اعتبرت "الديفا" اللفنانة اللبنانية جاهدة وهبة، ضمن حوار مع جريدة هسبريس، أن الشعر هو ملاذ الإنسان العربي وملجؤه من البلادة والتفاهة، وهو تعويذة ضد كلّ ما يحصل من همجية وقبح". وأفادت وهبة بأن الفن هو الجدار الأول والأخير أمام جميع أشكال الظلم والإرهاب، مبرزة أن الفن لم يتغير في عصر الاستهلاك السريع، وبأن هناك ثمة فن أصيل يوجد في كل العصور، وقد يتراجع، لكنه لا يموت". كيف يمكن للفنانة الكبيرة جاهدة وهبه أن تحدثنا عن بداياتها الأولى مع الموسيقى والغناء والقصيدة؟ البدايات ليست جميلة دائما ولا أسطورية أو على الأقل بدايتي.. فأنا لم أولد وفي فمي نوتة من ذهب.. كانت البداية بسيطة عدا ذلك الشغف الذي كان يتملكني تجاه الأصوات الحريرية والقصائد الشاهقة التي لازلت مريضة بها إلى اليوم.. ذلك الامتزاج الغريب والتزاوج العجيب بين الصوت والكلمة والموسيقى لطالما أرقني حتى إني أجدني لا أستطيع النوم كلما مثلا أغوتني قصيدة إلى أن أجد لها لحنها وموسيقاها.. أستطيع أن أقول إنها حالة نفسية ولربما صوفية خاصة يصعب الإفصاح عنها جيدا.. هكذا كانت البداية جميلة وبسيطة جدا مثل سماع أغنية فادو في آخر العمر .. أذكر أن والدي كان يأخذني إلى دروس الموسيقى وأنا صغيرة جدا، وأن مكافأتي على النجاح في المدرسة كانت آلة موسيقية، فرُحْت أكتشف مع كل واحدة منها ملكة مختبئة فيّ.. أذكر أيضا أني شاركت في أهم حفلات قام بها المعهد الموسيقي وما زالت أصداء التصفيقات العالية على أدائي تتردد في أرجاء روحي.. كما يعاودني دوما ذاك الخوف الكبير الذي كان ينتابني قبل صعودي إلى المسرح كل ليلة مع أول دور كبير لعبته منذ أول مسرحية شاركت فيها "صخرة طانيوس". والدي كان مولعا بسماع فريد الأطرش ووديع الصافي وعبد الوهاب، وكان سماعهم وغيرهم من العمالقة طقسا يوميا، تشرّبت طريقة أدائهم وتلاعبهم بالنغمة وهدهدتهم للحروف.. كما زرع فيّ حب الشعر.. حب إلقائه والتفنن في دغدغته. كما أستطيع أن أقول إن تنقلي بين المعاهد الموسيقية ودراساتي المتنوعة، خاصة في مجال المسرح، مكنناني من امتلاك أدواتي بشكل أفضل. لم تكن هناك عثرات بقدر ما هي تأنّ من قبلي؛ إذ كنت ولا زلت أدرس جيدا ما سأقدم وأغربله كثيرا.. وفي الحقيقة إني لم أجد شركة إنتاج قوية تدعمني، فكان أن اتّكلت على نفسي. لمن صوت جاهدة وهبه ولمن غناؤها؟ صوتي لله أولا ولجمهوري ثم لي، وأغني لنفسي بادئ ذي بدء، أتماهى مع ذاتي ومع ما أحب، وأتحد مع كينونتي وأهدي موهبتي التي حباني بها الله إلى قلوب الناس الظمأى. أحاول أن أبتهل صوتي، أذرفه، أعرف أني أقترن كلي مع هوائه، أحاول أن أغدقه شموسا ومرايا وغدا، أقلمه بمنديل يمسح الخطايا، أغمّسه بدمع الناس وهم في الانخطاف، أصرخه بمخاض الأمهات، أدججه بأوجاع احترفت الاختباء، أكون معه لا عليه وأكون فيه، في الناس، أكونهم، ألبس أوجاعهم، أورق على اسم احتمالات أحلامهم. عادة ما توصف أغانيك بالنخبوية.. ما الذي اضطرك لهذا الاختيار الفني الصعب؟ لا يمكنني أن أؤدي ما لا يقنعني، الجمهور لن يحترمني ولا التاريخ كذلك. ثم إن المسألة ليست اختيارا أو قرارا، إنها ببساطة محاولة التماهي مع نفسي ومع ما يشبهني وما تعلّمته وخبرته، ومع هويتي التي تنتمي إلى تراث عريق وأصيل. صحيح أنه لا يصل إلى كل الفئات لكن الذنب ليس ذنبي ولا ذنب الجمهور، إنه ذنب فئات أخرى عملت على تشويه المجال الفني كما شوّهت المجال السياسي والثقافي.. ومع ذلك أربّي الأمل على طريقة الكبير محمود درويش وأقول يا جاهدة اعملي جاهدة على إيصال هذا اللون إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور. كل من ينصت إليك يدرك مباشرة مدى حبك للشعر وللغة العربية.. هل لهذا علاقة باتجاهك الفني؟ الشعر ملاذنا وملجؤنا من البلادة والتفاهة، وهو تعويذتنا ضد كلّ ما يحصل حولنا من همجية وقبح، هو وقود الحلم، وأي قصيدة جميلة تحرّضني على غنائها وتستفزني لإعطائها بعدا موسيقيا بصوتي.. أي نص يبحث في المختلف وينفتح على الراقي يدغدغ ذائقتي، ومن عادتي – ولا أعرف إن كانت حميدة أو سيئة - أن أمرض بالقصائد الجميلة ولا أشفى منها إلا عندما أغنيها، لعلّ احساس المسؤولية بالنص يتولّد من شغف الفنان ومن حرصه على سبغ أبعاد جديدة للمفردات.. أعامل الّلغة كآخَر مرغوب ومحبوب ومشتهى كأنثى من نور ونار.. أحاول أن ألبِسها خاتم حواسّي مجتمعة .. أعاين تجارب الكبار .. وأتلمس مزاج المشهد الغنائي. أرى أنه ومن خلال الشعر والنصوص الشاهقة علينا أن نتغنى بالقضايا الكبرى التي تمسّ وجود الإنسان وإنسانيته، الجنون، العشق، الثورة، الزمن، الوطن، دمعة طفل. إننا بحاجة إلى طرح مثل هذه الأسئلة في الفن والأدب لنعيد التصالح مع هويتنا وذواتنا والنهوض من جديد بهذا العالم الذي تمعدنت ثقافته. ليس أجمل من أن تعبّر "أناي" الفنية عن الذات الجماعية.. وأن تكون الأغنيات منافٍ طازجة كالأوطان أن تهجس بالسلام وبالقمر ظلّا وارفاً لكل إنسان. جاهدة وهبه تغني بصحبة المطرب الكبير وديع الصافي لديك عدة ألبومات من بينها "شهد" و"شذرات من الوجد" و"كتبتني" و"أيها النسيان هبني قبلتك".. ما جديدك الآن سيدتي وما هو الألبوم أو الأغنية الأقرب إليك؟ إضافة إلى ما ذكرت لدي ألبومي البدايات "أنغام في البال" و"طقاطيق من العشرينات"، كما ألبومي الأخير "مزامير". بالعودة إلى سؤالك أجد الإجابة صعبة، وقد صارت كذلك بعد صدور 'شهد". لو كنت طرحته قبلا، كنت ربما سأحاول أن أتدبر لك إجابة محتملة. أما بعد "شهد"، فاعذرني لا يمكنني ذلك، لا أريد لأحدى أغنياتي أن تنزعج مني لا أستطيع أن أفاضل، كأنني أم أمام أبنائها.. زد على ذلك أن كل أغنية هي حالة شعورية وذاكرة لوحدها.. لدي مشاريع أعمال كثيرة، هناك ألبوم سيكون لأول مرة في أغلبه بالمحكية وأعتبره تجربة جديدة ومفاجئة لجمهوري.. كما أني أفكر أن أهدي ألبوما لتلك المدن بأبوابها المواربة .. تسكنني المدن التي فجعت بها خلال أسفاري وكان لها فضل كبير عليّ.. أجد أن ألبوما خاصا بها نوع من رد الجميل، أما الآن فشغلي الشاغل هو إصدار ألبوم الأسطورة إيديث بياف باللغة العربية. لديك أيضا تجربة رائدة في مجال الكتابة في كتابك "الأزرق والهدهد" الذي حاز المرتبة الأولى للمبيعات في المعرض الدولي للكتاب ببيروت.. هل يمكنك أن تحدثينا عن هذه التجربة سيدتي جاهدة وهبه؟ "الأزرق والهدهد".. إنها التجربة التي لا زلت مخطوفة بها، لا أعرف لماذا انتابتني الآن رغبة مفاجئة في البكاء، أنا حساسة جدا تجاه الكلمات ولعل هذا من الأسباب التي أخرت صدور جزئه الثاني. صحيح تصدر قائمة الكتب الأدبية الأكثر مبيعا سنة صدوره في بيروت وفي عدة معارض عربية لاحقا. وقد أفرحني كذلك خبر اعتماده ككتاب مدرسي في المرحلة الثانوية وترشيحه مرات عدة لنيل جوائز مهمة.. كما أسعدني تداوله بين أوساط الشباب وتناقل بعض جمله حتى إن فنانة تشكيلية من المغرب اعتمدت عليه في معرضها ودكاترة في الأدب الإلكتروني يوردونه دوما كمثال قيم في أبحاثهم. "الأزرق والهدهد" صكّ عشقي وذرفٌ عن الجوى والوجد، أقول ذرف لأنه ليس نثراً ولا شعرا، بل هو هطلٌ كالدّمع كذاك الانفعال الماطر الذي يأتينا في الفرح والحزن والخيبة والّلوعة في الرّوعة والدهشة تتبادل "مكاتيب الشّتي" هذه كما نقول بالعاميّة، شخصيتان تسبحان في العالم الافتراضي – عالم فيسبوك – حيث الواقع ملتبس ومتلبّس بالمجاز والمجاز مسربل بالواقع. تم اختيارك ضمن 2000 شخصية مثقفة لهذا القرن من جامعة كامبريدج.. ما هو شعورك بهذا التتويج الكبير؟ وهل سيلزمك بالعطاء أكثر وبذل المزيد من الجهد لأجل الأفضل؟ لا شك أن اعترافا أو تكريما يعطيك شعورا بالرضى والارتياح، وهذا هو خطره بالذات؛ إذ يصير مخادعا وربما دافعا" لتكاسل ما أو تباطؤ، ومن هنا لا يجب الاطمئنان إليه ولا التسليم به.. لكن الجميل في هذا الاحتفاء هو أنه يوم وصلني الخبر عبر مراسلتهم الرسمية لي من خلال نقابة الموسيقيين وبعدها عبر إيمايلي الخاص وإرسالهم الشهادة الموقعة من إدارة الجامعة بذلك، شعرت بأنه تم تشريف لبنان والعالم العربي من خلالي، وهو ما أشعرني بالرهبة و ألزمني بتوخي الحذر تجاه أعمالي المستقبلية مادامت صارت لها صفة العالمية، وإن كنت بطبيعتي لا أتسرع ولا أندفع في ما أختاره من أعمال، بل أدرسها بعناية وشاعرية.. وفترات الحمل بالأغنيات أو أي مشروع فني طويلة، فضلا عن مخاضاتها العسيرة، لكن الأكيد أنه كلما سمعت عن تقدير الآخرين المختصين أو حتى الناس العاديين والمستمعين وعن إعجابهم وشغفهم بعملي مثلا وعن أنني حاضرة في أيامهم وأن أغنياتي تكاد تكون الطرف الثالث في قصص عشقهم، أنسى الرهبة وضغط المسؤوليات وأشعر بالطيران وب"خفّة" الكائن التي تُحتمل وتحتمل كثيرا على غير ما ذهب إليه الكاتب الكبير كونديرا في روايته الشهيرة. غنيت للعديد من الشعراء الكبار من مختلف العصور والثقافات.. من كان الأقرب بقصائده إليك؟ محمود درويش. في نظرك سيدتي جاهدة وهبه هل مازالت للفن رسالة ومازال للفنان دور ثقافي في عصر الاستهلاك الذي نعيشه؟ أعتقد أن الفن هو التحدي الأكبر والرسالة الكبرى، وهو الجدار الأول والأخير أمام جميع أشكال الظلم والإرهاب. الفنان يجب أن يحمل صوته ويطلق أدواته وإبداعاته ليس للدفاع عن رسالته فقط، بل للدفاع عن العالم. مهمة الفنان هكذا أن يقاوم عصور القبح والملح.. الفن لم يتغير في عصر الاستهلاك السريع، الذي حدث هو أن هذا الأخير أنتج الفن الخاص به ويوم يموت سيموت معه، لكن ثمة فن أصيل يوجد في كل العصور. إنه ضمير الثقافة الحي ومعبر عن روح الأمم. قد يتراجع، لكنه لا يموت.