إن التوترات الجارية والاحتجاجات المتنامية في العديد من المناطق والجهات تحمل معها خطابات قديمة/ جديدة، وجدت في هذه التحولات فرص التعبير عن احتياجاتها ورغباتها المادية والمعنوية الظاهرة والمضمرة على حد سواء، احتياجات تراكمت طيلة عقود من الزمن، تفجرت في صيغ متعددة ومتنوعة، عكستها طبيعة الشعارات التي صدحت بها حناجر آلاف المواطنين على مدار أشهر في أكثر من مدينة وقرية ومدشر...،فأي معادلة هاته التي اجتمعت فيها كافة العناصر التي وحدت أهل البادية وأهل المدينة في ربوع الوطن، والخروج إلى الفضاءات العمومية تعبيرا عن تذمرها العارم من حالة الظلم والحيف والإقصاء والتهميش الممزوج بإحساس من الغبن الذي لم يشأ أن ينجلي بعد عقود من الزمن...؟ إنها حالة من الاحتقان تتخطى حدود منطقة الريف لتعم مختلف مناطق المغرب وإن بنسب متفاوتة، اختلاف في الدرجة وتماثل في النوع.. إنها حالة من السيولة وانفجار في التعبيرات الرافضة لواقع القهر والحيف والظلم المعبر عنه بكل الكلمات في كافة قواميس لغات العالم.. إنها حالة من المعاناة لمدة طال أمدها، تكاد تفضي إلى انفجار اجتماعي يؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة والمجتمع معا. إنها معضلة ثلاثية الأبعاد، أعتقد أنها تفسر وتقف وراء واقع الحال الماثل أمامنا والمنذر بالأسوأ: الاحتكار/الإقصاء السياسي إذا كانت إحدى شروط بناء هوية وطنية، هو وجود بيئة ديمقراطية ومؤسسية تتيح لمكونات المجتمع الحق التمثيلي والمشاركة في المجال العام، خاصة أنه من الصعب في ظل الأنظمة الاستبدادية أن تنشأ مجتمعات متماسكة لديها القدرة على استيعاب الآخر، وتكريس المواطنة التي تقوم بالأساس علىى الحقوق المتساوية بين المواطنين بغض النظر عن طبيعة انتماءاتهم، فإن الطبيعة اللاديمقراطية للنظام السياسي قد أسهمت في نشوء معضلة الهوية الوطنية، بسبب سيادة حالة من الاحتكار السياسي القائم على أساس الاستفراد بالحكم، مع ما يعنيه ذلك من إقصاء وتهميش وتغييب لباقي المكونات المجتمعية، وبالتالي غياب التمثيل الشامل، وقد يترجم عادة هذا الغياب بشكلين- صورتين أساسيتين: ديكتاتورية تشمل الأمة بأسرها، أو ديكتاتورية فئوية تستبعد جماعات محددة بسبب طابعها الإثني أو الديني أو الجهوي أو القبلي. وإزاء مثل هكذا نموذج حكم نكون أمام نظام سلطوي احتكاري تنتفي فيه مقومات أية ممارسة سياسية حقيقة، يعترف فيها للأفراد والجماعات بالتعبير الحر عن اختياراتها، وتحفظ فيها إرادتهم من كل عبث أو تزوير، نظام تنتفي فيه التعددية السياسية الحقيقية ومختلف آليات الوساطة الحقيقية، ويستعاظ عنها باليات فاقدة لكل مشروعية ومصداقية..، ولاشك أن غياب إقرار التعددية الحقيقية التي تعترف بجميع مكونات المجتمع، يؤدي إلى بروز الخصوصيات الضيقة وتغذية أسباب التوتر والتعصب التي تظل كامنة إلى أن تتهيأ الظروف وتطفو على السطح، وهو ما تجلى بشكل واضح في الاحتجاجات الحالية التي تنذر بمزيد من التوسع والانتشار.. الاحتكار/الإقصاء الاقتصادي الشكل الاقتصادي الغالب في الدولة يقوم على أساس تدخل الدولة، وهي المالك الحصري للأصول الاقتصادية، من هنا غياب فصل الثروة عن الدولة، مما أدى إلى دمج السياسة في الاقتصاد، وبسبب الاحتكار الاقتصادي والسياسي أصبحت السلطات متمركزة في يد نخبة ضيقة، والثروات الأساسية الخاضعة لهيمنة الدولة تتوزع على الأسر الحاكمة والمنتمين إلى نظامها القرابي، وبالنتيجة استشرت ظاهرة ثراء الأسر الحاكمة والعائلات المحظوظة وظاهرة الوراثة السياسية، وانتفاع مناطق وجماعات إثنية أو عرقية أو جهوية على حساب جماعات أخرى. واقتران الاحتكار السياسي بالاحتكار الاقتصادي، يولد في المحصلة النهائية اختلالات بنيوية، وتفاوتا في توزيع الموارد بين المناطق وأقاليم الدولة الواحدة حيث تسود تباينات وفوارق اقتصادية وتنموية صارخة، إضافة إلى غياب عدالة توزيع الموارد بين الطبقات الاجتماعية، بل أيضا بين الجماعات الجزئية الإثنية والعرقية والجهوية والتي تشكل خطرا أشد من سابقيه، بالنظر إلى أن الفوارق الاقتصادية بين الإثنيات والمناطق والجماعات العرقية أخطر من الفوارق بين الطبقات، لأن هذه الأخيرة تولد احتجاجات وتمردات اجتماعية على النخب الحاكمة، أما الأخرى فتولد تمزقات وتمردات على الدولة كجماعة وطنية وصولا إلى تنامي النزوعات الانفصالية. لقد أضحى المغرب في المحصلة النهائية دولة_بضم الدال_ بين الأغنياء، والفتات لغالبية الشعب، ولسان حال الشعب يقول، في عموم الوطن وليس في الريف فقط: شركاء في الوطن شركاء في الثروة، كفى من النهب كفى من الاستغلال كفى من الفساد.. الاحتكار/الاقصاء الثقافي فضلا عن معضلتي الاحتكار الاقتصادي والسياسي اللذان عانيا منه الشعب المغربي، ثمة معضلة ثالثة، والمتمثلة في سيادة حالة من الاحتكار الثقافي، والقائم على أساس هيمنة الثقافة المتغلبة والحاكمة، في مقابل شيوع ثقافة سياسية إقصائية في مواجهة كافة التعبيرات الثقافية الأخرى. وأصبح الشعب تحت رحمة فرض رواية واحدة على المجتمع والجماعة الوطنية، وإنكار الاختلافات الثقافية والخصوصيات الهوياتية، ولاشك أنه إزاء مثل هكذا وضع، والقائم على أساس سطوة الثقافة والهوية المركزية المملاة من طرف الدولة التسلطية التي لاتترك للثقافات الأخرى أي هامش آخر للتعبير عن ذاتها وعن اختلافها سوى النكوص والعودة إلى أصولها العتيقة، والعودة إلى ما يشكل ذاتيتها الدفينة. فمن المعلوم أنه عندما تتعرض ثقافة ما لاهتزازات، مهما كان مصدرها، أو إلى إرادة للقوة تستهدف الاعتداء على مقوماتها واحتقار رموزها وصورها، تجد هذه الثقافة نفسها مضطرة للعودة إلى الأسس العميقة المكونة لها، والرجوع إلى العلامات الأكثر تعبيرا عن هويتها وتميزها، وفي هذه الحالة يتفجر رد فعل لا عقلاني ضد الظلم وإرادة الإلغاء. ولعل هذا ما جعل الانتفاضات وحركات الاحتجاج التي شهدتها دول عربية تحمل معها مطالب من طبيعة هوياتية باسم لغة، أو عقيدة، أو مذهب، أو طائفة وحتى قبيلة، بحكم أن بنى الاستبداد أخضعت باقي المكونات الثقافية لواقع قهري يلغي فيه كل تعبير مغاير للخطاب السائد. من هنا فالاعتراف بالتنوع الثقافي وحق ممارسة هذا الاختلاف بشكل علني ليس أمرا قابلا للمفاوضة أو الإرجاء، مع ما يستلزم ذلك،طبعا، من اليات إدارة هذا التنوع الثقافي في إطار إرادة العيش المشترك، والتي تقتضي تدبيرا ديمقراطيا حقيقيا يحفظ لحمة المجتمع، لأن التنوع الثقافي بقدر ما يمكن الاعتراف به باعتباره وسيلة لتعزيز العيش المشترك والهوية الوطنية الجامعة، يمكن بالمقابل أن يكون عامل تفجير للسلم المدني إذا لم يعالج في إطار ديمقراطي حقيقي يقر بكل الحقوق الاقتصادية،الاجتماعية، السياسية والثقافية. إن دينامية الاحتجاجات المتنامية من شأنها انعاش وتغذية الولاءات الأولية –القبلية والطائفية والعرقية والدينية والجهوية، فضلا عن الانشطارات الايديولوجية والسياسية، لأن ذلك يعني استشراء كل أنواع اللاتجانس الحديثة القائمة على اللغة أو الدين أو العرق وإذكاء كل أنواع اللاتجانس التقليدية، أي ماقبل الحديثة، بما فيها الانقسامات الدينية والمذهبية والقبلية.. إن الوضع عصيب وينذر بمفاقمة مشكلات لا قبل لنا بمواجهتها، إن خطر التشظي والانشطار المجتمعي أفقيا وعموديا يكاد يطل علينا من كل جانب، ويكفي الاطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي للوقوف على حالة الاحتراب والتشنجات السائدة في لغة الخطاب والتعبير عن الآراء والمواقف التي تمتح من معين قاموس التناحر والعصبيات المقيتة... وتأسيسا على ماسبق، أعتقد أن الدولة المغربية تواجه في هذه المرحلة بالذات_ كما سبق لي أن أشرت في المقال السابق_ تحدي ثلاثي الأبعاد، والمتمثل في إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، وتأسيس الديمقراطية، وترسيخ مبدأ المواطنة، مع ما يعنيه ذلك من قطيعة مع عقلية الاستفراد بالحكم والثروة المادية واللامادية، والقطع مع الفساد، فلا مجال للحديث عن ديمقراطية حقيقية إلا في إطار دولة وطنية تحظى بالشرعية، وتستوعب تعدديتها المجتمعية ضمن أطر دستورية وسياسية وقانونية يقبلها الجميع، وإذا كانت هذه المأمورية من مسؤولية الجميع فمما لا شك فيه أن هذا الأمر يتوقف في جانب كبير منه، في مثل هذه المراحل العصيبة، على مهارة وحكمة النخب الوطنية الصادقة والغيورة على مصلحة البلد، التي توجد في دوائر القرب من مراكز اتخاذ القرار أو المساهمة في اتخاذ القرارات المصيرية التي قد ترهن واقع ومستقبل البلاد والعباد.. الحاجة ماسة إلى رجالات دولة حكماء يترفعون على صغائر الأمور، قادرين على الدفع في اتجاه بناء توافق وطني يحتضن الجميع ويشمل مختلف القوى السياسية والاجتماعية وكافة التعبيرات الثقافية، إنه الأمر الكفيل بحماية لحمة المجتمع والدولة معا، وغير ذلك فإنه الانتحار الجماعي عن سابق إصرار وترصد. *أستاذ العلوم السياسية