق لدرس القانون الذي تعلّموه والذي يقول "المجرم يحوم حول مكان جريمته".. طبعا، هناك الدليل القوي الملموس، اللوحة التي في الحقيبة.. وهو ما يجتهد المحامي لإثبات أنه قد تم دسّها لي دون علمي.. متى وأين؟ أنا نفسي لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال في الوقت الحالي.. عزيزي معاذ، أشكرك جزيلا لوقوفك إلى جانبي في أثناء التحقيق معي هناك.. لقد كنت الأنيس والرفيق الوحيد بزياراتك التي كان من الممكن أن تدخلك معي في دوامة التحقيقات.. لكنك، كدْيدن كل الأصدقاء الانتحاريين، أبيت إلا الوقوف إلى جانبي.. على أية حال، كان هذا في مصلحتك، فقد استطعت أن أسلمك شوكولاطة "ماروخا" رغم تعنت الشرطة في عدم تسليمي حاجياتي إلا بعد عناء.. كيف وجدتها؟ لذيذة ممتعة كالعادة؟ بالصحة والعافية.. تسألني عن أجواء السجن؟ يقول الصوفية أن هناك الدنيا وهناك الآخرة...وهناك السجن.. ذلك العالم الثالث الذي لا يلجه الجميع.. وياليت شعري لو تعلم كم هم صادقون.. سأجيبك بالتفصيل في رسالة قادمة بعد أن تعلمني أنت أيضا بجديدك.. مودتي لك.. صديقك الذي يعزّك: خالد طنجة – سجن سات فيلاج لقراءة الفصل السابق: مفاجأة صاعقة في انتظار خالد ! *روائي مغربي | [email protected]