في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الثالثة وحين دقت ساعة الخروج، وجدت والدي عند الباب. ابتلعت يده يدي ومشى إلى جانبي ما شاء الله، قبل أن يرفعني إلى ساعده ويمعن النظر في عيني: - أنت طبيب.. فهمت؟.. طبيب يعني طبيب.. فهمت!؟ لكنني لم أفهم.. فما أن شببت عن الطوق حتى صار الطب أبعد المهن عن قلبي، إلى جانب لائحة طويلة من المهن، على أنني جربت أن أصير طبيبا بيطريا أو مهندسا فلاحيا، واتخذت لذلك سبيل الدراسة. وتلك حكاية أخرى لم يحن أوانها بعد. في وقت القيلولة، كان طقسُ والدي اليومي أن يغفو لحظات يقوم بعدها إلى عمله. وكم كان يحلو لي أن أتسلل إلى حضنه، كأنني لص صغير يعُبُّ جرعات عطف، على عجل، ثم يعود إلى مشاغباته اليومية. كان الصبي الصغير يفرِد يدي والده النائم ثم يكتب عليهما بإبهامه. ولا أعرف، على وجه الدقة، ما الذي كنت أكتبه، لكن هذه العادة تضخمت عندي حتى صرت أرسم الحروف في الهواء وأكتب الكلمات والجمل الطويلة في الفراغ. ومن عجبٍ أن هذه العادة لم تفارقني إلى يوم الناس هذا، فكثيرا ما أرسم في الفراغ كلمات مفتاحية أحب أن تقرّ في ذاكرتي. ولعل بدايات ولعي بالكتابة تعود إلى هذه السن المبكرة. وقد علمني والدي، دون أن يدري، عشق الكلمة والنغمة وفتح عيني على عوالم الإبداع. وكانت أداته في ذلك: المذياع. في السادسة صباحا، يضج البيت بالراديو يملأُ الأرجاء بالأغاني الصباحية. وساعةُ الاستيقاظ لا تتغير ولا تتبدل، فهي السادسة صباحا في كل أيام الأسبوع، عدا يوم الأحد. وقد كنت أحب هذا اليوم، ليس لأنه يوم عطلة، ولكن لأنني أٌقوم متأخرا، فأسمع والديّ يتحدثان حديثا أقرب إلى الهمس، وأنا بين النوم واليقظة، ويطمئن خاطري إلى أنّ صباحا جديدا أطل وأنا في الكنف الآمن بين اليدين الكريمتين. ثم عشقت الإذاعة وصار جهاز الراديو رفيق يومي، لاسيما في العطل الصيفية. وكنت أسجل صوتي على الكاسيط ثم أضيف إليه أغان مسجلة من الراديو، على الطريقة المعروفة في آلات التسجيل القديمة، وكأني أقدم برنامجا إذاعيا. ولَكَم كنت أحلم أن أٌساهم في تقديم برنامج أطفال كان يبث على الإذاعة الوطنية آنذاك. غير أن حلمي لم يتحقق في حينه. حتى وجدتني -بعد عقدين من الزمن-أنتج برامج إذاعية وأقدمها، دون أن تغيب عن عيني صورة الصبي الصغير وهو يضغط على الزر الأحمر ليقول بصوته الطفولي: أعزائي الأطفال، صباحكم سعيد.. ولله في خلقه شؤون. لكن قوة الشغف تصنع المستحيل. وقد ظل أبي لسنوات طويلة يرافقني إلى المدرسة، في الذهاب كما في الإياب، لم يتخلف عني أبدا ولم يحل بينه وبين انتظاري عند باب المدرسة حائل. كان يخاف أن يتدافع التلاميذ، عند الباب، فأسقط تحت أرجلهم. وهو هاجس بعيد التحقق، كما يبدو، لكن عاطفته المتقدة ما كانت لتدعه يعيش في سلام دون أن تزرع المخاوف في تربة قلبه الحزين. وقد كان لهذا الزرع، الذي يُسقى بدفق العاطفة، أن يستغلظ ويستوي على سوقه، لكن الزمن كان كفيلا بأن يجعل من الأمر المستعظم في بداياته قدرا لا بد من التأقلم معه. وهنا، فعلت الأيام فعلتها، على الرغم من بقايا الألم والإحساس بالذنب القابعة في غياهب اللاوعي. وذلك شأن الحياة.. إنها تستمر، برغم كل شيء. ولعل نباهتي المبكرة يسرت لي الكثير من مصاعب الحياة، فقد كنت تلميذا نجيبا في جميع مراحل دراستي. وكنت، في المجمل ودون حاجة إلى التفصيل، محبوبا في الوسط المدرسي. لكني لا أنسى يوم نادتني معلمتي، في فترة الاستراحة، وكانت تجلس إلى معلمة أخرى، تشبه بروفايل الشخصيات الكرتونية الشريرة، فيما تصور لي مخيلتي الآن. - ما اسمك؟ - أنا..؟ - خْيالك.. ! ثم دوّت صفعة على خدي الأيمن. سامح الله تلك المرأة، فقد شعرت – ساعتها – بظلم شديد وقع علي. وانطلقت إلى مكان بعيد عن التلاميذ ثم شرقت بالبكاء حتى كان صدري يرتج كأنه المرجل على النار!