في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الأولى لا أذكر من ملامح منزلي الأول سوى أنه كان دارا عتيقة فسيحة الأرجاء، تفضي إلى حديقة خلفية حيث انتصبت شجرة كرم وارفة الظلال. في هذا البيت، صرخت صرخة الحياة الأولى. وتحت تلك الشجرة، قضيت أيام براءتي الأولى ألهو بثمر التين، ولا أعرف من دنيا الناس سوى هذه الشجرة الظليلة وهذا التراب المبلل وتلك الجدران والأبواب. كنت أدب على التراب مبتهجا بدمى أصنعها من الأعواد المتساقطة على الأرض، ألعب بها وعيون الوالدين تراقبني من بعيد فرِحة بشغبي الطفولي. ولئن غابت عني تفاصيل كثيرة عن طفولتي الأولى بحي الحرية في تاوريرت، مدينتي الصغيرة، فقد علقت بالذاكرة صور غامضة عن الحديقة الخلفية وباحة البيت وعن والدي وإخوتي. في أذني، لا تزال ترن وصية أبي: "لا تضع التين في فمك قبل أوان نضوجه". كان يخشى أن يؤذيني حليب التين، وينهرني في كل من مرة أن تمتد يدي إلى الثمر المتساقط. حريصا ظل والدي أن تعتل صحتي لأي سبب من الأسباب. ولعل عاطفته المتقدة كانت صادقة إلى أبعد الحدود، فقد ألم بي مرض مفاجئ أحال بهجة الأنس بالصبي الصغير حزنا أليما دام أعواما طويلة. رقد الصبي الصغير على فراش المرض ما شاء الله أن يرقد. وذهبت كل محاولات التطبيب أدراج الرياح. كانت الحمى تنهش اللحم والعظم، والأم الشفيقة تراقب في حزن جسد الصبي المتداعي. ماذا يفعل رجل عطوف، يقطر رقة وعذوبة، إزاء هذه البلية التي لم تخطر له على بال؟ وكيف السبيل، يا مولاي، إلى أن يستعيد هذا الولد عافيته ويقوم من فراشه يجمع الأعواد المتساقطة كما عهدناه يفعل في أماسي تاوريرت الجميلة؟ قدر الله وما شاء فعل ! ولقد سمعت والدتي تدعو في ليالي الحزن الطويلة: "اللهم اجعل في قضائك اللطف". وكان من ألطاف الله البهية أن ورثت من أبي عاطفته المتقدة وحساسيته المفرطة وسلامة قلبه من أمراض الحسد والحقد والضغينة. وتلك نعمة أحمد الله عليها وأحدث الناس بها. وقد كان أبي يجهد نفسه، كأي رجل شرقي، كي لا يتسرب من مكنون العواطف ظل عاطفة بادية، لكن الأيام كشافة وليالي الألم أفضت بالمكنون وما انطوت عليه الجوانح في لحظات ضعف إنسانية عابرة. حول السرير الصغير، تحلق أهلي ينظرون إلى الجسد المتهالك يتصبب عرقا. وبين الفينة والأخرى، كانت الأم تمد يديها تحمل الصبي كأنها تعانقه. ولكن هيهات، فقد همدت الأطراف وصار جسدي أشبه بجثة هامدة. ماذا يحدث، يا إلهي؟ هل سيموت ولدي ولما يبلغ الخامسة من عمره بعد؟ كادت العقول أن تطيش ثم فكرت، بعد الصدمة الأولى، أن تبدأ رحلة الاستشفاء المضنية. كانت، بالفعل، مضنية وقاسية تلك الرحلة التي شاء الله أن أٌقطعها محمولا بين الأيادي وعلى الأكتاف. وعلى شاشة مخيلتي، تتراءى لي، اليوم، ظلال الذكرى موغلة في السواد. سوداء حقا !.. لكن ألطاف الله ترصدتني، في ذلك اليوم، تحت شجرة الكرم وأعادت إلي نفسا من حياة. كانت الشمس تطل على الحديقة، في استحياء، كأنها تخشى أن تهجم بخيوطها النارية على الصبي النائم بين يدي أمه. وعلى كرسيه الأثير، جلس الأب يحجب بيديه شعاع الشمس المتسلل من خلل الأغصان أن يصيب عيني ولده الصغير. يحتال على نفسه الأبُ الشفيق ! يتطهر من ذنب لم تقترفه يداه. وتعرض مخيلته الصور الماضية لعله يعثر فيها على لحظة غفلت فيها عيناه عني: كيف تسللت هذه "الجرثومة" إلى جسده؟ هل التقط حبات التين من الأرض دون أن أراه؟ أم تراه جني تلبس بجسده يوم قطعت به تلك الشعاب على مشارف بلدتنا؟ الله وحده يعلم. لكن سيل الأسئلة يحفر في قلبه أخاديد بحجم المأساة. لم يكن أمامه من خيار سوى أن يتوسد عتبة الصبر تحت ميازيب القدر الهادرة. كان يدعو في خاطره فتختلط عليه الأدعية ويهجم السيل، لا يريد أن يتوقف.. انقطع حبل أفكاره فجأة، وسرت في أوصاله رعشة باردة تبدت في يديه المرتجفتين. - يا رب ! هل حرك يديه؟! - ورجله اليسرى أيضا! - ماذا قال الطبيب؟ أحدس أنهما ما كانا ليذكرا ما قال الطبيب، مثلما لا أعرف، أنا اليوم بعد أزيد من ثلاثين عاما، شيئا ذا بال عن دواعي مرضي وأسبابه. تخطفتني يدي والدي وشرع يتحسس جلدي ويقرصني في أنحاء جسدي لعلي أصرخ. وقد صرخت وانهمرت دموعي من شدة الألم. الجسد الهامد أحياه الله من موات. فُكّ الإسار عن الجسد السجين في هموده، وبدا أن هذه الصرخة إيذان بحياة جديدة بعد صرخة الحياة الأولى. وضعتني أمي على الأرض، وقلما كانت تفعل، فقمت أدب على التراب - كشأني في الأيام الخوالي – لكن رجلي اليمنى كانت تتدلى من خلفي كأنها عظم يابس لا حياة فيه!