نحو إعادة ترتيب النسقين الديني و السياسي للحيلولة دون تقديس المدنس وتدنيس المقدس.. تداخل أو جدلية الديني و السياسي في فكرنا الإسلامي علامة فارقة و ملازمة له في الأطوار الأولى لتشكله و تبلوره، فأكثر جداليات المتكلمين و الفلاسفة و الفقهاء و المحدثين كانت تثار بأسلوب ديني، و تخوض في مواضيع ذات طابع تيولوجي، لكنها كانت تخفي خلفياتها السياسية، من هنا جدليتها العميقة، كمسائل القضاء و القدر مثلا التي أثارها مفكرو القدرية المتنورون ضد سلاطين بني أمية و من والاهم من علماء بلاطهم، و حكم "صاحب الكبيرة" التي فرخت لنا مذهبا عقلانيا سمي ب "المعتزلة" لاعتزاله للفتن و انكبابه على العلم و العبادة، و اعتباره لصاحب الكبيرة في "منزلة بين المنزلتين"، لكنه للاسف سيجني على نفسه بانخراطه في قضايا سياسية ستفقده شرعيته العلمية كما اعتقد خصومه، و إن كان المذهب المعتزلي كما يستشف الباحث في ثنايا تاريخ الفكر الإسلامي حُمّل أوزارا لم يكن له يدا فيه، فمسألة خلق القرآن جعل منها خلفاء بني العباس قضية أساسية لتصفية حسابات سياسية مع أهل الحديث، و أعتقد من خلال قراءات متعددة في آراء مختلفة لكبار المعتزلة أنهم كانوا ضد تقتيل و تعذيب علماء أهل الحديث، بل إن التعارض بين موقف الدولة الممثل في رأي المأمون، و موقف جمهور المعتزلة يبدو واضحا جدا، فالمأمون جعل مسألة "خلق القرآن" من قضايا التوحيد، أما المعتزلة فقد جعلوها من مسائل العدل، و معلوم عند المهتم بالفكر الإسلامي أصول المعتزلة الخمسة، و تسميتهم ب "أهل العدل والتوحيد" نابع عن إيمانهم العميق و تشبثهم بأصولهم التي اتخذت ركيزة لبناء أنساقهم الفكرية التي اتسمت بعقلانية كبيرة و تناسق منطقي. إن الكثير من الخطابات الدينية و الجدالات القديمة التي جرت بين المتكلمين لا يمكن فهمها إلا ببيان معقوليتها السياسية، فالسياسة كانت تمارس من خلال خطاب ديني، إذ أن الخطاب السياسي كبنية مفاهيمية لم تكن معالمه قد اتضحت بعد، إن لفكرنا الإسلامي وجهان، وجه ظاهر أو بنية فوقية و هو ذلك الخطاب المتداول عامة في الكتب، الذي يتخذ عادة طابعا تيولوجيا، و وجه خفي أو بنية تحتية، تتعلق بالأغراض السياسية من توظيف خطاب ديني معين، وهذه الأخيرة كانت من "المسكوت عنها"، قابعة في اللاشعور لا تفضحها إلا فلتات القلم الشاردة.. إنها فعلا أزمة سيمانطيقية تتطلب منا نحن أبناء القرن الواحد و العشرين الذين نحلم باللحق بالركب أن نسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقة و نحول "المبني للمجهول" إلى "المبني للمعلوم"، فالمباشر في صناعة الفكر الإسلامي لم يذكر. إذا فإن من أعقد الإشكالات التي يواجهها مؤرخ الفكر هي محاولة تقديم تفاسير شافية عقلانية للقضايا الفكرية التي كانت متداولة في الماضي، تفاسير تجعل فكرنا الإسلامي ينبض بالحياة، و تزرع فيه روح التجدد، فبناء دعامة متينة لحاضرنا تمكننا من استبيان معالم طريق المستقبل رهينة بفهم الماضي، خاصة و أن الماضي بمضامينه و خلافاته لا يزال حاضرا فينا و ينوب عنا في فهم كل إشكالاتنا المعاصرة. حروب الردة : خطاب ديني و مضمون سياسي.. عندما نتحدث عن ما سمي في بعض مصادرنا التارخية ب "حروب الردة"، لا بد أن ننتبه لقضية مهمة، و هي أن هذا المفهوم، أقصد مفهوم "حرب الردة"، لم يكن مفهوما مستساغا و مقبولا عند بعض المؤرخين، إذ أن عنونة الحدث تبدو غير نزيهة و لا تعبر عن الواقع الحاصل فعلا، و هذا يضر بالحقيقة العلمية لاشك، و هو كذلك مدخل للتلاعب بالتاريخ و العبث به، بل و الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالتاريخ يشكل مرجعية أساسية في فكر الإنسان، خاصة عند المسلمين حيث الصحابة يتمتعون بسلطة تشريعية متقدمة جدا داخل الأنساق الإسلامية، فرأيهم عند البعض أصل من أصول الاستدلال، من هنا فتاريخ مزيف من شأنه أن يشكل للإنسان وعيا زائفا محاطا بدوامة معقدة التشابك من الأوهام و المغالطات، من هنا ضرورة المراجعة الدائمة للتاريخ، فهذا الأخير لا يكتب مرة واحدة فقط، بل إن آفاق كتابة التاريخ تبدو أوسع كلما تراكمت المعرفة و استجدت المناهج التي تعنى بنقد النصوص التاريخية و تمحيصها. تبدأ الأسئلة بالتناسل بخصوص الموضوع كما قلنا، عندما نقف على العنوان الذي اتخذ لهذه الحروب، فالذين قاتلهم الصحابة لم ينكروا أصول الدين المشهورة -وحدانية الله، نبوة محمد، اليوم الآخر- حتى نحكم عليهم بالردة، و هذا بالضبط ما سيحذو بالبعض من باب "التخريجات" المعروفة في فكرنا الإسلامي القديم و المعاصر كذلك للقول بمجازية مصطلح "حروب الردة" تجاوزا للإشكالية، يقول ابن أبي الحديد "لم قلت : إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين؟ فإن المرتد من ينكر دين الإسلام، بعد أن قد تدين به، و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام، و إنما تأولوا و أخطأوا، لأنهم تأولوا قول الله تعالى : [خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم] فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا، و لم يبق بعد وفاة النبي من هو بهذه الصفة، فسقط عنا وجوب الزكاة. و ليس هذا في الردة من شيء، و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز، إعظاما لما قالوه و تأولوه". نحن إذا أمام شهادة مهمة لابن أبي الحديد، و هي مع ذلك لا تخلو من بعض الهنات. فهي شهادة قوية إذ أن المؤرخ يعترف بأننا لسنا أمام ردة القبائل العربية، بل أمام تأويل لآية كريمة، و معلوم عند أولئك الذين يقولون بقتل المرتد قاعدة أن التأويل من موانع التكفير، و ربما يقول البعض أن هذه القاعدة متأخرة إذ لم يعرفها الصحابة، و هذا الرأي مجانب للصواب، إذ كيف يُجعل ممن كان استقراء سيرتهم مصدرا للتشريع الإسلامي جهلة بقاعدة كهذه، هذا محال. و نقطة الضعف في هذه الشهادة ادعاء ابن أبي الحديد أن الصحابة سموا مانعي الزكاة بالمرتدين هكذا بإطلاق، و هذا ما لا نسلم به و لا نوافقه عليه، إن في هذا التعميم إخلال بالحقيقة التاريخية ، فكتب التاريخ و الأحاديث نقلت لنا حادثة النقاش الشهير بين عمر و أبي بكر، حيث اعترض عمر على قتال مانعي الزكاة، ففي صحيح البخاري أنه لما توفي الرسول (ص) و استخلف أبو بكر بعده و كفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : كيف تقاتل الناس و قد قال الرسول (ص) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو لا إله إلا الله فمن قالها عصم مني ماله و نفسه إلا بحقه" في عبارة عمر بن الخطاب إذا إقرار ضمني بتحفظه من شن حرب على هذه القبائل التي وصفت ب "المرتدة"، فليس أرى أن نعمم القول باتفاق الصحابة على قتال مانعي الزكاة، فهذا عمر بن الخطاب حز في نفسه شن هذه الحرب ثم تنازل لا عن اقتناع بل لأن سلطة أبي بكر الدينية هي التي حملته على ذلك، فعمر اعتقد أن الحق معه دون أن يحيط علما بالدليل، أما باقي الصحابة فلم تحفظ لنا كتب التاريخ آراءهم بشكل يسمح لنا بمعرفة موقفهم من هذه الحرب. تبدو رواية ابن أبي الحديد مع أهميتها و إقرارها بعدم ارتباط الحروب التي أعلنها أبو بكر ضد بعض القبائل العربية بما هو ديني ناقصة و فيها الكثير من التسطيح للموضوع، ذلك أن استقراء الأحداث التاريخية التي سبقت ما سمي ب "حروب الردة" تحيل على أن موجة التمرد قد بدأت في حياة الرسول محمد(ص) و ليس في خلافة أبي بكر. إنه سيظهر الكثير من المتنبئين في القبائل العربية الطامحين لتكوين كيانات سياسية مستقلة، و بالفعل سيعلن هؤلاء "الثوار" تمردهم و سيشقون عصا الطاعة على دولة المدينة، و مادامت هذه الأخيرة تشكلت على أساس من النبوة، فإن هؤلاء المتمردين سيزعمون أنهم أنبياء كذلك، إضفاء منهم للشرعية على دولتهم ، و هكذا تبدو من البداية أن خلفيات التمرد كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطموح لاستقلال القبائل سياسيا و اقتصاديا، بحيث تدفع ضريبة الزكاة لبيت مالها لا لبيت مال "المدينة"، نقرأ في بعض ما وصلنا من "قرآن" مسيلمة أنه قال : "يا ضفدع، نقي نقي، لا الشارب تمنعين و لا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض، و لكن قريشا قوم يعتدون"، و قال كذلك "منا نبي و منكم نبي"، فاقتسام النبوة أو الطموح إلى اقتسامها ليست لذات النبوة، بل إنها تخفي غاياتها الحقيقية التي من أجلها ادعى مسيلمة و غيره النبوة، إن اقتسامها نوع من التعبير عن الرغبة في اقتسام الأرض، و بالتالي الاستفادة من ثرواتها. هكذا بعد وفاة النبي محمد(ص)، ستتخلى زعامات هذه القبائل العربية عن ادعاء النبوة، إذ لن يكون هناك مبررا معقولا لادعائها مادامت النبوة التي كانت تقوم عليها دولة المدينة قد زالت بموت صاحبها عليه السلام، هكذا ستتغير استراتيجيات التنظير لتشكيل الدولة، أو بتعبير معاصر ستتغير "إيديولوجية" المتمردين العرب، في إطار مواجهة "الآخر" الذي يحول دون حريتها السياسية. ستحضر الوفود إلى المدينة بعد وفاة النبي (ص) لتقر بالبقاء على الإسلام، يعبدون الله و يوحدونه، و يؤمنون بنبوة محمد (ص)، يقيمون الصلاة، و يصومون ويحجون، أما الزكاة فسيؤدونها لبيت مالهم و يصرفونها على ذويهم، يقول النويري : "لما قبض الرسول ارتدت العرب كلها إلا قريشا و ثقيفا، و أتت وفود العرب إلى أبي بكر مرتدين يقرون بالصلاة و يمنعون الزكاة". تبدو عبارة النويري في منتهى التناقض من حيث مضمونها، و من جهة أخرى تشكل معول هدم لرأي القائلين بردة القبائل العربية، فهي الأخرى تقر بأداء القبائل للصلاة، ما يعني بقاؤها على دين الإسلام، أما الزكاة فكانت القبائل العربية ترى فيها حكما سياسيا لا علاقة له بالدين، أداؤها لجهة معينة يعني التعبير عن الوفاء السياسي لا أقل و لا أكثر، يقول أحد شعراء العرب المتمردين : أطعنا الرسول إذ كان بيننا*** فيا لعباد الله ما لأبي بكر أيورثها بكرا إذا مات بعدها *** وتلك لعمر الله قاصمة ظهر فهلا رددتم وفدنا بإجابة*** و هلا حبستم منه راعية بكر من هنا فمنع الزكاة قرار سياسي محض غير مرتبط بشعيرة من شعائر الإسلام الدينية، و حفاظا على الوحدة السياسية للدولة العربية الفتية سيخوض أبو بكر حروبا لإخماد نار الفتنة السياسية و إجهاض أي نزعة انفصالية أو انشقاق عن "الوحدة العربية". من هنا أعتقد أن الملابسات و الحيثيات التي رافقت "حروب الردة" تفرغ المفهوم من محتواه الديني و كلمة "الردة" لا تحجب عنا حقيقة الأسباب السياسية الثاوية وراء نشوب الحرب. الإجماع حول حكم الردة : نزاع نظري أصولي.. و تسرع فقهي ! يندرح مبحث الإجماع ضمن مباحث أصول الفقه، و المفهوم يشكل أحيانا حجر عثرة نحو الانعتاق من سلطة السلف، حيث أن مفهوم الإجماع يعني إمبريالية "السلفية" بما هي مجموعة أحكام تنتمي إلى بيئة و محيط سوسيوثقافي و سياسي و اقتصادي مختلف تماما عن وضعنا نحن، و مع ذلك يراد لها أن تنوب عنا في ممارسة حقنا في الاستنباط الفقهي بما يتوافق مع آفاقنا المستقبلية و تحدياتنا الوضعية، إنها تعني الحجر على الفكر و إقفال باب الاجتهاد و هجر التجديد الفقهي، و هذا سيؤدي لا محالة إلى تجميد عروق الدين الإسلامي و ركود مياهه، ما يعني انتهاء صلاحيته بحيث لا يصير "صالحا لكل زمان و مكان"، هذه هي النتيجة المنطقية للدعاوي السلفية التقليدية. من هنا سيعي علماء الأصول ما لمفهوم "الإجماع" من تأثير سلبي على وتيرة التجديد الفقهي، و ستنفجر جدالات بناءة و مهمة حول المفهوم، حيث ستثار الكثير من الأسئلة حول إمكانية قيام و انعقاد إجماع حقيقي، ثم هل يبقى "مفعول" هذا الإجماع ساريا ملزما للأجيال القادمة، و هل ينسخ حكم الإجماع، و غيرها من الأسئلة التي تنم عن عمق تفكير علماء الأصول و إدراكهم لحاجة المجتمعات الإسلامية للتجديد من منطلقات و أدوات إسلامية، حتى يظل حضور الدين الإسلامي الذي هو آخر الأديان التوحيدية دائما و متجددا من داخله. عادة، يتناول الأصولي في مبحث الإجماع نقاطا متعددة، من تعريف المفهوم إلى بيان أركانه و حجيته و كذا الأدلة على حجيته، ثم إمكانية انعقاده و غيرها من الأسئلة التي تثار حول المفهوم، أما نحن هنا فلسنا بصدد إنجاز موضوع واف عن المفهوم، لذا سنقصتر على التطرق باقتضاب لما يمكننا من التشكيك في إمكانية انعقاد إجماع حقيقي، و بالتالي خلق فضاء أوسع للاجتهاد و التجديد في الأصول و الفقه و الفكر الإسلامي ككل، فهذا سيساعد و لاشك على إماطة بعض معيقات انطلاق الفكر و تحرره و ضخ دماء جديدة في فكرنا و إغناء مباحثه، بمعني آخر أنه سيسهم في تجديد العقل الإسلامي نفسه كمجموعة من الثوابت تتشكل عبر سيرورة تاريخية، يعطي لها قيمة مطلقة في حقبة زمنية معينة. الإجماع في اصطلاح الأصوليين هو "اتفاق جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة الرسول على حكن شرعي في واقعة". إن التعريف يكشف بنفسه عن الصعوبات التي تحول بلا شك دون انعقاده، و أولها معيار تحديد المجتهد، فهذه المسألة تبدو مضببة غير واضحة، فليس ثمة مقياس يمكن من التمييز بين المجتهد و من هو دون مرتبة المجتهد، إذن معرفة المجتهدين من المقتصدين متعذرة. و حتى إن سلمنا جدلا بإمكانية تحديد مقدار العلم و الفقه الذي يخول لشخص ما بلوغ مرتبة المجتهد، إلا أنه من المتعذر علينا الوقوف على آراء جميع المجتهدين، و التعريف يشترط كما هو واضح "اتفاق جميع المجتهدين"، فلو اطلعنا على آراء أهل المدينة فقط أو أهل العراق دون باقي الدول فلن نكون أمام إجماع حقيقي، بل إن الأصوليين لم يروا في اتفاق الأكثرية و الأغلبية دليلا على الإجماع، و في هذا قال الإمام أحمد كما في "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم "و ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب. من ادعى الإجماع فهو كذاب. لعل الناس قد اختلفوا – ما يدريه – و لم ينتبه إليه. فليقل لا نعلم الناس اختلفوا" ، فلنحذر إذا من أن نوصم بالكذب من قبل إمام جليل تقي. و من باب الأمانة العلمية أن نذكر بتمييز بعض العلماء بين إجماع الصحابة و من بعدهم من الطبقات، فقد ذهب البعض إلى انعقاد الإجماع في عصر الصحابة، و إن كانت المسألة هي الأخرى خلافية، لكن مع فرض صحة هذا القول فلا يقوم الإجماع دليلا لمن يقول بوجوب قتل المرتد، أولا لأنه لم ترد فتاوى صريحة من جميع الصحابة في قتل المرتد، و معلوم أن "الإجماع السكوتي" لا ينهض دليلا قطعيا على حكم ما، ثم لابد من الإشارة إلى دليل عقلي آخر، و هو أن إجماع المفتين يعني أن ثمة مستندا استندوا عليه في إصدار الحكم، فإن كان هذا المستند دليلا قطعيا فلا حاجة لنا أصلا إلى الرجوع لدليل الإجماع، و إن كان ظنيا فسيكون مثار جدل و اختلاف، فالأدلة القائمة على أسس ظنية جدلية لا تؤدي أبدا إلى نتائج يقينية، بل لا بد أن يكون هناك تباين في المواقف، و بالتالي لن ينعقد إجماع. و بعيدا عن ما هو نظري، فليس هناك إجماع لدى الصحابة حول قتل المرتد، و دليلنا على ذلك ما روي عمن عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال : "بعثني أبو موسى بفتح تستر إلى عمر رضي الله عنه فسألني عمر و كان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام و لحقوا بالمشركين فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم [قلت : كأنه لم يطمئن لقتلهم !] فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت يا أمير المؤمنين قوم ارتدوا عن الإسلام و لحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل فقال عمر : لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء أو بيضاء قال قلت : يا أمير المؤمنين و ما كنت صانعا بهم لو أخذتهم؟ قال : كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه فإن فعلوا ذلك قبلت منهم و إلا استودعتهم السجن". فأين الإجماع على قتل المرتد؟ و هل يحق لنا بعد هذا التشبث بدليل أوهن من بيت العناكب؟ و قد أعرضت صفحا عن أقوال من جاء بعد الصحابة من التابعين الذين يرون أن المرتد يستتاب أبدا، نظرا لكون هذه الأقوال لآحاد العلماء لا يمكن أن تحسم في مثل هذه القضايا الشائكة، فالنقاش يظل قائما بلا نهاية، حيث يورد هذا قول عالم، و يرد عليه آخر بقول عالم آخر، و هذا السبيل في النقاش لا شك غير محبذ عند العقلاء إذ أنه أشبه بمن يسكب الماء في الرمل، فلا هو يحسم في الموضوع بل يزيد من المشاحنات و المشاجرات بين المجادلين. ختاما لابد و أننا لمسنا بأن حكم الردة يبرز أمام الباحث ظاهرة تداخل الديني و السياسي، إذ لا مسوغ له داخل الأنساق الإسلامية، فلا دليل من القرآن و لا السنة و لا الإجماع و لا حتى القياس لتطبيقه، يبقى إذا أنه حكم أملته "أصول" سياسية لا دينية، و هكذا يصير الدين مطية سهلة يمتطيها من شاء لتمرير قرارات و آراء سياسية، و بهذا فإن الدعوة إلى الفصل بين ما هو ديني و سياسي ليس يعني بالضرورة العلمانية، كما تفهم في الأوساط العامة على أنها تحريض ضد الدين، بل إنما هي دعوة لممارسة السياسة بخلفيات دينية، الدين هنا بما هو مجموعة قيم إنسانية لا تتعارض في شيء مع ما هو كوني، و كيف لدين رب الكون أن يختلف مع ما وضع من قوانين في الطبيعة الإنسانية، و ليس العكس أي تطبيق الدين بإصدار فتاوى بخلفيات سياسية، إنها مسألة إعادة ترتيب المكونين الديني و السياسي، بحيث يكون ما هو ديني سابق على ما هو سياسي، للحيلولة دون تدنيس المقدس و تقديس المدنس، هكذا نستطيع تخليص السياسة من دنسها الذي يطبعها، و الاحتفاظ للدين بقدسيته. ملحوظة : المقال تتمة لمقال سابق بعنوان : حرية الاعتقاد و مشكل حد الردة. مدونة الكاتب : www.adiltahiri.maktoobblog.com